من المتوقع أن يكون للانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان ارتدادته القوية على العديد من الملفات الساخنة في المنطقة بأكملها، لما تحمله تلك الخطوة من دلالات ومؤشرات سيكون له تأثيرها في إعادة رسم خريطة التحالفات والتشابكات السياسية وفرض تموضعات جديدة تتناسب وتلك المستجدات.
ويعد الخروج الأمريكي المذل من الأراضي الأفغانية بعد 20 عامًا من إحكام السيطرة، هدية على طبق من ذهب في توقيت أكثر من رائع للجانب الإيراني، ورغم الخصومة السياسية التاريخية بين طهران الشيعية والسلطة الأفغانية السنية الجديدة ممثلة في حركة طالبان، فإن انسحاب الأمريكان من المشهد سيكون قوة دفع كبيرة لتمدد الأجندة الإيرانية في المنطقة.
الانتقادات التي تعرضت لها إدارة جو بايدن بشأن طريقة الانسحاب المسيئة للبلاد، وما تمخض عنها من سقوط 13 أمريكيًا (بجانب آخرين من طالبان والبريطانيين والمدنيين العزل) جراء تفجيرات مطار حامد كرزاي بالعاصمة كابل على أيدي تنظيم “داعش”، ولاية خراسان، في أثناء عملية إجلاء الرعايا الأمريكيين، لا شك أنها ستكون على طاولة الإدارة الأمريكية، وأن وقعها سيمتد لفترة ليست بالقصيرة، خاصة بعد المقارنة التي عقدها المعارضون للانسحاب الأمريكي وما جرى في سايغون قبل أكثر من 40 عامًا بعد الهزيمة في حرب فيتنام.
تزامن هذه الخطوة مع تجميد محادثات فيينا، إثر الفشل في التوصل إلى اتفاق مرضٍ لجميع الأطراف، أثار الكثير من التساؤلات عن إمكانية توظيف طهران للانشغال الأمريكي الحاليّ بصدى عملية الانسحاب ونتائجها على المستوى الداخلي، لتعزيز قوتها خلال عملية المفاوضات، فضلًا عن استغلال ما حدث لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الأمنية والاقتصادية والسياسية.. فهل ينجح الإيرانيون في استغلال الوضع الراهن؟
الترويج للسياسة الإيرانية
كان الحضور الأمريكي أفغانيًا عامل ضغط قوي على النظام الإيراني طيلة العقدين الماضيين، إذ كانت الأهداف الإيرانية في مرمى القوات الأمريكية المتمركزة في العاصمة كابل، هذا بخلاف نجاح واشنطن في تطويق التمدد الإيراني في آسيا الوسطى.
ورغم الخصومة مع الأمريكان كان الإيرانيون يرون في الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان حمايةً لهم من النفوذ السني الطالباني، الذي كان من المحتمل أن يمثل تهديدًا قويًا للأجندة الإيرانية حال ترك الساحة الداخلية للحركة، في ظل ما كانت تتبناه من سياسات إقصائية في ولايتها الأولى.
مرت مباحثات فيينا التي تقام برعاية روسية صينية أوروبية بستة جولات، طيلة الأشهر الأربع الماضية، آخرها في يونيو/حزيران الماضي، لكنها لم تسفر عن أي خطوة إيجابية نحو العودة للاتفاق، أو تأسيس اتفاق جديد
ومع تغير الوضع في الوقت الحاليّ والمرونة التي بدت عليها الحركة الأفغانية في إدارة المشهد، والتقارب الملحوظ بينها وبين النظام الإيراني، مثل الانسحاب الأمريكي من تلك الأراضي انتصارًا إيرانيًا دون معركة، الأمر الذي يعبد الطريق أمام السياسة الخارجية لطهران في المنطقة لتكون أكثر حزمًا.
الآلة الإعلامية والسياسية الأفغانية دومًا ما تعزف على وتر “عدم الثقة في الأمريكان” وأن أي نظام أمريكي، أيًا كان، لا يمكنه الوفاء بالتزاماته مع الحلفاء، وهو ما ترسخه المشاهد الفاضحة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والتخلي عن العملاء الأفغان وتركهم فريسة للانتقام الطالباني.
التفاصيل التي تضمنتها الصورة الكاملة من الممكن أن تكون أرضية جيدة لإيران لتشويه سمعة الأمريكان خارجيًا، بما يعزز في المقابل من وضعية وقوة النظام الإيراني، واستعادة شعبيته المتراجعة، وذلك بالتأكيد على أن الإدارة الأمريكية إدارة هشة وضعيفة، فهي غير قادرة على تأمين عملية انسحاب جنودها دون ضحايا، وهو الفشل المكمل لفشلها السابق في العراق.
ماذا عن الاتفاق النووي؟
تعاني مفاوضات العودة للاتفاق النووي الموقع في يوليو/تموز 2015 من تعثر شديد في ظل تمسك كل طرف بمواقفه دون مرونة لتقريب وجهات النظر، ومنذ أبريل/نيسان الماضي، تستضيف العاصمة النمساوية فيينا محادثات دولية غير مباشرة لعودة الولايات المتحدة وإيران للاتفاق الذي انسحبت منه الإدارة الأمريكية السابقة لدونالد ترمب في 2018.
مرت تلك المباحثات التي تقام برعاية روسية صينية أوروبية بستة جولات، طيلة الأشهر الأربع الماضية، آخرها في يونيو/حزيران الماضي، لكنها لم تسفر عن أي خطوة إيجابية نحو العودة للاتفاق، أو تأسيس اتفاق جديد، وبينما كان المعنيون يترقبون الجولة السابعة التي كان مقررًا لها عقب تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، مطلع أغسطس/آب الحاليّ، جاءت أحداث أفغانستان لتسحب البساط من تحت هذا الملف.
حالة من الغموض والشكوك تخيم على مصير تلك المحادثات، لا سيما أن البيت الأبيض قد ينشغل طويلًا في ترميم الشروخات التي أحدثها الانسحاب الفاضح وتفاصيله المشوهة لصورة أمريكا دوليًا، وهو ما قد يصب في صالح طهران التي تواصل تنشيط أجهزة الطرد المركزي وزيادة مخزونات اليورانيوم النقي، بما يؤهلها لقطع شوط كبير في مسار صناعة السلاح النووي، هذا في الوقت الذي تعرقل فيه عمل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الإيرانيون في مسار مفاوضاتهم مع واشنطن يضعون أعينهم على البعد الاقتصادي ومحاولة الخروج من الشرنقة التي تسببت فيها العقوبات الأمريكية المفروضة عليهم قبل سنوات
وكانت الوكالة في 18 من أغسطس/آب الحاليّ، قد قالت إن “إيران عجلت بتخصيب اليورانيوم إلى مستوى قريب من الدرجة اللازمة لصنع سلاح نووي”، لافتة إلى أن طهران بدأت في استخدام مجموعة ثانية من أجهزة الطرد المركزي المتطورة لتخصيب اليورانيوم حتى 60% في محطتها التجريبية للتخصيب في موقع فوق الأرض في نطنز، خلال هذا الشهر، مقارنة بما قالته في مايو/آيار الماضي حين أشارت إلى أن الإيرانيين يستخدمون مجموعة واحدة فقط من تلك الأجهزة، ما يعني أن السلطة الإيرانية ماضية في تعزيز قدراتها النووية رغم العقوبات والضغوط التي تتعرض لها.
استغلال الإيرانيين لحالة الفوضى التي تسبب فيها المشهد الأفغاني خلال الأيام الماضية، التي قد ينجم عنها غياب أمريكي مؤقت حيال هذا الملف، وانشغال المجتمع الأوروبي بتداعيات هذا الزلزال الذي أحدثته حركة طالبان، ربما يقود في النهاية إلى تقوية الموقف الإيراني في مسار المفاوضات، بل قد يصل الأمر إلى توظيف تلك التطورات لاستخدامها كورقة ضغط في الوقت المناسب.
ابتزاز الأمريكان
الهرولة الإيرانية لتحقيق أكبر قدر من الإنجاز في المشروع النووي، في أقل وقت ممكن، في مقابل غياب واشنطن على الساحة مرحليًا، واحتمالية استمرار هذا الغياب لفترة من الصعب تحديدها، وسط انشغال العالم بمستجدات الأوضاع أفغانيًا، تعكس في حقيقتها مؤشرات منطقية لتوجه جديد للسلطة الإيرانية تهدف من خلالة لابتزاز الأمريكان.
الإيرانيون في مسار مفاوضاتهم مع واشنطن يضعون أعينهم على البعد الاقتصادي ومحاولة الخروج من الشرنقة التي تسببت فيها العقوبات الأمريكية المفروضة عليهم قبل سنوات، التي كان من نتائجها قبوع الملايين من الشعب الإيراني في مستنقع الفقر، وهو ما كان له تداعياته على الاستقرار السياسي والأمني للبلاد.
سياسيًا.. من الصعب سعي طهران لامتلاك سلاح نووي كامل، وإن حدث، فمن المستبعد الإعلان عنه رسميًا، لما قد يترتب على ذلك من تهديد لمصالحها الإقليمية الحاليّة ويضعها في مرمى الانتقادات الدولية، لكن الأمر قد يتعلق بورقة يمكن استخدامها لانتزاع أكبر قدر من التنازلات الأمريكية، أبرزها رفع العقوبات والتخلي عن الإصرار على توسيع الاتفاق النووي ليشمل برنامج الصواريخ الباليستية، وليس مجرد العودة إلى اتفاق 2015.
الموقف الضعيف الذي تبدو عليه الإدارة الأمريكية حاليًّا، والقلق الأوروبي من ورقة اللاجئين الأفغان التي تلعب فيها إيران دورًا محوريًا، كونها الباب الأكبر لعبور الملايين إلى خارج الحدود، ومنها إلى الأراضي الأوروبية، قد يضع إدارة بايدن – التي تعاني من تراجع شعبيتها – في موقف حرج، لا سيما إن تعرضت لضغوط من دول أوروبا من جانب آخر.
الوضعية الحرجة للإدارة الأمريكية لا تعني بالضرورة الرضوخ للابتزاز الإيراني، إذ ربما تكون سلاحًا ذو حدين، وقد يجد بايدن نفسه مدفوعًا للتصدي للأجندة الإيرانية، كونها فرصته لتحسين صورته التي تأثرت بمشهد الانسحاب من أفغانستان، ومحاولة استرداد هيبة الدولة، فخسارتان متتاليتان ربما تهوي بشعبيته التي يحاول ترميمها قدر الإمكان.. ما قد ينذر بصيف أكثر سخونة خلال الأيام القادمة.