حين يقترب موعد ولادة الأم، تختار المشفى الذي ستضع فيه مولودها لضمان راحتها، وتحدد من سيرافقها ليخفِّف عنها آلام المخاض، وتنتقي ملابس صغيرها بعناية، بل يكون اسمه جاهزًا لمعرفتها نوع جنسه في الشهور الأولى من الحمل، فهذا التخطيط الطبيعي.
لكن مهلًا، هل فكرت يومًا أن هناك أمًّا خاضت تجربة الولادة داخل زنزانة تفتقر أدنى الاحتياجات الأساسية، وقضت شهور حملها على “برش” -أي سرير- سيّئ وتغذية أسوأ؟
تفاصيل قاسية تخوضها الأسيرات الفلسطينيات الحوامل داخل زنزانات الاحتلال، والآن تعيش هذه المعاناة الأسيرة أنهار الديك (25 عامًا)، فأيام قليلة وستضع مولودها، بعدما اعتُقلت وهي في بيتها بمدينة رام الله، حين كانت في الشهر الرابع من حملها.
أرسلت أنهار رسالة عبر محاميها إلى عائلتها، تقول فيها: “كثير تعبانة وصابني آلام حادة في الحوض ووجع قوي في قدمي نتيجة النوم على “البرش”، مش عارفة كيف بدي أنام عليه بعد العملية، وكيف بدي أخطو خطواتي الأولى بعد العملية وكيف السجّانة تمسك إيدي باشمئزاز”.
رسالة طويلة قلّبت الذكريات المؤلمة لدى المحرَّرة سمر صبيح من مدينة غزة، حيث هي أيضًا ذاقت مرارة التجربة، وتحكي لـ”نون بوست” أنها بمجرد قراءتها لرسالة أنهار، التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، شعرَت بكل غصّة كُتبت بين السطور، وتذكّرت أوجاع المخاض في ذلك الوقت، حين كانت في حاجة إلى رعاية طبّية ونفسية، كونها تحملُ في أحشائها حياة طفل لم يرَ النور بعد.
تقول: “في أبريل/ نيسان 2006 أنجبتُ ابني براء، فعند اعتقالي من مدينة طولكرم كنت في الشهر الثالث. تمنّيت لو شاركني زوجي وأمي لحظة استقبال طفلي، لكن مصلحة السجون رفضت آنذاك”، مستذكرةً لحظات المخاض أنها بقيت مدة أسبوع تشعر بالألم، والأسيرات الأمّهات يقدِّمن لها النصائح، حتى حاولت حفظ ما ستفعله حين تستقبل طفلها وحيدةً.
وتذكر صبيح أنه حين جاء موعد ولادتها، قيد السجان يدَيها ورجلَيها وأرغمها على عصب عينيها، ومن ثم اقتادها بالبوسطة (وسيلة نقل يتعرّض فيها الأسرى إلى عذاب قاسٍ)، وذلك لتنقَل إلى مستشفى وتضع مولودها.
تصمت لحظة لتكملَ تجربتها بالقول: “خضعتُ لعملية قيصرية وأنا مكبَّلة، طالبت الجنود مرارًا فكّ قيدي لكن لم يستجب أحد لتوسُّلاتي”، مشيرةً إلى أنها بعدما أحضروا لها صغيرها بكت قهرًا كونها وحيدة، واستُفِزَّت أكثر عند نقلها إلى غرفة معتمة وهي مكبّلة والمجنّدات حولها.
وتابعت بألمٍ كما تصفُ: “بعد ساعات طويلة أحضروا الشوربة، رفضتها حتى استسلمت للجوع من أجل إرضاع صغيري (…) لم أتذوق أسوأ من طعمها”، مبيّنة أنها صبرت أسبوعًا كاملًا وهي وحيدة تحاول تطبيق نصائح الأسيرات في التعامُل مع بكرها براء.
وتروي أن صغيرها الذي قضى برفقتها عامَين داخل المعتقل، أول كلمة لفظها “عدد”، كونه كان يسمعها أكثر من مرة يوميًّا من قبل جنود الاحتلال، الذين يطرقون أبواب الأقسام لعدّ الأسرى والأسيرات، مشيرة إلى أنها حاولت أن تلغي الكلمة من دماغ ابنها، وراحت تعلِّمه “ماما، بابا”.
وتحكي صبيح أن لا أحدًا يشعرُ بتجربة الولادة داخل الأسر إلا الذي مرّ بها، فمهما عبّرت الأسيرات برسائل عن وجعهن، لا يمكن تخيُّل الألم النفسي والأم مكبّلة بالأصفاد الحديدية، لتضع جنينها ثم تبقى وحيدة في زنزانة يدّعون أنها غرفة طبية.
يُذكر أن المحرَّرة صبيح حين نالت حريتها أنجبت توأمًا وطفلًا أُخَّر، وحاولت في كل مرة أن تنسى ما مرّت به داخل الأسر، معلّقة: “الفرق فرق السماء والأرض في تجربة الولادة داخل وخارج الأسر”.
وتجدر الإشارة إلى أن أكثر من 10 فلسطينيات أنجبن في الأسر، أولهن الراحلة زكية شموط، التي وضعت طفلتها ناديا وحيدة في زنزانتها عام 1972، وكانت محكومة 12 مؤبّدًا وتعرّضت لتعذيب وحشي.
خصوصية الأسيرات الحوامل
منذ لحظة الاعتقال، تواجهُ الأسيرة الحامل ظروفًا قاسية، وتعاني سوء التغذية والرعاية الطبية، ولا تتمكّن من التحرُّك بما يكفي أو النوم المريح بسبب “البرش”.
كما لا يراعي الاحتلال خصوصية الحوامل في التحقيق، بالإضافة إلى أنها تترَك في آلام المخاض ساعات قبل نقلها للمستشفى وهي مكبّلة اليدَين والرجلَين، وتظلّ هكذا حتى لحظة الولادة، وتخضعُ لحراسة مشدَّدة وتُهان وتُشتم خلال مرحلة “الطلق”.
وهنا ينقل “نون بوست” تجربةً ليست قديمة، عاشتها المحرَّرة فاطمة الزق داخل الزنزانات الإسرائيلية وهي حامل في الشهر الثاني. تقول إن حكاية وجعها بدأت عام 2007 حين اعتُقلت على معبر إيرز -الفاصل بين قطاع غزة المحاصر والأراضي المحتلة-، وتعرّضت لمدة 18 يومًا للتعذيب القاسي دون أن تعلم بحملها، ومع ذلك ثبت وخرج يوسف آخر العنقود إلى النور.
تحكي فاطمة أنه رغم نيلها الحرية منذ 10 سنوات، وبلوغ يوسف الـ 14 عامًا، إلا أنها لا تزال تتألم حين تتذكر فترة حملها وولادتها، مبيّنة أن تلك الفترة كانت قاسية ولا يمكن لعقل بشري أن يتخيّلها، كيف لأمٍّ تتعرض للتحقيق القاسي وفي أحشائها طفل لا تدري مصيره.
وتروي أن الأسيرات كنّ السند والداعم لها فترة الحمل، ومع ذلك كانت تشعر كما لو كانت المرة الأولى التي ستنجبُ فيها، مع أن لديها 8 أبناء غير الصغير يوسف، لافتة إلى أنها كانت تشعر بالقهر حين إجرائها الفحوص الطبية للاطمئنان على جنينها، وهي مكبّلة اليدَين بالسلاسل الحديدية.
تقول فاطمة إنها بعنادها تمكّنت من إقناع السجّان عند ولادتها بفكّ يد واحدة، وتركت الأخرى مكبّلة بالسرير، موضِّحة أن رؤية صغيرها يوسف خفّفت من ألمها.
يقاطعها الصغير يوسف، الذي أصبح في الصف التاسع، ليخبرَ “نون بوست” أنه يكره شهادة ميلاده، حيث مدوّن فيها مكان الولادة “مستشفى هداسا – “إسرائيل””، لافتًا إلى أن هذا الشيء يؤثِّر عليه كثيرًا، وتمنّى لو دوِّن اسم بلدته غزة، كحال إخوته.
وكثيرًا ما تسترجع الأم فاطمة وصغيرها يوسف بعض المواقف التي حدثت في السجن مع الأسيرات، وكيف كنّ يتسابقن بحمله وتدليله، يضحك كثيرًا وفي الوقت ذاته يعلِّق “تعذبتِ يا أمي”، بالإضافة إلى أنه يشارك بشكل مستمر في الفعاليات الخاصة بالأسرى، ويكون أول الحضور رغم أنه بالكاد يتذكر المعتقل.
ووفق القانون الإسرائيلي، فإنه يضع الأسيرة الأمّ أمام خيارَين، إمّا إخراج طفلها المولود من السجن وإمّا إبقاؤه داخل المعتقل لمدة عامَين، ولا يسمَح بازدواجية الخيار، أي بتنقُّل الطفل بين أحضان أمه داخل السجن تارةً ومع ذويه خارج السجن تارةً أخرى.
يُذكر أن من الأسيرات اللواتي أنجبن في السجن ميرفت طه من القدس المحتلة، التي أنجبت وائل عام 2003 وأُطلق سراحها مع مولودها بعد قضاء فترة محكوميتها البالغة قرابة 3 سنوات، ومنال غانم التي وضعت طفلها عام 2003، وانفصلَ عنها بعد أن بلغ العامَين ونصف من عمره، وأصبحت تراه من وراء زجاج عازل وشبك سميك خلال زيارة الأهل، إلى أن أُطلق سراحها بعد قضاء فترة محكوميتها قرابة 4 سنوات.
ولم تقتصر عمليات ولادة الأسيرات داخل الأسر فترة انتفاضة الأقصى الثانية، بل سبق ذلك حالات عديدة كالأسيرات انتصار القاق التي أنجبت طفلتها وطن، وماجدة السلايمة من القدس المحتلة التي أنجبت طفلتها فلسطين وتحرَّرت ضمن عملية التبادل عام 1985، وأميمة الآغا التي أنجبت طفلتها حنين عام 1995، وسميحة حمدان أنجبت أيضًا طفلة أسمتها حنين وأُفرج عنها عام 1997، وسميحة تايه التي أنجبت طفلتها ثائرة، وعائشة الكرد التي أنجبت طفلها ياسر.
وينقل “نون بوست” تجربة المحرَّرة أميمة الآغا التي اعتُقلت في أبريل/نيسان 1993 وكانت حامل شهرَين، ونُقلت إلى سجن المجدل وبقيت هناك ولم تعلم بحملها إلّا بعدما شعرت بآلام وذهبت إلى المستشفى وأخبروها بحملها، وبعد بضعة شهور عندما ذهبت للولادة بالسجن كانت مقيّدة اليدَين والرجلَين.
اعترضَت الآغا على طريقة تقييدها لحظات الولادة، حتى تمّ فكّ القيود من رجلَيها وربطت يدَيها بالسرير.
وتصف بعد خروجها من السجن أن حالتها النفسية كانت سيئة، بسبب ما مرَّت به من معاملة قاسية فترة الولادة، مبيّنة أن الأصعب كان هو انتزاع صغيرتها حنين منها، بعدما مكثت معها سنتَين وفق القانون، حيث جاء الصليب الأحمر وأعادها إلى والدها.
ولادة تحت حراسة عسكرية
وفي السياق ذاته، ذكرَ رياض الأشقر، مدير مركز فلسطين لدراسات الأسرى، أن الاحتلال الإسرائيلي اعتقل العديد من النساء الفلسطينيات وهن حوامل، ووضعن أولادهن داخل السجون في ظروف قاسية، وتمّت الولادة في ظروف قهرية للغاية، تحت حراسة عسكرية وأمنية مشدَّدة، مكبّلات الأيدي والأرجل بالسلاسل الحديدية، دون السماح لعائلاتهن بالحضور والوقوف بجانبهن في هذه اللحظات الصعبة، ويجري نقلهن إلى السجن بعد الولادة مباشرة دون رعاية طبية.
وبحسب قول الأشقر، فإن الاحتلال يهدف من معاملة الحوامل داخل المعتقلات إلى نزع قوتهن وإضعافهن، مشيرًا إلى أنه من خلال المتابعة دومًا يكنّ الأسيرات قويات، حتى وهنّ في أصعب اللحظات يصمدن في وجه مصلحة السجون وينتصرن لحظة احتضان أطفالهن.
وفي الوقت ذاته طالبَ المؤسسات الحقوقية والإنسانية الدولية بالتدخُّل بشكل فاعل، لضمان الإفراج عن الأسيرة أنهار الديك بأسرع وقت، كي تضع مولودها خارج السجن في ظروف آمنه ومستقرة، خشية على حياتها وحياة مولودها، خاصه أنها لا تزال موقوفة ولم يصدر بحقها أي حكم بالسجن، مؤكّدًا بضرورة الضغط على الاحتلال، لوقف استهداف النساء والفتيات الفلسطينيات بالاعتقال والاستدعاءات والتنكيل.
وتعرضت جميع الأسيرات الحوامل إلى نفس الظروف والمعاملة على مرِّ السنوات دون فرق، فشهادات جميعهن متشابهة في كل الأزمنة.