في أجواء ودية وابتسامات تعلو وجوه الحاضرين، التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، على هامش مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، الذي عقد بالعاصمة العراقية، السبت 28 من أغسطس/آب الحاليّ، في لقاء هو الأول بينهما منذ توتر العلاقات بين البلدين في أعقاب قطع العلاقات الدبلوماسية في 5 من يونيو/حزيران 2017.
اللقاء يعكس القفزات الدبلوماسية التي خطاها الجانبان للوصول إلى هذه المرحلة من تبريد الأجواء، مقارنة بما كانت عليه في السابق، ولعل الواقعة الشهيرة لوزير الخارجية المصري سامح شكري، حين أطاح بميكروفون قناة “الجزيرة” من على طاولة المؤتمر الصحفي لاجتماع “سد النهضة” بالخرطوم الذي عقد في 12 من ديسمبر/كانون الأول 2015 تكشف طبيعة المناخ العام بين البلدين حينها.
البيان الصادر عن المتحدث باسم الرئاسة المصري أشار إلى حرص الرئيس المصري على التعاون المثمر مع قطر في إطار التضامن العربي والاحترام المتبادل، فيما أعرب الشيخ تميم عن تقديره للتطورات الإيجابية التي تشهدها العلاقات المصرية القطرية، مؤكدًا تطلع بلاده لتعزيز التباحث مع الشقيق العربي بشأن سبل تعزيز العلاقات الثنائية.
منذ توقيع اتفاق “العلا” في يناير/كانون الثاني الماضي، والعلاقات بين القاهرة والدوحة تسير بخطوات تقدمية ثابتة نحو فتح صفحة جديدة، تعززت بجهود دبلوماسية مكثفة عبر الزيارات المتبادلة واللقاءات المشتركة التي جمعت مسؤولي البلدين، في توجه برغماتي بحت لدى الطرفين، في ظل التحديات الإقليمية والدولية التي تواجه الجميع، وتتطلب إعادة النظر في خريطة التحالفات والتوجهات.
يمكن قراءة هذا التقارب، المرفوض من بعض حلفاء القاهرة، في ضوء عدد من السياقات التي مهدت الطريق نحو تجفيف منابع التوتر، هذا بخلاف حزمة من الدوافع كان لها مفعول السحر في تراجع الطرفين خطوة للخلف من أجل تحقيق بعض التفاهمات المشتركة، التي بلا شك سيكون لها انعكاساتها على مستقبل العلاقات المشتركة والملفات الساخنة في المنطقة التي تتشابك فيها مصالح البلدين بصورة كبيرة.
حراك دبلوماسي برغماتي
لم يكن لقاء السيسي-تميم في بغداد هو الأول من نوعه في سياق التقاربات الدبلوماسية بين الطرفين منذ المصالحة الخليجية في الـ5 من يناير/كانون الثاني الماضي، إذ يعد تتويجًا لخطوات سابقة مهدت الطريق نحو هذا اللقاء الذي يحمل الكثير من الدلالات والمؤشرات.
البداية كانت في 23 من فبراير/شباط الماضي، حين التقى وفدا البلدين في الكويت لبحث آليات تنفيذ “اتفاق العلا”، تبعه لقاء آخر جمع وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، على هامش اجتماعات المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية بالقاهرة مطلع مارس/آذار الماضي.
وفي الـ9 من الشهر ذاته زار وفد قطري القاهرة بهدف تنسيق آليات عودة العلاقات بين البلدين وتعزيز سبل الشراكة الاقتصادية، فيما جرى اتصال هاتفي بين وزيري الداخلية هنا وهناك في منتصف الشهر لبحث التعاون في عدد من القضايا الأمنية.
كان لتلك التحركات الدبلوماسية المكثفة، المصرية التركية والمصرية القطرية والسعودية القطرية، ثم السعودية العمانية، تداعيات كبيرة على خريطة التحالفات الإقليمية التقليدية، ليعاد تشكيلها من جديد وفق أجندات مختلفة
وفي الـ12 من أبريل/نيسان الماضي كان الاتصال الأول من نوعه على المستوى الرئاسي منذ القطيعة بين الدولتين، حين اتصل أمير قطر بالرئيس المصري لتهنئته بحلول رمضان، ليفتح الباب أمام زيارات متبادلة ولقاءات مكثفة على كل المسارات، كان أبرزها زيارة وزير الخارجية القطري للقاهرة، مايو/آيار الماضي، في إطار جولته بالمنطقة، تخللها توجيه دعوة من الشيخ تميم للرئيس السيسي بزيارة الدوحة، وهي الدعوة التي ثمنها الرئيس المصري بشكل كبير.
يذكر أن العلاقات بين البلدين شهدت موجات من المد والجزر منذ 2011، تباينت صعودًا وهبوطًا مع التغيرات السياسية التي شهدتها مصر خلال السنوات العشرة الماضية، التي كانت أشبه بحرب باردة عربية، لكن سرعان ما هدأت الأجواء بفضل التحركات الدبلوماسية والسياقات الدافعة لحتمية التقارب.
سياقات التقارب
لا يمكن قراءة هذا التقارب بمعزل عن حزمة من السياقات التي ساعدت على تعزيز التحركات الدبلوماسية وتخفيف التوتر بين البلدين، أبرزها التوقيع على بيان المصالحة الخليجية على هامش القمة الـ41 لدول مجلس التعاون في العلا، الذي كان نقطة الانطلاق نحو كسر حالة الجمود السياسي الذي استمر ثلاث سنوات كاملة.
وبعد أقل من أسبوعين من التوقيع على البيان استؤنفت الرحلات الجوية المباشرة بين الدوحة والقاهرة، بعد الحظر الذي فرضه الجانبان على الرحلات والأجواء بينهما، فيما هدأ الخطاب الإعلامي المتبادل وتوقفت الحملات الإعلامية بشكل كبير، في مؤشرات عكست رغبة الطرفين في إتمام عملية التصالح.
التقارب السعودي القطري كان دافعًا قويًا للجانب المصري للسير في الاتجاه ذاته، رغم التحفظ الإماراتي، الحليف الأقرب للقاهرة، وبمبدأ برغماتي بحت خطى المصريون والأتراك خطوات ناجحة في مسار التقارب، بعد التصريحات الإيجابية المتبادلة بين مسؤولي البلدين.
ها هو الإعلام المصري الذي كان يتهم حماس والمقاومة بأنها حركات إرهابية، اليوم يحتفي بانتصارها ويشيد ببطولاتها في التصدي للانتهاكات الإسرائيلية، ليتطابق بشكل كبير مع الخطاب الإعلامي القطري الذي تتبناه قناة الجزيرة تحديدًا
كان لتلك التحركات الدبلوماسية المكثفة، المصرية التركية والمصرية القطرية والسعودية القطرية، ثم السعودية العمانية، تداعيات كبيرة على خريطة التحالفات الإقليمية التقليدية، ليعاد تشكيلها من جديد وفق أجندات مختلفة، تضع مصالح الدول فوق أي اعتبارات أخرى، وهو ما أدى في النهاية إلى خروج الإمارات – نتيجة عبثها في المنطقة – من المشهد بصورة كبيرة، ما نجم عن ذلك تحركات انفرادية من أبو ظبي تعارضت والأمن القومي للقاهرة والرياض تحديدًا، الأمر الذي زاد من الفجوة بينهما لصالح التحالف الجديد.
إزاحة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن المشهد (كان أحد أسباب إشعال الشرق الأوسط طيلة سنوات حكمه الأربعة) وقدوم جو بايدن، أرسى قواعد جديدة كان لها ارتدادتها فيما يتعلق بإعادة صياغة العلاقات والتحالفات بين واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط، الأمر الذي كان دافعًا قويًا لقوى المنطقة لبحث إعادة تموضعها في مواجهة تلك المستجدات التي تحمل معها تحديات جسام.
وتحاول قطر التي تسعى بكل قوة للاستفادة من الدروس الصعبة لسنوات الأزمة الخليجية الأخيرة أن تنوع شبكة علاقاتها وحلفائها في المنطقة، حتى لو تطلب ذلك العودة خطوات للوراء مع بعض الأنظمة، فيما تسعى القاهرة بالمنطق ذاته نحو تعزيز تحالفاتها الإقليمية تحسبًا لأي ضغوط محتملة من الإدارة الأمريكية الجديدة لا سيما فيما يتعلق بملفي الديمقراطية وحقوق الإنسان.
القضية الفلسطينية
ساهمت القضية الفلسطينية بشكل كبير في تقريب وجهات النظر بين القاهرة والدوحة، حيث لعب الطرفان دورًا محوريًا في الوساطة بين المقاومة وتل أبيب لوقت القتال، وهي التحركات التي أجبرت مصر وقطر على التخندق داخل نفق واحد، باعتبار أنهما أكثر الأطراف الإقليمية قابلية للتواصل مع طرفي النزاع، حماس والسلطة الفلسطينية من جانب والحكومة الإسرائيلية من جانب آخر.
مهد العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة الأجواء للقاءات عدة بين استخبارات البلدين، مصر وقطر، أسفرت في النهاية عن نجاح المهمة الدبلوماسية في وقف القتال، ورغم أن المواجهات لم تتوقف بشكل كامل، لكن الجهود المصرية القطرية المبذولة في هذا الإطار لاقت استحسانًا كبيرًا لدى الشارع العربي.
الخطاب الإعلامي لكلا البلدين، ولأول مرة، بدأ يعزف على ذات الأوتار، فها هو الإعلام المصري الذي كان يتهم حماس والمقاومة بأنها حركات إرهابية، اليوم يحتفي بانتصارها ويشيد ببطولاتها في التصدي للانتهاكات الإسرائيلية، ليتطابق بشكل كبير مع الخطاب الإعلامي القطري الذي تتبناه قناة الجزيرة تحديدًا.
وعليه كان للملف الفلسطيني والهجوم العسكري على غزة تحديدًا، دوره في تعزيز التفاهم والتناغم بين البلدين، لا سيما بعد التزام بعض القوى المؤثرة الأولى الصمت أو الميل نحو الابتعاد قليلًا عن الأضواء في هذا الملف، كالسعودية وإيران مثلًا، فيما خرجت الإمارات عن إطار الصورة بأكمها حين اختارت التطبيع والتقارب مع دولة الاحتلال على حساب مرتكزاتها الوطنية فيما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية.
الهرولة الإماراتية وفريقها المطبع نحو تعميق مجالات الشراكة والتعاون مع تل أبيب، سواء في الشرق الأوسط أم في العمق الإفريقي، أحدث شرخًا كبيرًا في العلاقات مع القاهرة التي اضطرت مدفوعة بمصالحها لإعادة النظر في خريطة تحالفاتها القديمة، فكان الانفتاح نحو تركيا وقطر وغيرها من الدول التي كانت تعاني من علاقات متوترة معها في السابق.
العديد من الملفات كان لها قوة الدفع الكبرى نحو إحداث تفاهمات مشتركة بين البلدين، على رأسها “ملف سد النهضة” الذي يعتبر بالنسبة للمصريين مسألة حياة أو موت
عامل ضغط قوي
يشكل البعد الاقتصادي رقمًا صعبًا في إعادة النظر في مستقبل العلاقات بين البلدين، لا سيما في ظل التداعيات الكارثية لجائحة كورونا على خريطة الاقتصاد العالمي، الأمر الذي دفع كل بلد نحو تعزيز منظومته الاقتصادية عبر الحفاظ على شراكاته الحاليّة والبحث عن أخرى جديدة.
القاهرة في تحركها نحو التقارب مع الدوحة رغم الخلافات بينهما تضع نصب عينها قرابة 400 ألف عامل مصري يعلمون في هذا البلد العربي، لهم تأثير قوي في توفير العملة الصعبة في مصر، الموقف ذاته مع قطر، إذ تمتلك قرابة 220 شركة تعمل في مجالات اقتصادية عدة في مصر.
وقد أظهرت بيانات الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) أن العلاقات الاقتصادية بين الدولتين شهدت تحسنًا ملحوظًا خلال العام الماضي سواء على مستوى التبادل التجاري أم الاستثمارات القطرية، إذ ارتفعت استثمارات القطريين في مصر خلال عامي 2019/2020 بنسبة 78%، إذ بلغت 679.4 مليون دولار العام الماضي، فيما ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين في 2020 إلى 25.5 مليون دولار بزيادة 11.8%.
تفاهمات مشتركة
العديد من الملفات كان لها قوة الدفع الكبرى نحو إحداث تفاهمات مشتركة بين البلدين، على رأسها “ملف سد النهضة” الذي يعتبر بالنسبة للمصريين مسألة حياة أو موت، فبينما تعزز الإمارات علاقاتها مع حكومة آبي أحمد، وكانت لها الحاضنة السياسية والاقتصادية في مواجهة التحديات الداخلية التي تواجهها خلال الآونة الأخيرة، تحاول قطر لعب دور أكثر اتزانًا لحلحلة الأزمة من خلال الوساطة بين القاهرة وأديس أبابا.
كشف القطريون عن مساعيهم المتواصلة لتقديم كل الجهود الدبلوماسية للإسراع من وتيرة مفاوضات السد وتذليل العقبات عبر عدة تفاهمات مع الجانبين، وهو ما أكدته زيارة وزير الخارجية القطري لأديس أبابا، مايو/آيار الماضي، بعد يوم واحد فقط من لقائه السيسي، التي تزامنت مع سحب أبو ظبي مبادرتها للمصاحلة بين السودان وإثيوبيا.
الملف الليبي كان حاضرًا بقوة هو الآخر في سياق التفاهمات المشتركة الدافعة لتعزيز التقارب بين القاهرة والدوحة، إذ يتمتع الجانبان بنفوذ قوي في الملعب الليبي، ورغم تباين وجهات النظر بينهما في إدارة المشهد (قطر لها علاقات قوية مع حكومة الوفاق فيما تتمتع مصر بحضور قوي مع الجانب الشرقي وقوات خليفة حفتر)، فإن التنسيق المشترك، بجانب تركيا، أسفر في النهاية عن التوصل إلى حلول سياسية للأزمة الليبية من خلال حكومة ومجلس رئاسي مؤقت تمهيدًا لإجراء انتخابات موحدة تنهي حالة الانقسام التي تعاني منها الدولة الليبية.
يبدو أن التحديات التي فرضتها المستجدات الإقليمية والدولية والمصالح المشتركة والسياق العام الدافع بكل قوة نحو إعادة النظر في التموضعات الحاليّة، كانت لها الكلمة العليا في إجبار البلدين على المضي قدمًا نحو تطبيع العلاقات وتنحية الملفات الخلافية مؤقتًا، والتحرك نحو معالجة القضايا التي تتقاطع مع مصالح الدولتين.. لكن يبقى السؤال: هل الضمانات الحاليّة كافية لتجنب حدوث ردة في تلك العلاقات؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.