لدي شغف حقيقي لقراءة المقالات المترجمة ومقارنتها بالنص الأصلي للوقوف على قدرة “المترجم” الحقيقية في العزف الموسيقي الرائع للنصوص والكلمات والحروف ومدى إبداعه في تشكيل قالب أدبي مميز من نص جاف صامت مع الحفاظ على المضمون العام للمقال، باعتبار الترجمة فن تطبيقي يعتمد على مهارات وقدرات وخبرات “المترجم” مع شيء من الموهبة والإبداع فـ “المترجم” في الحقيقة كاتب مبدع صاحب باع كبير في اللغة وفنونها وأدواتها مع القدرة العالية في صياغة وإعادة تشكيل المقال المترجم لنص أدبي والذى يعده البعض أصعب من كتابة مقال ذاته .
والترجمة كما يسميها “محمد سعيد الريحاني” هي الأرضية الصلبة للانطلاق والإقلاع الحضاري بين الأمم إنسانيًا وحضاريًا، كما أنها الترمومتر الذي يقاس به الدورة الحضارية لكل أمة، وأيضًا هي وسيلة التواصل بين الشعوب من خلال الإسهام الفكري والثقافي لكل أمة، وكذلك العامل الأهم لحفظ الثقافة الإنسانية من الضياع، ولازالت الترجمة تعزّز التلاقي والتلاقح الحضاريّين، وترعى التقارب الثقافي بين الشعوب، وتدحض الصدام، وتدعم الحوار والتبادل الثقافيين بين أمم الأرض، وتسهّل التواصل بين الأمم، وتفتح النوافد على الثقافات الأخرى للشعوب الأخرى.
لكن تنتابني إشكالية كيف يحافظ” المترجم” على هويته ورسالية مهنته مع عدم الانجرار وراء المصطلحات الغريبة على أمته وقضايا الرأى العام والتي تحفر في ذاكرة الرأى العام وتشكل توجهاته نحو قضايا كبرى ومصيرية؟
وحتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذه الإشكالية، هناك اهتمام كبير جدًا وملحوظ من كثير من المواقع الإلكترونية بترجمة مقالات وتقارير غربية وأمريكية تهتم بشئون العالم العربي والإسلامي وقضاياه، وهذه المقالات وتلك التقارير لكتاب قد يحملون توجهات وأيدولوجيات قد تختلف مع هوية الأمة وأطروحاتها ورأيها العام الداعم لقضايا كبرى ومصيرية في حياته كالقضية الفلسطينية مثلاً، أو الثوابت الفكرية والمنهجية الدينية والسياسية والأخلاقية للأمة كالاهتمام بقضايا الشواذ جنسيًا والاحتفاء بهم.
ومثال لذلك عندما يتكلم الكاتب عن “المقاومة الفلسطينية” ويصفها “بالمليشيا الفلسطينية” أو “الإرهاب الفلسطيني” وينقلها” المترجم” هكذا “المليشيا” أو “الإرهاب” أجد نفسي – وقد يشاركني في ذلك كثير من أبناء الأمة – أمام خيانة كبرى من “المترجم” – سواء قصد هذا أم لم يقصده – لهويته ورسالية مهنته ولأمته وقضاياها الكبرى كما أن “المترجم” ومعه الموقع – سواء بقصد أو بدون قصد – يساعد في تشكيل رأي عام مخالف لتوجهات الأمة وأطروحاتها ويرسب في عقل القارئ بالتواتر والتراكم الكمي والزمني تعبيرات ومعان غريبة جدًا عليه يسهل التعامل معها والتفاعل بها والتطبيع لها.
ولعلي أجد بعض المترجمين يضعون خطوطًا حمراء وهالات كبيرة وتابوهات مقدسة يجب احترامها وتقديرها بل وتقديمها على ثوابت الأمة وهويتها وقضاياها الكبرى بل أيضًا على مهنيته واحترافيته، كالنظام الإعلامي للمؤسسة الصحفية والإطار القانوني التى يقع تحته المترجم والمؤسسة الصحفية ونظامها الإعلامي، بل وأيضًا أسس وقواعد الترجمة سواء كانت سياسية أو صحفية، ويصل هذا التقدير والاحترام والتقديم لتلك التابوهات لدرجة تقديمها على النص نفسه بل وتحريف النص من أجل خدمة النظام الإعلامي والإطار القانوني كما حدث من صحيفة الأهرام المصرية فى تحريفها لمقال نشرته “النيويورك تايمز” الصحيفة الأكبر في العالم عن خداع الإعلام المصري للمصريين فى حين اعتبرته الأهرام مديحًا للديكتاتور المصرى السيسي.
ولست مع الذين يقولون إن “المترجم” يسبح فى تيار قاعدة “ناقل الكفر ليس بكافر” فالقاعدة صحيحة، ولكن ليست على إطلاقها فناقل الكفر – كما يقول العلماء – مقرًا به ومؤيدًا له وناشرًا له كافر كقائله، و”المترجم” ليس وعاءً أجوف ينقل فقط ما يُلقى له دون فلترة وتهذيب وتنقية كما أنه أيضًا ليس كالآلة أو الماكينة ينقل ويترجم فقط دون إحساس أو شعور، لكنه إنسان له هوية وأفكار ولمجتمعه وأمته كذلك، يجب حمايتها من الغوص في الوظيفية دون الرسالية وأن يحصر نفسه بين أربعة حوائط أسمنتية صماء، كالنظام الإعلامي الذى ينقل منه، والنظام الإعلامي الذى ينقل له، وأسس الترجمة وقواعدها، والتحرير الصحفي والإعلامي، وكيف له أن يحصر نفسه بين أربعة محددات ليس منهم هوية القارئ ورسالية مهنته، والرأى العام الذى سيتشكل به، والأمة التي ستتلوى من ألم مخاض نتائج نقله وترجمته.
والجندى المجهول كما يحب أن يصف البعض “المترجم” – والتي أختلف معها – فهو بالطبع جندي رغم عدم معرفة الناس له، فهو صاحب قضية ويحارب من أجلها، وهو جندي من جنودها، فلا يستساغ له أن يكون جنديًا في جيش أمته ويخدم خصمه وخصمها، وعدوه وعدوها، أو يقدم له دعمًا معنويًا بنشر أفكاره وآرائه المخالفة لهوية الأمة، ويطبع معها برفع أسهمها بالتفاعل معها ونشرها.
والترجمة الإعلامية انتقائية وتخضع لنظرية الهدف أو الغائية وهى الاهتمام بالغاية من الترجمة والتركيز على هدفها ووضع تصور للمؤسسة والموقع يخدم توجهات الأمة وقضاياها، فعلى” المترجم” دور كما على الموقع الإلكتروني والمؤسسة الصحفية دور مهم أيضًا في بناء الوعي الثقافي والفكري للأمة، فليس للموقع الإلكتروني أن يلهث وراء التسويق وعليه الموازنة بين متطلبات السوق وبين قيمية المضمون ودلالته ورسالته ودوره في نسج أفكار الأمة وبنائها الثقافي، وأن كل مُترجم يختار النص الملائم لاهتماماته وأفكاره وسياسة صحيفته ورسالتها، بعيدًا عن الكذب والتدليس على القارئ أو الترويج لأفكار ومصطلحات تهدم في نسيج الأمة ودورها القيمي والرسالي.