تواصل القيادتان السياسية والعسكرية في تركيا جهودهما من أجل إحداث مزيدٍ من التطوير في مجال الطائرات المسيّرة، سواء كان هذا التطوير في الكمّ أو في إضافة أنواع جديدة إلى سلة المنتجات التركية المصنَّعة محليًّا بشكل شبه كامل في هذا المجال.
تصنَّف هذه الجهود تحت عديد من العناوين والأهداف المتداخلة والمتشعّبة في الوقت نفسه، على رأسها محاولة الاكتفاء الذاتي من المنتجات الدفاعية بشكل عام، وزيادة مساهمة منتجات هذا المجال في الناتج القومي، عبر التصدير وتوفير العملة الصعبة في الاستيراد، واستخدامها أداةً لتعزيز الدبلوماسية الخشنة والنفوذ التركي في الخارج، والاستثمار في أدوات الحروب غير المتماثلة التي تشغل العالم حاليًّا، وطرْق باب مجال دفاعي جديد يمكن لتركيا أن تبلي حسنًا فيه بدلًا من المجالات الخاضعة للاحتكار الدولي.
في هذا السياق خلال الأيام الماضية، كان هناك اهتمامٌ كبير وانتظار من صنّاع القرار في تركيا، وحلفاء أنقرة في المنطقة المعوّلين على جهودها لكسر الهيمنة الدولية في هذا المجال، وخبراء الأمن والدفاعيات؛ لخبر إطلاق المسيّرة المحلية الصنع “أقنجي” رسميًّا في فضاء المجال الجوي التركي، بعد بيانٍ نشرته الشركة المصنِّعة بهذا الخصوص، قالت فيه إن “المقاتلة الصنديدة تتأهّبُ لحماية سماء تركيا”.
طول انتظار
من المفترض أن المسيّرة التركية المطوَّرة من قبل شركة “بايكار”، لمؤسِّسها سلجوق بيرقدار، والتي أُطلق عليها اسم “أقنجي”، هي التطوير الأحدث والأكثر جاهزية لنماذج المسيّرات التركية السابقة مثل أنكا وبيرقدار تي بي 2، التي أثبتت جدارتها محليًّا ودوليًّا، وقدرتها على الحصول على زبائن خارجيين.
الحدث الأبرز في ميلاد المسيّرة التركية الجديدة “أقنجي” كان قبل عامَين بالضبط، حينما تمّ اختبار المحرِّك المصنوع محليًّا من قبل شركة “تيي” التركية، في سبتمبر/ أيلول 2019 بنجاح، مع الكشف عن النماذج الأولية للطائرة.
كان أحد أهم الاختبارات التي خضعت لها الطائرة هو التحليق المتواصل لأكثر من 13 ساعة، بحمولةٍ تسليحية كاملة، على ارتفاع تخطّى 38 ألف قدم.
على المستوى الإعلامي، كان الحدث الأبرز أيضًا هو الفيلم الوثائقي الذي بثّته شركة “بايكار”، قبل عامٍ من الآن، عن المسيّرة وتفاصيل إنتاجها، الذي حقّقَ، رغم كونه محتوى تقنيًّا غير ترفيهي، أكثر من 5 ملايين مشاهدة، وذلك لأسباب من بينها اختيار مسؤولي الفريق الدعائي للشركة توقيتًا كانت المسيّرات التركية تصول وتجول خلاله بالخارج في أكثر من مكان، في سوريا وليبيا وأذربيجان.
قبل شهر من الآن، كان أحد أهم الاختبارات التي خضعت لها المسيّرة، خلال التجربة العملية في يوليو/ تموز الماضي، استطاعتها التحليق المتواصل لأكثر من 13 ساعة، بحمولةٍ تسليحية كاملة، على ارتفاع تخطّى 38 ألف قدم.
وقد بثّت شركة “بايكار” مقطعًا دعائيًّا هذا الأسبوع، يُظهر عددًا كبيرًا من المهندسين والفنيين يقومون بجهد دؤوب في الاختبارات، ووضع اللمسات الأخيرة على المسيّرة، قبل تسليمها رسميًّا للجيش التركي في حفل التسليم الذي حضره الرئيس التركي رجب أردوغان يوم الأحد الفائت.
نموذج ثوري هجين
أهم ما يميّز هذه المسيّرة الجديدة هو أنها، من حيث الوظائف، تعدّ طفرةً وتوسيعًا لأدوار ومهامّ المسيّرات، بشكل يجعلها في منطقة وسيطة بين طائرات التدريب المتقدِّم من جهة، وأحدث أنواع المسيّرات التي تمتلكُ تقنيات مشابهة للطائرات التقليدية المقاتلة من جهة أخرى.
لا نقول بالطبع إن “أقنجي” طائرة تدريب متقدِّم، أو أنها طائرة تقليدية مقاتلة، ولكنها نموذج فريد في فئتها؛ إذ يمكنها، وقد صُنعت خصيصًا من أجل القيام بأعمال المراقبة والاستطلاع، جنبًا إلى جنب مع القصف الأرضي؛ أن تحمل ذخائر موجَّهة بوزن غير بسيط.
كما أنها تمتلك رادارًا متقدِّمًا من طراز “أيسا”، وهو نموذج مصغّر من رادارات الطائرات الأميركية التقليدية، مثل عائلة “إف” التي تصنع من لوكهيد مارتن وبوينغ.
صُمِّمت “أقنجي” خصيصًا من أجل الاستمرار في التحليق في الأجواء طوال اليوم بلا توقف، وفي الوقت نفسه من أجل إمكانية التحليق على ارتفاعات شاهقة تتجاوز 40 ألف قدم، وتقول بعض التقارير إنها تصلُ إلى ارتفاع 50 ألف قدم، مدعومة في ذلك بمحركَين قدرة الواحد منهما 240 حصانًا.
ورغم ذلك، فإن “أقنجي” ليست طائرة خفيفة الوزن، سواء كان ذلك في وزن الطائرة نفسها، أم في وزن حمولتها التسليحية، بالمقارنة بشقيقتها الصغرى “بيرقدار”، فبينما تحمل الأخيرة 150 كيلوغرامًا من الذخائر فقط، فإن “أقنجي” بمقدورها أن تحمل 1360 كيلوغرامًا، ضمن وزنها الكلي الذي يتخطّى 5 أطنان عند التحليق.
وفي الوقت نفسه فإن “أقنجي” يمكنها أن تطير على ارتفاعات شاهقة أشرنا إليها، بهذه الحمولة التسليحية الضخمة، ليوم كامل، بسرعة تقدَّر بـ 25 عقدة في الساعة، وذلك بفضل قوة المحرِّكات والتصميم الفريد ذي الأجنحة القابلة للطيّ، ما جعل الرئيس التركي أردوغان يقول إنها “ستمثّل صدمةً للعالم، وستتحدّثُ عنها كل وسائل الإعلام العالمية”.
تلك المسيّرة يمكن وصفها بأنها أحد المشاريع القومية للدولة التركية.
وتمتلك المسيّرة، التي تم تسليمها إلى الجيش التركي بحضور رفيع لمسؤولي الدولة في ولاية تكيرداغ، شمال غرب البلاد، حزمةً إلكترونية متميزة، على رأسها رادار متخصِّص في تحديد حالة الطقس، وعدد كبير من الحواسيب التي تقوم بمعالجة البيانات باستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، إلى جانب أنظمة الاتصال بالقمر الصناعي والدعم الإلكتروني.
مشروع قومي لتركيا
يقول مؤمن أشرف، مهندس مصري تدرّج في عدة وظائف داخل مشروع إنتاج الطائرة التركية المسيّرة “بيرقدار أقنجي تيها”، بدايةً بإدارة الذكاء الاصطناعي مرورًا بفريق إدارة المشروع ووصولًا إلى برنامج التغيير الهندسي؛ إنّ تلك المسيّرة يمكن وصفها بأنها أحد المشاريع القومية للدولة التركية.
بدأت تركيا هذا المشروع، وهي ضمن الدول الأربعة الكبرى في مجال إنتاج الطائرات المسيّرة، أميركا والاحتلال الإسرائيلي والصين ثم تركيا؛ ولكن مع دخول “أقنجي” إلى الخدمة رسميًّا في الجيش التركي، “باتت تركيا الدولة الثالثة عالميًّا في هذا المجال، بعد أن تفوّقت على الصين، في الكمّ والنوع” على حدّ قول أشرف، وهو ما أكّده الرئيس التركي أيضًا خلال حفل التسليم.
بُنيت الطائرة بشكل شبه كامل، رغم كلّ المواصفات المعقّدة فيها، من الحمولة التسليحية الكبيرة والقنابل الموجّهة وصواريخ جو-جو بجهود تركية، “بما في ذلك أجهزة الذكاء الاصطناعي والأفيونكس والمحرك المصنوع بواسطة شركة توساش تاي”، يقول أشرف.
أحد أهم الدروس التي يمكن الاستفادة منها بحسب الشاب، الذي يسعى إلى المساهمة في استقطاب كثير من العقول التقنية الفذّة من العالم الإسلامي إلى العمل في حقل الصناعات الدفاعية التركية، مستلهمًا تجربته الشخصية كشابٍّ مصري في الأساس، هو أنه “لولا القرار السياسي، لن تكون هناك إنجازات تقنية بهذا المستوى والشكل”.
فقد بدأ سلجوق بيرقدار، مؤسِّس شركة “بايكار” المصنِّعة لـ”أقنجي”، أحلامه في هذا المجال قبل نحو 16 عامًا بطائرة مسيّرة تزن 5 كيلوغرامات فقط مع 10 أشخاص، وبفضل الدعم السياسي باتت “بايكار” تشغّل أكثر من ألف مهندس وتقني، وتنتج 8 أنواع من المسيّرات المطلوبة داخليًّا وخارجيًّا في وقت واحد.
وفقًا لأشرف، فإن “”أقنجي” تنتمي إلى الفئة المعروفة بـ”تكتيك أ”، ومع هذا الإنجاز فإن الشركة التركية لن تقف عند هذا الحد، وإنما ستعمل أيضًا بالتزامن على مشروع النسخة تي بي 3 من “بيرقدار”، والطائرة المقاتلة المسيّرة من طراز ميوس التي كُشف النقاب عنها مؤخّرًا”.
المارد استيقظ
في نهاية معرض IDEF 2021 في نسخته الـ 15، والذي أعددنا أكثر من مادة صحفية لتغطيته على خلفية إقامته في إسطنبول منذ أيام، وما حظيَ به من اهتمام دولي ضخم، وترتيبه المتقدِّم عالميًّا في مجال المؤتمرات الدفاعية، سلّطنا الضوء على تصريحات خلوصي أقار وزير الدفاع التركي، التي قال فيها إن التقدم في مجال التصنيع العسكري محليًّا مدروس بعناية.
المسؤول التركي نفسه علّقَ هذه المرة خلال تسليم تلك المسيّرة الجديدة من المصانع المحلية إلى الجيش، بأنّ “المارد استيقظ وليس هناك أي عودة إلى الوراء”، وذلك بالاتّساق مع تصريحات مشابهة من الرئيس التركي أردوغان قال خلالها في المناسبة نفسها: “إن أحدًا لا يستطيع أن ينقل حجرًا في الإقليم، دون التنسيق مع تركيا”.
هذه الإنجازات المتوالية في كل ما يخصّ الحقل الدفاعي، تصنيعًا وتسويقًا وتطويرًا وتصديرًا، تتواكب مع ظروف في غاية الصعوبة على حدّ قول أقار، الذي قال: “تنتج تركيا 80% من حاجاتها الدفاعية، رغم كلّ الحظر الضمني والمباشر الذي تعرضت وتتعرض له في هذا المجال”.
وقد زفَّ وزير الدفاع التركي بشرى جديدة إلى الرأي العام في بلاده خلال هذه المناسبة، قائلًا إن هذه المشاريع هي خطوات من أجل الوصول إلى حلمَيّ “إنتاج الطائرة المقاتلة المحلية، ومنظومة الدفاع الجوي الوطنية بأيادٍ تركية في أسرع وقت”، وفقًا لأقار.