لا يبدو أن الحوثيين اقتنعوا بالسلام، أو يمكن أن يقتنعوا ويجنحوا إليه خلال الفترة القادمة، وسط عدة تسريبات تتحدث عن انفراجة سياسية وفقًا لمبادرة دولية، تمنح كل قوة من القوات المتواجدة على الأرض حكم المنطقة التي تسيطر عليها، وفقًا لنظام فيدرالي جديد في المنطقة.
إذ يعدّ هجومهم المزدوج على قاعدة العند الجوية، كبرى القواعد العسكرية في اليمن، يوم الأحد 29 أغسطس/ آب 2021، والذي راح ضحيته نحو 43 قتيلًا وأكثر من 106 جرحى، رسالة واضحة بنسف كل تلك التسريبات التي تتحدث عن إمكانية الوصول لحلٍّ سياسي في اليمن، بموافقة الحوثيين.
لم يكن الهجوم الأخير على قاعدة العند الجوية الأولَ من نوعه، فقد استهدف الحوثيون القاعدة ذاتها في 10 يناير/ كانون الثاني 2019، خلال عرض عسكري سقط إثره قيادات عسكرية بين جريح وقتيل، أبرزهم رئيس هيئة الأركان اليمني السابق اللواء الركن عبد الله النخعي، ومحافظ لحج أحمد عبد الله التركي، والعميد الركن ثابت جواس، بالإضافة إلى الناطق باسم المنطقة العسكرية الرابعة محمد النقيب، فيما قُتل 6 جنود.
وفي 1 أغسطس/ آب 2019، نفّذ الحوثيون هجومًا بطائرة مسيّرة وصاروخ بالستي، على عرض عسكري في عدن، قُتل فيه قيادات عسكرية في الدعم والإسناد التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، كان أبرزهم العميد منير اليافعي.
وكان أبرز العمليات الهجومية بطيران مسيّر وصواريخ بالستية، الهجوم الذي استهدف الحكومة اليمنية لدى وصولها مطار عدن في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2020، عقب تشكيلها ضمن اتفاق الرياض بين الشرعية والمجلس الانتقالي، أسفر عن مقتل 22 على الأقل.
نجحت جماعة الحوثي في الهجمات الثلاثة الأولى، بإشعال فتيل أزمة كبيرة بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي انتهى بطرد الحكومة اليمنية من العاصمة المؤقتة عدن عدة مرات.
في كل تلك العمليات التي ينفّذها الحوثيون على عروض أو تجمّعات عسكرية أو مدنية في جنوب اليمن، لم تعلِنِ الجماعة صراحةً تبنّيها تلك العمليات، ولكن التحقيقات الدولية تدينها في كل هجوم، وتتّهمها بارتكاب مجازر ترتقي لجريمة حرب.
نجحت جماعة الحوثي في الهجمات الثلاثة الأولى (يناير/ كانون الثاني وأغسطس/ آب 2019 وديسمبر/ كانون الأول 2020)، بإشعال فتيل أزمة كبيرة بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي انتهى بطرد الحكومة اليمنية من العاصمة المؤقتة عدن عدة مرات، وبسبب ذلك تفاقمت الخلافات وسط المكوِّنات السياسية المناوئة للمشروع الإيراني في اليمن.
توحيد الصف
هذه المرة استبقَ الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الإجراءات المتوقَّعة من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي، ودعا المكوِّنات السياسية اليمنية إلى التكاتُف والتلاحُم في مواجهة ما اعتبرها “الميليشيا الإرهابية”.
وقال في منشور على فيسبوك، معزيًا أُسر ضحايا الهجوم: “من يتخيل أنه سيكون بمنأى عن مشروع الموت الذي تقوده ميليشيا الحوثي -بدعم إيراني- فهو واهم، وعلينا جميعًا في الصف الجمهوري أن نعي ذلك جيدًا وأن نوجِّه سهامنا نحو هذا العدو”.
يحاول عبد ربه منصور هادي من خلال حديثه أن يمنع المجلس الانتقالي الجنوبي من اتّخاذ إجراءات تصاعدية، تكون نتيجتها مزيدًا من التمزُّق داخل الصف اليمني المناهض للحوثيين، يقابله تماسُك الميليشيا وتحقيق المزيد من المكاسب.
حاول هادي أن يتوعّد الحوثيين، وكعادته يتوعّد دون أن يفي بذلك، فقد سبق وأن توعّد بالعودة إلى صنعاء في غضون سنوات، غير أنه لم يعد حتى إلى الداخل اليمني، رغم المناطق الواسعة التي حرّرتها القوات الحكومية والقبائل اليمنية.
دلالات التوقيت
جاء الهجوم الحوثي الأخير على قاعدة العند الجوية (29 أغسطس/ آب 2021)، في الوقت الذي توصّلت المملكة العربية السعودية إلى نقطة النهاية من حيث تنفيذ اتفاق الرياض، وكان من المتوقع أن تعود الحكومة اليمنية والبرلمان إلى العاصمة المؤقتة عدن منتصف شهر سبتمبر/ أيلول 2021، إلا أن هذه العملية قد تربِك وتعقِّد المشهد من جديد.
للوهلة الأولى من الهجوم، وكما يبدو أن الحوثيين توقّعوا هذه اللغة، اتّهمَ المتحدث الرسمي باسم القوات الجنوبية، محمد النقيب، حزب الإصلاح (إخوان اليمن) بالتنسيق مع الحوثيين لضرب قاعدة العند الجوية، لكونها تخضع لإدارة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك للقوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي.
#عاجل | المتحدث الرسمي باسم #القوات_الجنوبية، المقدم محمد النقيب: لا نستبعد وجود تنسيق حوثي إخواني في تلك الجريمة الإرهابية #الغد_المشرق pic.twitter.com/4jg1vTy6ZG
— قناة الغد المشرق (@alghadye) August 29, 2021
هذه اللغة المتكررة في كل استهداف حوثي لجمع عسكري، سواء في شمال اليمن أو جنوبه، لم تعد تخدم القضية اليمنية، وإنما تخدم الخطط الحوثية في تعميق الانقسام الداخلي اليمني، والذي يصلُ أحيانًا إلى الصراع والقتال، متناسين الهدف من وجودهم، وهو استعادة الشرعية اليمنية من قبضة الحوثيين.
الدلالة الثانية لتوقيت الهجوم على قاعدة العند الجوية، يأتي في ظل الحراك الدولي المكثَّف لإحلال السلام في اليمن، وهدوء كبير من قبل طيران التحالف العربي، الذي توقّفَ تمامًا عن استهداف المدن اليمنية والعاصمة صنعاء والمعسكرات التي في داخلها، مكتفيًا بالدفاع عن مأرب، كما أن هذه العملية تنذر بعدة رسائل سياسية وعسكرية.
الرسالة العسكرية هي إعلان حوثي صريح ببدء مرحلة جديدة من الصراع العسكري داخل اليمن، والبدء في توسيع عملياتها العسكرية نحو الخارج، وتحديدًا المملكة العربية السعودية، وهو ما تبيّن لاحقًا من خلال إعلان التحالف العربي إحباط هجوم حوثي على المملكة العربية السعودية بطائرات إيرانية مسيّرة.
أما الرسالة السياسية، فيريد الحوثيون تأكيد أن التحركات الدولية الضاغطة على الحكومة اليمنية والتحالف العربي، وتلك التسريبات التي تتحدث عن صيغة حلّ سياسية توافقية، من خلال منح كل مجموعة مسلّحة المنطقة التي تسيطر عليها لحكمها، لا تعنيهم، وما يعنيهم هو الميدان وتنفيذ الشروط، واستسلام التحالف العربي للحوثيين، وتسليم اليمن لطهران.
هناك أيضًا رسالة إيرانية في الهجوم على قاعدة العند الجوية، يبدو أنها رد على دعوات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، وعدد من الدول العربية، في قمة بغداد للتعاون والشراكة، لإيران بعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ووقف دعم التنظيمات الإرهابية.
ويبدو هذا الردّ على الأرض من خلال الهجوم الدامي على قوات عسكرية يمنية يدعمها التحالف العربي، وكذلك الهجمات المتكرِّرة على السعودية، كإشارة على أن إيران تستطيع أن تفعل ما تريد في عقر دار العرب.
لكنّ هناك استخلاصًا وعبرةً من الهجوم الحوثي المتكرِّر على القواعد العسكرية اليمنية في الشمال والجنوب، هما أن الهجوم يدحض كل الأوهام التي تتحدّث عن أن الحوثي يهدِّد المناطق الشمالية أو الجنوبية، أو مكوِّنًا سياسيًّا يمنيًّا واحدًا.
كما أنه يثبت أن الحوثي لا يفرّق بين الشمال والجنوب، أو الإصلاح والمؤتمري والاشتراكي والناصري والسلفي، وكافة الأحزاب اليمنية الأخرى، وأنه خطر وجودي يهدِّد جميع اليمنيين، ويتغذّى من تفتيت البنية المجتمعية وتدميرها بشعارات ودعاوى شطرية وجهوية وطائفية.
أخطاء التحالف
حينما بدأت الخلافات داخل المكوِّنات اليمنية، وطالبَت الإمارات العربية المتحدة بالخروج من التحالف، سحبَت الإمارات كل بطاريات الدفاع الجوي من المعسكرات اليمنية، سواء في شمال اليمن أو جنوبه، دون أن تملأ المملكة العربية السعودية ذلك الفراغ.
وقد سهّل ذلك للحوثيين ارتكاب تلك العمليات من حين إلى آخر، ومن هنا يمكن توجيه اللوم نحو المملكة العربية السعودية، التي تقود تحالفًا دوليًّا لإعادة الشرعية في اليمن.
من غير المعقول أن تظلَّ المعسكرات اليمنية التي يطل على أغلبها جبال شاهقة، معرّضة للقصف الحوثي المتكرِّر، دون أن يكون هناك تحرك لمنع تكرار مثل هذه العمليات الإرهابية.
ومن ضمن أخطاء التحالف أنه سمح للخلافات داخل صفّ الحكومة الشرعية، أن يتفاقم دون أن يعمل على حلِّ الإشكالية سريعًا، أو على الأقل تأجيل كل ذلك إلى ما بعد انتهاء الحرب في اليمن، بالتزامن مع دعم عملية عسكرية سريعة لإعادة الشرعية إلى البلاد.
الخلاصة
إدانة الجريمة الحوثية المتمثّلة في قصف قاعدة العند، أو حتى الإعلان عن علاج الجرحى، كما أعلنها الرئيس اليمني، أمر يمكن أن تقوم به أي منظمة إنسانية، فدور الحكومة ينبغي أن يتجاوز ذلك بكثير، وفي مقدمة ذلك الوقوف أمام أسباب الاختلال الحقيقية، التي مكّنت المشروع الحوثي من أن يظل مصدر خطر متزايد بعد 7 سنوات من الحرب.
وليس من العقل ولا من المنطق أن تترك السعودية والإمارات الجيش بعد 7 سنوات من الحرب مكشوف الظهر، وهما من تتحملان مسؤولية إضعافه، إضافة إلى اختلال وهشاشة العملية السياسية اليمنية التي أدّت إلى أن تكون المؤسسة العسكرية ضعيفة وغير قادرة على أن تقوم بواجبها كمؤسسة دولة، وحتى الآن الأطراف السياسية تسعى إلى تفكيك هذه المؤسسة وإضعافها وعدم مساندتها.
على التحالف العربي إعادة صياغة استراتيجية الحرب في اليمن، والعمل على تشكيل قوة عسكرية موحَّدة، والعمل على تسليحها بأحدث الأسلحة، وحماية المعسكرات من خلال إعادة المضادات الجوية وبطاريات صواريخ الباتريوت، ومن ثم العمل على الجانب العسكري سريعًا.
من غير المعقول أن تظلَّ المعسكرات اليمنية التي يطلُّ على أغلبها جبال شاهقة، معرّضة للقصف الحوثي المتكرِّر دون أن يكون هناك تحرك لمنع تكرار مثل هذه العمليات الإرهابية، والتي تتسبّب في تصدُّع الطرف المناهض للحوثي والمشروع الإيراني في اليمن.
لا يمكن أن يتوقف الحوثي عن ارتكاب مثل هذه الجرائم، ولا يمكن أن يقبل السلام ما لم تتغير الاستراتيجية للتحالف العربي والحكومة الشرعية، وإجبار الحوثي على قبول الشروط من خلال حملة عسكرية منظَّمة، تعمل على استعادة المناطق التي يسيطر عليها، وحصاره في منطقة واحدة لكي يقبل بالسلام.