تأثرت حياة السوريين المعيشية في مناطق سيطرة نظام الأسد، جراء انهيار الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، وذلك مع فشل حكومة النظام في مختلف مؤسساتها الخدمية والتعليمية في تقديم الخدمات للأهالي وتدارك الفوضى التي ساهمت في التردي المعيشي الذي يظهر جليًا في مختلف جوانب الحياة اليومية التي يعيشها السوريون.
يترافق مع ذلك، انتشار واسع للفقر وارتفاع نسب البطالة وانخفاض أجور العمل ومصادر الدخل مقابل ارتفاع الأسعار الجنوني الذي تشهده الأسواق، التي تكون معظمها مسعرة بحسب الدولار باعتبارها ليست من الأصناف المدعومة من الحكومة كما تدعي.
وفي ظل تلك الأزمات المعيشية لم يعد للأهالي متنفس إلا وسائل التواصل الاجتماعي التي تظهر مدى تفكير الأهالي في لقمة عيشهم وحاجياتهم الأساسية من كهرباء وماء وخبز ومحروقات وغيرها الأمور التي يحتاجونها بشكل يومي، للبقاء على قيد الحياة.
وبحسب ما رصد “نون بوست” يبدو المشهد في تعليقات الناس على الأوضاع المعيشية بين متذمر وشاكر لجهود الحكومة خشية بطشها، مؤكدين أن سبب سوء الأوضاع المعيشية هم الفاسدون من المسؤولين دون المسبب الرئيسي.
لقمة صعبة المنال!
يشتكي السوريون تردي الأوضاع المعيشية، ويحاولون بشتى السبل توفير أدنى الاحتياجات الأساسية التي أصبح البعض منها جزءًا من الرفاهيات التي لم يعد بإمكانهم شرائها، لارتفاع أسعارها وعدم توافرها بشكل كبير داخل الأسواق، لا سيما أسطوانة الغاز والكهرباء التي باتت كحلم يراودهم بين فينة وأخرى.
“عبد الغفور” اسم مستعار لرجل أربعيني يقيم في أحياء مدينة حلب الشرقية ويعمل في المياومة، وبمعنى آخر يعمل بكل شيء قد يتوافر أمامه، يحاول هذا الرجل تأمين قوت يومه بصعوبة بالغة، يقول خلال حديثه لـ”نون بوست”: “الحصول على العمل أمر مرهق، وغالبًا ما يحصل على العمل المعروف بالمياومة أشخاص مقربون من أصحاب المشاريع والمصانع، لذلك أعمل بأي عمل قد يتوافر”.
ويضيف “يتراوح دخلي اليومي بين 3000 و5000 ليرة سورية، في حال كان يوم عمل جيد وهو ما يقدر بدولار ونصف الدولار، وهذا ليوم عمل واحد فقط قد يستمر وقد ينقطع، لكن الأجر لا يوفر لي جزءًا من احتياجات أسرتي المكونة من 7 أفراد، الأمر الذي دفعني إلى إرسال أبنائي للعمل أيضًا وأكبرهم لا يتجاوز الـ18 عامًا”.
تعتبر فرص العمل في حال توافرها سواء في القطاع العام أم الخاص، من عمال ومياومين وغيرهم أمرًا صعب الحصول عليه، وفي حال حصل رب الأسرة على العمل سيضطر غالبًا لإرسال أبنائه أيضًا للعمل من أجل توفير بعض الاحتياجات ومساندته في تدبر أمورهم المعيشية.
تعتمد معظم العائلات السورية على الحوالات المالية التي تصلهم من الخارج، في حين لا يتجاوز متوسط الحوالات وهي غير منتظمة 250 دولارًا أمريكيًا من أبنائهم اللاجئين في الخارج
ويوضح الرجل خلال حديثه لموقع “نون بوست” أنه منذ عام على الأقل لم يستطيع شراء كيلوغرام من اللحم لأن سعر الكيلوغرام يصل إلى 30 ألف ليرة سورية، أي أنه بحاجة إلى عمل لمدة ستة أيام بشكل متواصل من أجل توفير كيلوغرام واحد، وهو لا يمكنه أن يغطي جزءًا من حاجة أفراد أسرته.
الحوالات المالية تعين الأسر.. لكنها ليست للجميع
من جانبه رامي الدلال، وهو موظف في إحدى الدوائر الحكومية في مدينة حماة وسط البلاد، يقول خلال حديثه لـ”نون بوست” إنه يتقاضى مرتبًا شهريًا يصل إلى 75 ألف ليرة سورية، أي 23.5 دولار أمريكي، يحاول من خلاله تأمين جزء من بعض الحاجيات الرئيسية لأسرته، ويستعين بالحوالة المالية التي ينتظرها بفارغ الصبر التي يرسلها شقيقه الذي يقيم خارج البلاد، بشكل غير منتظم.
تعتمد معظم العائلات السورية على الحوالات المالية التي تصلهم من الخارج، في حين لا يتجاوز متوسط الحوالات وهي غير منتظمة 250 دولارًا أمريكيًا من أبنائهم اللاجئين في الخارج، وعلى الرغم من ذلك فإنها لا تصل بأسعار السوق السوداء التي يبلغ فيها سعر الدولار الواحد 3300 سورية، وإنما بأسعار البنك المركزي السوري بـ2500 ليرة سورية.
ويواجه رامي العديد من التحديات اليومية، يذكر البعض منها: صعوبة توفير الخبز وسوء الصناعة والطوابير الطويلة، لا سيما مع استقلال تجار الحرب في المنشآت، وصعوبة تأمين المحروقات وأسطوانة الغاز من أجل طهي الطعام، ومع غياب شبه تام للكهرباء التي تتوافر لساعتين فقط لكل 24 ساعة، ناهيك بتردي خدمة المياه وتكرر قطعها عن المنازل.
أسعار جنونية والراتب لا يغطي جزء الاحتياجات
يؤكد الدلال خلال حديثه لـ”نون بوست” أنه يضع خُمس راتبه الشهري، على وسائل النقل في حال توافر السرفيس، إذ تصل أجرة الذهاب والإياب 600 ليرة سورية، لكن إذا لم يتوافر قد يضطر للذهاب إلى عمله عبر سيارة أجرة خاصة يصل أجرها إلى 8500 ليرة سورية، وغالبًا ما تحدث معه.
ويتابع أن اللحوم أصبحت من الرفاهيات، لأن سعر الكيلوغرام من اللحوم الحمراء يصل إلى 30 ألف ليرة واللحم الأبيض يصل إلى 8 آلاف ليرة سورية، بينما علبة البيض يصل سعرها إلى 8500 ليرة سورية، ويتراوح سعر الكيلوغرام من الجبنة بين 8 و10 آلاف ليرة سورية.
وعلى الرغم من ذلك حاولت الكثير من الأسر طهي الطعام من الخضراوات، لكن مشكلة أخرى واجهتهم هي ارتفاع أسعار الخضراوات، بسبب ارتفاع أجور النقل الذي سببه رفع أسعار المحروقات وفقدانها في الأسواق، ولا يقل سعر الكيلوغرام من الخضار، بشتى أنواعه عن 1000 ليرة سورية، أما الفاكهة فيتراوح سعر الكيلوغرام منها بين 2000 و5000 ليرة سورية.
تشير الصحفية علا محمد، التي تقيم في حماة خلال حديثها لموقع “نون بوست” إلى أن الأسواق تفتقر للمواد الغذائية وأسعارها قد تختلف من متجر إلى آخر، لكنها غير متناسبة مع دخل الأهالي، لأن راتب الموظف لا يصل إلى 70 ألف بينما هو يحتاج إلى مليون ونصف، مؤكدةً “الرواتب التي يحصل عليها الموظفون لا تكفيهم لمدة يوم أو يومين، ما يجبرهم على العمل في أكثر من مكان، وآخرون يتلقون المساعدة من أقربائهم”.
نشرت حسابات موالية على مواقع التواصل الاجتماعي قائمة بالمنتجات التي يمكن أن يشتريها مبلغ 6000 ليرة سورية خلال عام 2021، مقارنة بعام 2015 وعام 2010، وأظهرت القائمة انخفاض قيمة الليرة السورية خلال السنوات العشرة الماضية.
تحدث “نون بوست” إلى سيدة تقيم في مدينة حلب، رفضت كشف اسمها لأسباب أمنية، تقول السيدة: “الفقر واضح بشكل كبير والواقع سيئ للغاية، لا يمكن معرفة مدى حاجة الناس وضيق أحوالهم دون ملامسة الواقع، فهم فقط يحاولون أن يكونوا بخير، لأن إمكاناتهم محدودة ولا يمكنهم الخروج إلى أي مكان آخر”.
وتضيف “الحياة لديهم أصبحت غير متكافئة، فهناك من ينعمون بالمال والعيش الرغيد وهم قلة لأنهم من رؤوس الأموال وتجار الحرب، والكثيرون لا يحصلون على قوت يومهم، ولا مجال لديهم ليفكروا إلا بطعام أسرهم وحاجياتهم، وتشكل الفوارق الضخمة بين تأمين الاحتياجات وأسعارها، والمردود الشهري أزمة خانقة تعيشها الأسرة طوال أيام الشهر، في حال كان أحدهم موظفًا”.
كيف تعيش الأسر السورية؟
على مدار سنوات من سوء الأوضاع المعيشية تغيرت الكثير من الأولويات، بما فيها السلع والحاجيات الأساسية، التي أصبح البعض منها ضمن قائمة الرفاهيات، وكذلك حرمان الجسم من السعرات الحرارية وتقليل عدد وجبات الطعام اليومية.
قال المحلل الاقتصادي يونس الكريم خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تعتمد بعض الأسر على التضامن الاجتماعي، من ناحية تكفل الأسرة التي تعيش أحوالًا مادية جيدة بأسر أخرى، والبعض أيضًا يعتمدون على الحوالات المالية المتقطعة التي يحصلون عليها سواء من أقربائهم أم أبنائهم خارج البلاد”.
وأضاف “تحافظ الأسرة على مصادر دخلها المتعددة من خلال عمل أكثر من فرد في الأسرة وحتى من الأطفال، لمساندة أسرهم في مهن متعددة دون الاهتمام بنوع العمل، حتى لو كان خارج عن القانون مثل بيع المواد المخدرة والتجارة بها”.
احتياجات الأسرة السورية المكونة من 5 أشخاص تصل إلى نحو 1.850 مليون ليرة، للعيش بكفاف دون رفاهية
وأجبر العديد من الأهالي على بيع مقتنياتهم سواء عقارات أم أشياء ثمينة من أجل توفير حاجياتهم، وبعضهم التحق بالعمل لدى تجار وأمراء الحرب بأعمال ومهن كثيرة.
كم تحتاج الأسرة السورية من المال شهريًا للعيش بحد الاكتفاء؟
تحتاج الأسرة السورية المكونة من خمسة أفراد والمقيمة في مناطق سيطرة نظام الأسد إلى نحو مليون والنصف مليون ليرة سورية شهريًا للعيش بحد الاكتفاء دون احتياج الناس، في حين يبلغ دخل الموظف الشهري في الحد الأدنى للأجور بعد الزيادة الأخيرة 70 ألف ليرة سورية.
يقول المحلل الاقتصادي يونس الكريم، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يمكن الاعتماد على معيارين أساسيين لتحديد حاجة الأسرة من المال شهريًا، الأول السلة الأساسية وما يرافقها من أسعار للمنتجات والثاني تقدير حاجة الفرد إلى الغذاء والسعرات الحرارية اليومية”.
وأضاف “باعتبار أن الكثير من الأساسيات اعتبرتها الأسر السورية ضمن الرفاهيات، يمكن أن تتراوح حاجة الأسرة المكونة من خمسة أفراد، إلى المال شهريًا للوصول إلى حد الاكتفاء، بين المليون والمليون و200 ليرة، أي بين 350 إلى 400 دولار أمريكي، وفعليًا لا يمكن أن يتجاوز دخل الموظف في القطاع الخاص وهو الأوفر حظًا 200 ألف ليرة سورية، علمًا بأن هذا المبلغ لا يغطي الاحتياجات كافة”.
وفي وقت سابق، نقلت وكالة سبوتينك عن محلل اقتصادي يدعى عمار يوسف، قوله: “احتياجات الأسرة السورية المكونة من 5 أشخاص تصل إلى نحو 1.850 مليون ليرة، للعيش بكفاف دون رفاهية، وذلك استنادًا إلى إحصائية جديدة أجريت بناء على دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة تحدد حاجة الشخص الواحد من السعرات الحرارية”.
ويبدو المشهد المعيشي للأهالي في مناطق سيطرة نظام الأسد كارثيًا جدًا، بدءًا من ارتفاع الأسعار لمختلف السلع والمنتجات الأساسية التي يحتاجها المواطنون وصولًا إلى ضعف القدرة الشرائية وجمود التجارة وتنقلات الناس التي سببها ارتفاع أسعار المحروقات وفقدانها من الأسواق، وتدني الرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص، في ظل سيطرة أمراء الحرب والتجار من رؤوس الأموال على مختلف القطاعات، الصناعية والتجارية التي لعبت دورًا في التضييق على الأهالي بشكل أو بآخر.