جولة واحدة داخل شوارع القاهرة القديمة، لا سيما منطقة الجمالية والحسين والأزهر، كفيلة بأن تأخذ الروح في رحلة على جناح السرعة إلى عصور الإسلام الزاهية، فالتراث المعماري الخالد في تلك المنطقة خير شاهد على قيمة وقامة الحضارة الإسلامية.
وتتحول شوارع المعز لدين الله الفاطمي والغورية والأزهر وخان الخليلي وباب الوزير، ليلًا، إلى مزار سياحي نادرًا ما يوجد نظيره في أي مكان في العالم، ففي تلك الشوارع تقبعُ بنايات تعود إلى آلاف السنين، بعضها ربما يكون أقدم من دول وحضارات بأكملها.
وبثنايا هذه التحفة المعمارية المبهرة، يقبع عدد من الخانقاوات، تلك الأبنية التراثية التي تبعث السكينة في نفس الزائر مع أول خطوات يخطوها بداخلها، وتعتبَر متحفًا مفتوحًا للآثار الإسلامية في مصر، وأحد أبرز الشواهد المعمارية للحضارات التي أرست أشرعتها على شواطئ المحروسة.
وتتعدّدُ وظائف الخانقاه ما بين مكان لتلقّي العلم والتفرُّغ للعبادة، واستراحة للعباد، ومطعم للملوك والسلاطين، ثم أخيرًا مزار مبهج ومبهر للسائحين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين.. فماذا نعرف عن تلك الدرر المنسية؟
الخنقاه في التاريخ الإسلامي
الخانقاه، بالقاف أو الكاف كلاهما صحيح، لفظة فارسية تعني “البيت”، لكنها تشير بحسب العديد من الباحثين الأثريين إلى “بناء ديني أُقيم على نظام الصحن الذي يحيطه إيوان واحد أو أكثر، فبعضها تضمّ بابًا واحدًا وبعضها أربع، وهي بلا مئذنة وبلا منبر وتضمّ مسجدًا لا تُقام فيه صلاة الجمعة، ويُلحَق أحيانًا به ضريح أو مدرسة أو سبيل، تُدرَّس في مدرسة الخانقاه العلوم الدينية على المذاهب الأربعة، قامت الخانقاه أحياناً بدور أوسع من المدرسة في نشر الوعي الديني الموجه”، أما المقريزي فيعرّفها بـ”بيت الأكل أو الموضع الذي يأكل فيه الملك”.
أبو سعيد بن أبي الخير أول من وضع نظامًا خاصًّا لأهل الخانقاوات، وكان يتكوّن من 10 أحكام.
تتباين الرؤى بشأن تاريخ نشأة الخانقاوات في الإسلام، لكن الرأي الأرجح يذهب إلى أنها نشأت في حدود القرن الرابع للهجرة، في البصرة، بهدف تعبُّد المتصوفة، فيما عرفها المصريون في القرن السادس عشر، ويطلَق عليها في بلاد المغرب اسم “الزوايا”، وهو اللفظ المنتشر في بعض الأحياء القاهرية والشامية لكن بصورة أقل.
انتشرت الخانقاوات في العالم الإسلامي كأحد الآثار السلبية لتراجُع المسلمين نهاية العصور الوسطى، حيث ظنَّ البعض أن العودة إلى الله والتعبُّد في الزوايا والمساجد هما الوسيلتان الأفضل لكشف الغمّة واستعادة الأمجاد مرة أخرى، فانتشرَ المتصوفة ومعهم الخانقاوات والزوايا لاستيعاب أعداد المسلمين المقبلة على التعبُّد.
تشير الروايات إلى أن القطب الصوفي أبو سعيد بن أبي الخير (967- 1049م)، هو أول من وضع نظامًا خاصًّا لأهل الخانقاوات، وكان يتكون من 10 أحكام، حيث كان يعيش المتصوفة داخل تلك الزوايا وفق نظام دقيق، يحدِّد طريقة ومواعيد المأكل والمشرب وممارسة طقوس العبادة.
وكان لكل خانقاه شيخ يرأس روّادها وسكّانها من المتصوفة، وكان يشترط أن يكون من الصوفيين أو ذوي الصلة بهم، كما كان لكل واحدة حمام ومطبخ ومخزن للطعام والدواء، بخلاف تعيين حلّاق وطبيب ومساعدين وعمّال للقيام على خدمة المتعبّدين، بما يغنيهم عن العالم الخارجي.
إشعاع إيماني ومجتمعي
البعض قد يتعامل مع تلك الخانقاوات على أنها دور للعبادة فقط، أو لإعداد الطعام للملوك والسلاطين كما كانت قديمًا، دون الخروج عن تلك التعريفات الضيّقة لقراءة ما قدّمته تلك الكيانات من خدمات جليلة للحضارة الإسلامية والمجتمع المسلم على حد سواء، إذ كانت جامع وجامعة، مدرسة وقِبلة، بيت ومَعلَم في آن واحد.
الباحث الدكتور شوقي شعث، عضو اتحاد الأثريين العرب، يستعرض 6 فوائد قدمتها تلك المنشآت التعبُّدية للحضارة الإسلامية، أولها أنها ساعدت على تعليم القرآن الكريم وعلوم السنّة لروادها ومن ثم عمقت الفكر الديني لهم، هذا بجانب مساهمتها في “تشجيع المتصوفة والدراويش والمحتاجين في اللجوء إليها لتعلُّم الإسلام ودفع شبح الجوع والعرى عن كثير من طبقات الشعب، وهو إسهام في حل المشاكل الاجتماعية”.
كما كانت الخانقاة بمنزلة مدرسة يتعلّمُ فيها الشباب روح الجهاد والتضحية في سبيل الله والوطن، وكان لها دور محوري في الانتصارات التي حقّقها المسلمون في حروبهم ضد الإفرنجة في بلاد الشام، بما قدمته من شباب مؤمن بالزود عن دينه والتضحية والفداء لأجل وطنه.
علاوة على ذلك، ساهمت من خلال تأسيس المدارس الخاصة بها في تطوير الحركة العلمية، تعزّزَ هذا الأمر عبر الندوات والمحاضرات ودروس العلم التي كان يلقيها روادها في مختلف العلوم الدينية والدنيوية، وكان لها تأثيرها المحوري في إنعاش حركة التصوف وزيادة أعداد المتصوفة.
جمعت تلك المنشأة التي لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، عدة حضارات في آن واحد.
وأخيرًا هناك بُعد اقتصادي لتلك الخانقاوات، إذ ساهمت الأوقاف الإسلامية التي كانت توقف عليها في إنعاش الحياة الاقتصادية في بلاد المسلمين، وحلّ مشاكل اجتماعية كثيرة، كتقليل نِسَب البطالة بين الشباب وتزويج غير القادرين وسداد ديون الغارمين، وغير ذلك من أنشطة الخير الاقتصادي والمجتمعي.
الخانقاه البيبرسية
تميّزت الفترة التي حكمَ فيها المماليك مصر (1250-1517) بازدهار العمارة الإسلامية، ومن بينها الخانقاوات التي انتشرت بصورة كبيرة لا سيما في وسط القاهرة، وباتت واحدة من أكثر الشواهد والأعلام المميزة لتلك المنطقة التي تجمع بين طياتها مئات السنين من الحضارة.
ومن أشهر الخانقاوات المتواجدة في مصر المحروسة الخانقاه البيبرسية، التي أنشأها ركن الدين بن عبد الله المنصورى الجاشنكير الملقّب بـ”بيبرس”، خلال الفترة 1306-1309م حين كان أميرًا، وُصفت بأنها أجمل خانقاه في القاهرة، وتقع بباب النصر بحي الجمالية.
كان بيبرس، ذلك الرجل ذو الأصول الشركسية، من مماليك السلطان المنصور قلاوون، وكان أحد المقرّبين منه حتى صار أميرًا، ثم ترقّى حتى بات “جاشنكير”، وهي كلمة فارسية تعني التوابل، أي الرجل المتخصِّص في تذوق طعام السلطان للتأكُّد من أنه غير مسموم، وقد سُمّيت الخانقاه على اسمه نظرًا إلى أهميته ومكانته لدى السلطان.
تتمتّع الخانقاه بطراز معماري فريد، يجمع بين الأصالة العثمانية والمصرية في بوتقة واحدة، وتعدّ وجهتها الغربية هي الوجهة الأساسية لها، مبنية بالحجر ينتهي طرفها بباب مزخرف بالرخام الملوَّن، ومكتوب علية آيات من القرآن بالرخام الأبيض، ما يعطيها وقارًا مع أول خطوة يخطوها الزائر.
كانت تضمّ مطبخًا كبيرًا، مسؤول عن توزيع الطعام والحلوى وتقديمها لروّاد الزاوية من المتصوفين والعباد والفقراء، هذا بجانب مدرسة لتلقّي العلم ومسجد للتعبُّد، وكان القرآن يُتلى فيها آناء الليل وأطراف النهار، بخلاف حلقات الذكر النبوي المتعدِّدة في جنباتها، وساهمت في تخريج الكثير من علماء مصر ورجال دينها على مدار عقود طويلة.
جمعت تلك المنشأة التي لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، عدة حضارات في آن واحد، فبجانب تصميمها الإسلامي توجد عتبة فرعوينة في مدخلها، تحملُ 3 مناظر للملك الفرعوني رمسيس التاسع، راكعًا ومقدِّمًا لأواني الخمر، وهناك كذلك جزء من مائدة قرابين من البازلت تحملُ نقوشًا هيروغليفية، وتعود إلى عهد الدولة المتأخِّرة.
ومن أشهر من ارتبط اسمهم بتلك الخانقاه، القطب الصوفي محمد أمين البغدادي، شيخ الطريقة الصوفية النقشبندية، الذي قَدِمَ من موطنه العراق ليقيمَ بالخانقاه ويعتزلَ الناس ويتفرّغَ للدروس وطلب العلم وتعليمه، حتى دُفن بها، وما زال اسمه يتردّدُ على ألسنة المصريين حتى اليوم من خلال بعض العبارات الشعبية، منها “حادي بادي سيدي محمد البغدادي”، تيمُّنًا ببركته ومكانته.
الخانقاه الصلاحية
ومن الخانقاوات الشهيرة في مصر أيضًا الخانقاه الصلاحية، نسبة إلى منشئها صلاح الدين الأيوبي عام 1173م، والتي تقعُ في منطقة الجمالية كذلك، بالقرب من شارع المعز لدين الله الفاطمي، وكان الهدف من إنشائها أن تكون جامعًا وجامعة للمسلمين لتعلُّم علوم الدين والفقه في مواجهة التشيُّع الذي كان منتشرًا في مصر في تلك الفترة.
استمرّت خانقاه الصلاحية على أنها المركز الروحي العقدي الأهم في مصر خلال ولاية صلاح الدين، وكانت مطبخ عقيدة المسلمين ومنهجهم.
حين أسقط صلاح الدين الخلافة الفاطمية في مصر، عقب تولّيه وزارة البلاد عام 1173م، قرّرَ إغلاق الأزهر الذي كان يمثّل مركز تعليم المذهب الشيعي في البلاد، كما أغلقَ كافة المدارس والمراكز الدينية التي تعلِّم المذهب ذاته، والذي كان هو المذهب السائد في مصر في تلك الفترة.
بعد إغلاق كل تلك المؤسسات الدينية، كان لا بد لصلاح الدين من سدِّ هذا الفراغ في عقيدة المسلمين، والذي كان معظمهم لا يعرفُ القراءة والكتابة، ومن ثم فكّر في إنشاء خانقاه كالموجودة في بغداد تقوم بهذا الدور، كجامعة كبيرة لتدريس العلوم الدينية على المذهب السنّي.
اختار القائد المسلم دار سعيد السعداء (الموجودة في شارع الجمالية بالقاهرة)، والذي كان خادمًا للخليفة الفاطمي المستنصر، لتكون مقرًّا للخانقاه، وعليه يطلق البعض اسمه على الخانقاه، وأحيانًا تُسمّى بـ”الخانقاه الصلاحية” نسبة إلى صلاح الدين، حسبما ذكرت بعض المصادر وفي مقدّمتها المقريزي.
أولَى القائد المسلم أهميةً بالغةً لهذا الكيان الديني الكبير، فرصدَ ميزانيات ضخمة له، تحفيزًا للمريدين ودعمًا لهم، وحشدًا لزيادة عددهم في مواجهة ما تبقّى من المدّ الشيعي، كما وضعَ هيكلًا إداريًّا لتلك الدار وأجزل لهم العطاء والرواتب والمكافآت، وكان على رأسهم “شيخ الشيوخ” وهو أكبر منصب في الخانقاه.
كان لهذا الشيخ مواصفات خاصة، أبرزها أن يكون صوفيًّا دون اشتراط مدرسة بعينها، سنّيًّا يميل إلى العقيدة الأشعرية، معتنقًا لأحد المذاهب السنّية الشائعة الأربعة (أبو حنيفة، مالك، الشافعي، ابن حنبل)، وإن كان يفضَّل من ينتمي إلى الفقه الشافعي وإعطائه الأولوية، لكن ليس معنى ذلك ترك مرشّحي المذاهب الأخرى.
واستمرت خانقاه الصلاحية على أنها المركز الروحي العقدي الأهم في مصر خلال ولاية صلاح الدين، وكانت مطبخ عقيدة المسلمين ومنهجهم، حتى قدوم السلطان ناصر الدين محمد بن قلاوون (1285-1341م)، الذي قامَ ببناء خانقاه جديدة على أطراف القاهرة، ثم نقل إليها مكتب شيخ الشيوخ، لتتحول الخانقاه الأمّ إلى فرع تابع لها.
ورغم ندرة الوثائق التي تشير إلى كيفية إدارة تلك الخانقاوات، ومدى تدخُّل سلاطين الدولة في إدارتها، إلا أن هناك مخطوطتَين لوقفيتَين تخصّان إدارة الخانقاه في العصر المملوكي، أشار إليهما الباحث في الجامعة الأميركية ببيروت مايكل أرنولد، في دراسة له بعنوان “الصوفية والمؤسسة التعليمية المملوكية: تطور التعليم السنّي في العصر الإسلامي الوسيط“، وذلك بعدما قام بتحقيقهما علميًّا.
الوقفية الأولى التي تناولتها الدراسة تخصُّ الخانقاه البيبرسية، وتشير إلى أنها كانت تحتوي على 400 متصوف منهم 100 يقيمون بصفة دائمة، فيما يتضمن مبناها قاعات مخصَّصة للعيش وأخرى للتدريس والتعليم، هذا بخلاف أماكن للعبادة وممارسة الطقوس الصوفية، وقد اشتملت الوقفية على وصية من بيبرس بعدم اقتصار الخانقاه على طريقة صوفية واحدة، وأن تُفتح أبوبها لكافة الطرق.
فيما تطرقت الوقفية الثانية إلى خانقاه السلطان المملوكي الظاهر برقوق، الذي حكمَ مصر خلال الفترة 1382-1389م، حيث تبيّن أنه وعلى عكس بيبرس كان يميل إلى المذهب الحنفي، وهو ما نصّت عليه الوقفية بشأن شروط اختيار شيخ الخانقاه، إذ اشترطَ أن يكون حنفي المذهب، كما اشترطت على أئمة الصلاة أن يكونوا فقهاء مجيدين ومتمرّسين للقراءات السبعة.
وهكذا كانت تلك الخانقاوات مطبخًا لعقيدة المصريين، ومائدةً لتناول الوجبات الدينية بين الحين والآخر، وحائطَ صدّ ديني وسياسي وعسكري قوي في بعض الأحيان، ورغم مرور مئات السنين لا تزال شاهدة على إبداع العمارة الإسلامية، وإشعاع حضارة المسلمين الذي لا يخفت أبدًا.