لا تتخلوا عن اقتصاد أفغانستان أيضًا

صراف أفغاني يدعى عبد العزيز يأخذ قسطًا من الراحة بينما يجلس خلف مجموعات من أوراق العملة الأفغانية في سوق الصرف الرئيسي في كابول، في 18 تموز/ يوليو 2002.

ترجمة وتحرير: نون بوست

في الوقت الذي بدأت فيه الانسحاب من أفغانستان، تتساءل القوى الغربية عما بقي لها من نفوذ على طالبان. وفي منتديات مثل اجتماع مجموعة الدول الصناعية السبع الذي ترأسته المملكة المتحدة، عادة ما تتحول المحادثات حول هذا الملف بسرعة إلى مناقشة إمكانية استخدام التمويل كوسيلة للضغط. لكن هذا النهج في التعامل مع طالبان خطير.

تعتمد أفغانستان بشكل أساسي على المساعدات الخارجية. وخلال السنوات الأخيرة، تلقت البلاد مساعدات تعادل 43 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، لكن تم تعليق هذا التدفق من الأموال في الوقت الحالي مما أعطى الغرب أفضلية. وإذا مارست القوى الغربية ضغوطًا على البلاد بشكل عشوائي، فإن ذلك يعني حرمان أفغانستان من آخر مصدر دعم متبقي لها في نفس الوقت الذي تنسحب فيه من البلاد. يمكن أن تشكل طالبان تهديدا لحرية الأفغان وحقوقهم، لكن الإنهاء المفاجئ للتمويل الغربي هو الذي يعرض بقاءهم المادي للخطر.

لعل أوضح مؤشر لهذه العلاقة القائمة على التبعية هو ميزان البلاد التجاري، إذ تعاني أفغانستان من عجز يتراوح ما بين 25 إلى 30 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي. وتجاوزت واردات أفغانستان في سنة 2020 البالغة 7 مليارات دولار صادراتها البالغة 1.7 مليار دولار بأربعة أضعاف.

لا يعد هذا الأمر مفاجئا في حد ذاته، ذلك أن أفغانستان من بين أفقر دول العالم. ومن المعروف أن الدول الفقيرة تعاني حاجة لا نهاية لها للبضائع الأجنبية، لكن المشكلة تكمن في أنه لديها القليل لتتاجر به في المقابل – وبذلك لما كانت فقيرة في المقام الأول. 

في هذه الحالة، تعتمد الدولة الفقيرة في سد حاجتها من الواردات على التمويل الخارجي. وليس من قبيل الصدفة أن تسجل أفغانستان عجزا تجاريا ضخمًا لأول مرة في أعقاب سنة 2001 بعد تدخل القوى الغربية، ليبلغ ذروته خلال طفرة زيادة القوات الأمريكية بقرار من الرئيس الأمريكي باراك أوباما ما بين 2012 و2013. وهذا يشير إلى أن ارتفاع الواردات يمثل نتيجة مباشرة للمساعدات الخارجية.

إلى جانب الدعم العسكري في أفغانستان، تدفقت أموال المساعدات وتبعتها مدفوعات المقاولين وهروب رؤوس أموال النخبة الفاسدة. وقد تسببت التدفقات العملاقة للأموال الأجنبية في خلق اقتصاد موازٍ كامل، مدني في جزء منه وعسكري في جزء آخر.

التحديث الذي مرت به أفغانستان منذ سنة 2001 كان جزئيًا، لكنه كان حقيقيًا، واعتمد إلى حد كبير على الأموال والسلع المستوردة

وبما أن هذا التمويل سيتوقف في نفس الوقت الذي يهرع فيه العديد من الأشخاص الذين استفادوا منه إلى المطار، سيكون من السهل تجاهل ما يحدث في البلاد. فما يأتي بسهولة يذهب بسهولة. وبعبارة أخرى، عندما ينسحب الغرب ستعود أفغانستان إلى حالة الاكتفاء الذاتي السابقة التي كانت عليها. وإذا أرادت طالبان عودة تدفق المال مجددا، سيكون عليها قبول الشروط الغربية.

تعد هذه السياسة سطحية وخطيرة ومثيرة للسخرية. واعتبار التمويل خدمة – تُمنح أو تُجمّد حسب درجة امتثال طالبان للتوقعات الغربية – يلغي وجود أفغانستان التي ظهرت إلى العالم نتيجة عشرين سنة من التدخل الأجنبي. ربما أفغانستان دولة لا يمكن العيش فيها وليس لها جيش يمكن قتاله، لكن مجتمعها الجديد بات يعتمد بشكل حاسم على التمويل الخارجي. وإذا كان الغرب يريد المساعدة في ضمان الحد الأدنى من استمرارية الحياة في أفغانستان على الأقل، فإن التدفق المستمر للمساعدات أمر ضروري.

لا شك أن التحديث الذي مرت به أفغانستان منذ سنة 2001 كان جزئيًا، لكنه كان حقيقيًا، واعتمد إلى حد كبير على الأموال والسلع المستوردة. اتسع نطاق التعليم في كافة مستوياته، واستقطب تمويلًا كبيرًا من الخارج. وفي السنوات العشرين الماضية، ارتفع متوسط العمر المتوقع لسكان البلاد بشكل كبير، وانخفضت معدلات وفيات الرضع والأمهات، ويعود الفضل في كل ذلك بدرجة كبيرة إلى النظام الطبي الممول من الخارج.

حاليًا، انتشر استخدام الهواتف المحمولة والإنترنت في أفغانستان، حيث تأتي جميع الإلكترونيات من الخارج. وزاد استهلاك الطاقة الكهربائية بأكثر من عشرة أضعاف ويتم استيراد حوالي 70 بالمئة منها، أو ما تصل قيمته إلى حوالي 280 مليون دولار سنويًا. بالإضافة إلى ذلك، زاد عدد السيارات المسجلة بأكثر من الضعف منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. ولا تقتصر الحاجة في الاستيراد على السيارات فحسب، بل تشمل البنزين والديزل أيضًا. وفي سنة 2002، عاشت أفغانستان على 280 برميلًا من النفط المستورد كل يوم. أما في سنة 2018، زاد هذا العدد إلى 13300 برميل.

الأهم من ذلك كله هو الغذاء. فمنذ سنة 2001، تضاعف عدد سكان أفغانستان، والتوازن الغذائي في وضعية حرجة. فعلى سبيل المثال، كان الدقيق من بين واردات أفغانستان الغذائية التي بلغت قيمتها 760 مليون دولار في سنة 2018، على الرغم من أن معظم البلدان تستورد الحبوب وتطحنها محليًا. ويعد الدقيق مكلفا نسبيًا عند شرائه من الخارج وصعب النقل أيضًا، لكن أفغانستان تلجأ لاستيراده لأنها لا تملك قدرة الطحن اللازمة لصنعه بنفسها.

إذا اضطرت أفغانستان إلى خفض وارداتها إلى المستوى الذي يمكن تمويله من صادراتها – بافتراض أنها تستطيع الاستمرار في التصدير – سيتعين عليها أن تقوم بتخفيض الواردات بنسبة 75 بالمئة. ومن شأن ذلك أن يوجّه ضربة قاسية للبلاد.

بطبيعة الحال، لا تشمل أرقام عائدات الصادرات الرسمية لأفغانستان مصادرها الأكثر إدرارًا للربح وهو الأفيون. ونظرا لكونها المورد الأبرز للأفيون في العالم، يتصور أغلبنا أن أفغانستان دولة فاحشة الثراء، لكن الأفغان لا يسيطرون على التسويق على غرار الكارتلات الكولومبية. 

في سنة 2019، قدّرت الأمم المتحدة عائدات مزارعي الأفيون الأفغان بما يتراوح بين 1.2 مليار وحتى 2.1 مليار دولار. لكن الفوائد تُوزع بشكل غير متساو في المجتمع الأفغاني، وما يصل منها سبق أن حُددت وجهته بشكل كامل. من خلال القنوات المختلفة، تتدفق الأموال إلى الاقتصاد الأفغاني وتغطي تكاليف كل من المشتريات المحلية والمستوردة، التي قد يتم تهريب الكثير منها على سبيل التبادل. وقد بدأت أسواق المخدرات العالمية بالتعافي من أدنى مستوياتها في الجائحة، لكن من غير المنطقي أن تعتمد القوى الغربية على ارتفاع أسعار الهيروين لإنقاذ أفغانستان الجائعة.

استعمال التمويل الخارجي في اللعبة السياسية في بلد بُنيت فيه الحياة طيلة عشرين عامًا الماضية على المساعدات سيؤدي إلى مضاعفة تداعيات الانسحاب القاسي بطريقة غير إنسانية

قد يلجأ بلد محاصر إلى الاعتماد على احتياطاته من العملات الأجنبية لدفع ثمن الواردات. جمعت أفغانستان 9.4 مليار دولار، وهو ما يكفي لتغطية ما يقرب من 18 شهرًا من الواردات.

عندما غادر البلاد، غرّد أجمل أحمدي، محافظ البنك المركزي الأفغاني تحت قيادة رئيس أفغانستان الأسبق أشرف غني، أن طالبان أتت بحثًا عن الاحتياطيات، وخاب مسعاهم عندما اكتشفوا أن الأموال لم تكن في كابول بل في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نيويورك. وباتت تنتظر الحركة عقوبات وزارة الخزانة. وبالمثل، قرر صندوق النقد الدولي الامتناع عن صرف مبلغ 400 مليون دولار من المساعدات المخصصة لأفغانستان ضمن حقوق السحب الخاصة للمخصصات العالمية البالغة 650 مليار دولار. 

كيف ستستمر عجلة الاقتصاد الأفغاني في الدوران؟ إن الغربيين الذين حاولوا إعطاء حركة طالبان تدريبا في الاقتصاد أفادوا بأن الحركة تفترض أن التمويل سيرد إما من باكستان أو الصين. لكن باكستان، التي تنخرط هي نفسها في برنامج صندوق النقد الدولي، لا تملك الموارد اللازمة لتغطية العجز في أفغانستان. وفي الأثناء، قد تبدي الصين استعدادا للمساعدة إلا أنها لم تتعهد بأي التزامات حتى الآن.

حتى قبل الأزمة الحالية، صنّف برنامج الغذاء العالمي نصف السكان الأفغان على أنهم يواجهون نقصًا في الغذاء، وذلك في وقت كانت المساعدات لا تزال تتدفق. يعاني أكثر من 3 ملايين طفل أفغاني من سوء تغذية حاد. إلى جانب ذلك، تعاني البلاد من موسم جفاف قضى على 40 بالمئة من المحاصيل الزراعية هذه السنة. وأكثر فئات المجتمع ضعفاً هم النازحون داخليًا البالغ عددهم 3.4 مليون شخص. إن الشتاء سيكون على الأبواب في غضون أشهر، وأسعار المواد الغذائية في كابول والمدن الكبرى الأخرى ترتفع بالفعل.

مع أنها قد تكون الدعامة الوحيدة المتبقية للغرب، إلا أن استعمال التمويل الخارجي في اللعبة السياسية في بلد بُنيت فيه الحياة طيلة عشرين عامًا الماضية على المساعدات سيؤدي إلى مضاعفة تداعيات الانسحاب القاسي بطريقة غير إنسانية.

إن ما تحتاجه أفغانستان هو جهد إنساني متعدد الأطراف مموّل بشكل كبير لضمان استمرار الحياة إلى أقصى حد ممكن وحماية ملايين الأشخاص من الهلاك. وينطبق على هذه الوضعية الشعار الذي تبنته رئيسة مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في أفغانستان إيزابيل موسارد كارلسن، “ابقوا وقدّموا”، وقد أصابت في ذلك. 

المصدر: فورين بوليسي