انتهت أعمال “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” الذي عقد بالعاصمة العراقية، أمس السبت، 28 من أغسطس/آب الحاليّ، بمشاركة قادة وممثلين عن أكثر من 10 دول عربية وإقليمية وغربية، في فعالية هي الأولى من نوعها – بهذا الحجم – التي تشهدها بغداد منذ عام 1990.
وكانت بغداد قد احتضت في نهاية يونيو/حزيران الماضي، قمة ثلاثية مصغرة شملت الأردن ومصر، لكنها لم تكن على هذا المستوى من التمثيل الذي شهدته قمة السبت، التي وصفها البعض بـ”التاريخية” كونها تأتي في ظرف شديد الحساسية والخطورة معًا.
المؤتمر الذي عُقد لمناقشة عدد من القضايا المتعلقة بالعراق والشرق الأسط عمومًا، حمل الكثير من الرسائل والدلالات المتعلقة بعودة البلد العربي لدوره الإقليمي المعهود، بعدما أجبرته الأوضاع السياسية والأمنية طيلة السنوات الماضية على الغياب عن الملعب كلاعب أساسي.
التحدي الأمني.. رسالة طمأنة
لا شك أن قمة يحضرها زعماء دول العالم، عربي وأوروبي وشرق أوسطي، لا بد أن تعكس شعورًا بالاطمئنان للحالة الأمنية التي باتت عليها الدولة المضيفة، إذ إن مشاركة هؤلاء القادة لا يمكن أن تكون إلا بعد التأكد تمامًا من الوضع الأمني للبلاد وفق التقارير التي أعدتها أجهزة الاستخبارات الخاصة بالدول المشاركة.
المقارنة ربما تتضح أكثر مع تكرار زيارات زعماء العالم للعراق خلال الآونة الأخيرة قياسًا بما كان عليه الوضع سابقًا، فعلى مدار عقود طويلة مضت كان القادة العرب يتجنبون زيارة بغداد، بسبب المخاوف الأمنية في ظل حالة الحرب التي كانت تخيم على أجواء البلاد طيلة السنوات الأخيرة.
الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول، أكد تلك الرسالة من خلال تصريحاته أمس التي قال فيها إن احتضان بغداد لهذا المؤتمر “رسالة قوة لجميع دول العالم، مفادها أن العراق ينعم بأمن واستقرار كبير، نتيجة تضحيات كبيرة من القوات المسلحة العراقية بجميع صنوفها وتشكيلاتها”.
وشدد رسول على أن “استقرار العراق هو استقرار لمنطقة الشرق الأوسط، وبالتالي الكل يعي دور العراق المهم الريادي في المنطقة، لهذا نرى أن هذه القمة ستكون نتائجها إيجابية بشكل كبير”، مختتمًا حديثه للوكالة الرسمية العراقية بأن عقد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة مهم، على عدة أصعدة وأهمها الأمنية والسياسية والاقتصادية، وكل ما يحتاجه العراق.
وقد شارك في المؤتمر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بجانب رئيس الوزراء الكويتي صباح خالد الحمد ونظيره الإماراتي محمد بن راشد، كذلك وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو والإيراني حسين أمير عبد اللهيان.
الجغرافيا.. المشكلة والحل
الهدف الرئيسي لعقد هذه القمة التي تشارك فيها دول الجوار وممثلون عن أوروبا والكيانات العربية والإسلامية، بحسب المتحدث باسم المؤتمر ووكيل وزير الخارجية نزار الخير الله، دعم حكومة مصطفى الكاظمي الحاليّة، والعمل على تعزيز الشراكات والمشاريع مع الدول المشاركة في مؤتمر بغداد، موضحًا أن “طبيعة الأزمات والتحديات في المنطقة تخلق فرصًا حقيقيةً للشراكة، وهذا ما نعمل عليه، ونعتقد أن هذه الرغبة مشتركة بين العراق والدولة المشاركة في القمة”.
ربما يكون هذا هو الهدف المباشر، قصير المدى، للمؤتمر، فليس من المنطقي أن تعقد قمة بهذا الحجم لدعم حكومة لم يتبق من عمرها إلا شهر ونصف الشهر فقط (تجري الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/تشرين القادم بعد تأجيلها، فقد كان مقررًا لها يونيو/حزيران الماضي).
وعليه يرى البعض أن مخرجات القمة لا تتعلق بالحكومة الحاليّة فقط، بل ترسم بشكل كبير ملامح الحضور المحلي والإقليمي للسلطة العراقية، لا سيما أن فكرة المؤتمر الرئيسية تتعلق بتأثير الجغرافيا السياسية للدولة العراقية، وأن أي تهدئة بين الأطراف المتنازعة على حدود الدولة يعني هدوء الوضع داخليًا في العراق، وهو الهدف الأسمى الذي يسعى الجميع لتحقيقه في البلد الذي مزقته الاحترابات الأهلية والمؤامرات الخارجية والإقليمية خاصة بعدما بات قصعة مستباحة لحزمة من الأجندات.
إن كانت السياسة والاقتصاد اللاعبين الأبرز في تحديد هوية ومستقبل أي دولة، فإن الجغرافيا العراقية فرس الرهان في رسم حاضر البلد ومستقبله، السياسي والأمني، كما كانت اللاعب الأبرز في تشكيل تاريخه، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال قراءة التاريخ العراقي منذ الصراع الساساني البيزنطي وصولًا إلى التناطح السني الشيعي حاليًّا بين إيران والسعودية.
ومن ثم وإن كان القدر قد أوقع العراق في خضم مستنقع الصراعات الإقليمية، بين تركيا وحزب العمال الكردستاني من جهة، والأمريكان والسعودية من جانب وإيران من جانب آخر كجهة ثانية، وما أفرزته تلك الصراعات من معارك جانبية أخرى، كان البطل فيها الجماعات المسلحة وما نجم عنها من حروب أهلية طاحنة، فإن الحل الأبرز للخروج من تلك الشرنقة يتعلق بتبريد الأجواء وتخفيف حدة التوتر بين الأطراف المتنازعة.. وهو ما يحاول العراق جاهدًا العمل عليه خلال تلك القمة وما سيليها مستقبلًا.. لكن الأمر يتعلق بعودة العراق إلى قيمته وقامته التاريخية حين كان رقما صعبًا في معادلة المنطقة.
هذه القمة تمثل عودة العراق كلاعب محوري في المنطقة، فجلوس الأطراف المتنافسة على طاولة واحدة هو خطوة مهمة في هذا الاتجاه
عودة الريادة العراقية
المشاهد التي تناقلتها شاشات الفضائيات وصور الصحف للأضاد على طاولة واحدة برعاية عراقية تحمل الكثير من الدلالات، فوزير الخارجية السعودي جنبًا إلى جنب نظيره الإيراني، يتجاذبان أطراف الحديث نحو تبريد الأجواء الساخنة بينهما، والرئيس المصري والأمير القطري في لقاء تغلفه الابتسامات المتبادلة بعد قطيعة دامت لعدة سنوات، الأمر كذلك مع أنقرة والقاهرة ولقاءات إذابة الجليد.
وتحولت بغداد خلال ساعات معدودة إلى فضاء كبير يجمع تحت مظلته الخصوم والمتنافسين وأصحاب الأيديولوجيات والأجندات المختلفة، الكل على طاولة واحدة وأمام كاميرا واحدة، وسط حالة من التناغم التي خيمتها الدبلوماسية العراقية بقدرتها على جمع هذه الأطياف المتباينة على مسرح واحد.
يحاول عراق التاريخ أن يضمد من خلال تلك القمة جراح الماضي ليعود حاضرًا للأضواء مرة أخرى بعد سنوات من الغياب تمهيدًا لاستعادة دوره الريادي إقليميًا ودوليًا مستقبلًا، حين كان رمانة ميزان المنطقة وعمود خيمتها الأكثر تعمقًا بجذور الحضارة والتراث والعروبة.
وفي هذا السياق قال المحلل السياسي إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي العراقي في بغداد، في تعليقه على هذا المؤتمر لوكالة أسوشيتد برس: “هذه القمة تمثل عودة العراق كلاعب محوري في المنطقة، فجلوس الأطراف المتنافسة على طاولة واحدة هو خطوة مهمة في هذا الاتجاه”.
وتحاول كل الأطراف العمل من أجل استعادة بغداد لدورها الإقليمي دبلوماسيًا لتهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط، وهو ما يمكن قراءته من خلال الجهود المبذولة خلال الآونة الأخيرة، فكانت العاصمة العراقية غرفة نقاش موسعة لعدة جولات من المحادثات المباشرة بين طهران والرياض.
ويبقى نجاح العراق في أداء تلك المهمة مرهونًا بشقين: الأول يتعلق برغبة وإرادة الأطراف المتنازعة في تخفيف حدة التوتر بينهما، والثاني إبقاء بغداد بعيدة عن الاستقطابات السياسية للمحاور المتصارعة، وأن تكون جسرًا لربط العلاقات وتقريب وجهات النظر، وأن تقف على مسافة واحدة من الجميع لشرعنة الثقة فيما تقوم به من جهود.
توحيد الجهود
البيان الختامي للمؤتمر ركز على ضرورة توحيد الجهود الإقليمية والدولية بالشكل الذي ينعكس إيجابًا على استقرار المنطقة وأمنها، كما أقر المشاركون بخطورة التحديات التي تواجهها دول الإقليم وضرورة التعامل معها على أساس التعاون المشترك والمصالح المتبادلة، ووفقًا لمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة الوطنية.
المشاركون جددوا دعمهم لجهود الحكومة العراقية في تعزيز مؤسسات الدولة وإجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها، كما اتفقوا على تعزيز الجهود مع العراق للتعامل مع التحديات الناجمة عن التغير المناخي والاحتباس الحراري وفق الاتفاقات الدولية ذات الصلة.
وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، خلال مؤتمر صحفي عقد عقب انتهاء أعمال القمة أكد مواصلة الجهود الدبلوماسية لبلاده في تقريب وجهات النظر بين الخصوم، منوهًا إلى استمرار اللقاءات السعودية الإيرانية، وأن هناك رغبة لدى الطرفين بالوصول إلى نتائج إيجابية تحت مظلة الرعاية العراقية.
العراق عبر هذا المؤتمر نجح في التحدي الأمني الصعب الذي كان يمثل هاجسًا لدى الكثيرين في ظل السياق المتوتر، ويتبقى النجاح الدبلوماسي
كان غياب التمثيل السوري في أعمال تلك القمة نقطة جدال لدى الشارع العربي، فيما ذكرت مصادر أن عدم دعوة نظام بشار الأسد للمشاركة كان بناء على مواقف بعض الدول الرافضة لتلك المشاركة، تنديدًا بالانتهاكات المرتكبة بحق الشعب السوري على مدار السنوات الماضية، الأمر الذي اعتبرته الحكومة العراقية نقطة خلاف ربما تفسد المؤتمر وعليه كان الامتناع عن توجيه أي دعوة لنظام الأسد.
التعويل على تلك القمة في حلحلة الوضع المتوتر إقليميًا مغامرة سياسية تجافي القراءة الأولية لتفاصيل المشهد، لكنها خطوة جادة في مسار استعادة العراق لريادته وثقله في المنطقة، هذا بخلاف ما تحمله من رسالة طمأنة لقدرة بغداد على احتضان الأشقاء والعبور بهم عبر جسور التوافق والإخاء نحو آفاق رحبة بعيدًا عن المشاحنات والتوترات البينية.
البعض يحاول التقليل من تلك الفاعلية، مشككًا في قدرتها على إحداث أي منجز على أرض الواقع، متهمًا إياها بعدم تجاوز إطار الحديث والبيانات الإعلامية دون مخرجات ملزمة، لكن هذا لا يقلل مطلقًا من قيمة تلك الخطوة التي تأتي في وقت يدفع الجميع العراق نحو استعادة عافيته ولملمة الجراح الناجمة عن سنوات الحرب الدامية.
وفي الأخير يمكن القول إن العراق عبر هذا المؤتمر نجح في التحدي الأمني الصعب الذي كان يمثل هاجسًا للكثيرين في ظل السياق المتوتر، ويتبقى النجاح الدبلوماسي، وعليه فإن تلك القمة تمثل حجرًا في بركة المنطقة الجامدة، يتوقف نجاحها على استمرار تلك الجهود وتكثيف الحضور الدبلوماسي للبلد العربي على خريطة الإقليم، وعدم الاكتفاء بهذه الخطوة، والابتعاد قدر الإمكان على مناطق التجاذب والاختلاف بين الأطراف المتصارعة، وأن ينأى العراقيون بأنفسهم عن لعبة الشد والجذب بين القوى ذات التأثير والأجندات الداخلية فوق تراب بلادهم.