ترجمة حفصة جودة
نشأت آلاء دويكات وهي تلعب الغميضة مع والدها عماد وأشقائها الأربع، لم تكن تعلم الطفلة ذات التسع سنوات أن اللعبة ستتحول إلى حقيقة، لقد اختفى عماد من حياتهم للأبد، فقد قتلته القوات الإسرائيلية في بلدة بيتا بالضفة الغربية المحتلة.
في يوم 6 من أغسطس/آب بينما كانت أسرة عماد تنتظره على الغداء في البيت، رنّت الهواتف لتخبرهم أن عماد قُتل، أطلق عليه الجنود الإسرائيليون النار في أثناء مواجهة سكان بيتا المتظاهرين في جبل صبيح القريب منهم، جنوب نابلس.
كان واحدًا من سبعة فلسطينيين – بينهم اثنان مراهقان – قُتلوا منذ بداية حملة الاحتجاج ضد المستوطنة الإسرائيلية غير الشرعية على حدود البلدة في شهر مايو/أيار، 3 من هؤلاء كانوا آباءً تركوا ورائهم 15 طفلًا.
يتظاهر الفلسطينيون في بيتا ضد التوسع الإسرائيلي بطرق سلمية، لكن هذه السلمية قُوبلت بالرصاص الحي والغاز المسيل للدموع مخلّفًا عشرات الجرحى بينما أصيب العديد في أقدامهم.
تقول أم عماد: “لا أستطيع التوقف عن انتظار عودته، رغم أنني ودعته وأعلم أنه مات، إننا نعيش في ألم سيستمر للأبد”
تعرض أيضًا أكثر من 30 فلسطينيًا من القرية لاعتقالات جماعية واحتُجزوا في السجون الإسرائيلية، هذه القرية التي كانت نائمة أصبحت مركزًا للمقاومة الفلسطينية.
قُوبلت بالرصاص
تقول آلاء – ابنة عماد الكبرى – إنها تحلم بأن تكون مسعفة حتى تمنع موت الناس مثل والدها، وتضيف “كل يوم أفكر أن اسأل أمي متى يعود والدي من العمل إلى المنزل، ثم أتذكر أنه مات وأنه لن يعود، إنه أمر صعب للغاية، فأنا افتقده كل يوم”.
مثل العديد من شباب بيتا، كان عماد يذهب إلى جبل صبيح كل جمعة للمشاركة في الأنشطة الشعبية السلمية للدفاع عن أرضهم ضد استيلاء المستوطنين عليها.
يقول شقيقه بلال: “لقد أصُيب برصاصة مباشرة في صدره ومات على الفور، كان عماد يشارك مثل بقية الناس في الأنشطة السلمية وليس في حرب، لا يوجد أي مبرر لإطلاق القناصة الإسرائيليين الرصاص الحي”.
منذ مقتله، لم تعد السيدة فتحية – أم عماد، 77 عامًا – تتمكن من النوم ليلًا، في بعض الأحيان تتمكن من النوم عدة ساعات قليلة قبل أن تستيقظ مشدوهة وتجلس أمام الباب تنتظر عودة عماد المستحيلة، تقول السيدة فتحية وهي تحمل ابن عماد ذا الثلاثة أشهر: “أينما أنظر أرى عماد، لا أستطيع التوقف عن انتظار عودته، رغم أنني ودعته وأعلم أنه مات، إننا نعيش في ألم سيستمر للأبد”.
العائلات تعيش نفس الألم
يجلس سيد دويكات أمام منزله المطل على بيتا بينما يشرب القهوة، وتحلق أسراب الطيور في السماء، تبدو القرية هادئة، لكن أهلها يتعرضون لعنف يومي، كل بيت تربطه علاقة بمن قُتلوا في الاحتجاجات، يعالج بعض السكان الجرحى، وتتعرض بعض المنازل لمداهمات واعتقالات متكررة.
كأن موته لم يكن صعبًا بما فيه الكفاية، فقد احتجز الجيش الإسرائيلي جسده لأسبوعين بعد قتله، ما أدى إلى تفاقم الألم والغضب
يقول سيد: “في كل يوم هناك أسرة تنتظر موت أحد أبنائها أو جرحه أو اعتقاله من جيش الاحتلال الإسرائيلي، الكل يقول إنه دورنا الآن”، كان سيد يتشارك قهوته مع شقيقه شادي، لكنه قُتل يوم 27 من يوليو/تموز، ليس بسبب تظاهره، بل لأنه تطوع وساعد بلدية بيتا في فتح مضخات المياه على مدخل البلدة، ادّعى الإسرائيليون أنه مسلح بعصا معدنية، لكنه في الحقيقة كانت أدوات السباكة.
خلّف شادي ورائه 5 أطفال، يقول سيد والدموع تنحدر على خديه: “يسألنا الأطفال دائمًا أين والدنا، فنخبرهم أنه بالجنة، فيجيبون: لا نريد الجنة نريد والدنا، لم أعد أستطيع الإجابة عن أسئلتهم أكثر من ذلك، إنها مؤلمة للغاية”.
كانت البلدة بأكملها في حالة ذهول عند وفاة شادي، فقد دخل كل بيوت البلدة بحكم عمله كسباك، وكأن موته لم يكن صعبًا بما فيه الكفاية، فقد احتجز الجيش الإسرائيلي جسده لأسبوعين بعد قتله، ما أدى إلى تفاقم الألم والغضب إضافة إلى البؤس الذي نشعر به بالفعل.
يقول سيد: “كل ساعة أفكر كيف سأقضي الساعة التالية دون شادي، كيف سأعيش حياتي من دونه”.
سرقة جبل صبيح
بدأ تاريخ العنف والمقاومة الحديث في بيتا يوم 2 من مايو/أيار عندما رصد السكان بعض الأضواء المتلألئة على قمة جبل صبيح، كان المستوطنون برفقة الجيش يبنون بؤرة استيطانية غير شرعية دون أي إعلام مسبق بمصادرة الأرض.
قبل أكثر من شهرين استحوذ الجيش على البؤرة لنفسه وأعلن جبل صبيح منطقة عسكرية ومنع الفلسطينيين من العودة إلى أراضيهم
لم تكن هذه المرة الأولى التي حاولت “إسرئيل” فيها السيطرة على التلة، ففي عام 1978 مع افتتاح طريق المستوطنين السريع “60” بنى الجيش الإسرائيلي بؤرة عسكرية هناك، وأجبر ملاك الأرض الفلسطينيين على اللجوء للقضاء الإسرائيلي لاستعادة أرضهم، وهو ما تمكنوا منه عام 1994.
أزُيلت البؤرة العسكرية قبل أن يُعاد بناؤها في أثناء الانتفاضة الثانية من عام 2000 إلى 2005، ثم أزُيلت ثانية، يقول حذيفة بدير الذي يملك أرضًا على التلة إن السكان بدأوا في ملاحظة تقدم المستوطنين في المنطقة قبل 4 سنوات نظرًا لموقعها الإستراتيجي.
يقول حذيفة: “اندلعت ثورة شعبية بمشاركة كل السكان وتمكنا من طرد المستوطنين خارج المنطقة”، مع ذلك عاد المستوطنون إلى بيتا هذا العام، وفي مجرد 6 أيام أقاموا 40 منزلًا متنقلًا ومهدوا الطريق المؤدي إلى التلة وأطلقوا على البؤرة اسم “جيفات إيفياتار”.
في 9 من يونيو/حزيران بدأ الجيش الإسرائيلي في إزالة البؤرة وادّعوا أنها بُنيت في أثناء حالة أمنية متوترة دون الحصول على ترخيص مسبق، بعد فترة قصيرة استحوذ الجيش على البؤرة لنفسه وأعلن جبل صبيح منطقة عسكرية ومنع الفلسطينيين من العودة إلى أراضيهم.
اتضح بعد ذلك أن المستوطنين عقدوا اتفاقًا مع الحكومة يقضي بمغادرتهم منازلهم المتنقلة فوق التلة ليرعاها الجيش حتى تُعلن الأرض ملكية لدولة الاحتلال وحينها يمكنهم العودة.
يحمل حذيفة وثائق ملكية لأكثر من 5 دونم من الأرض على جبل صبيح، تمكنت 5 عائلات أخرى من بيتا تقديم وثائق قانونية تثبت ملكيتهم للأرض، بالإضافة إلى عائلات من قرى قبلان ويتما المجاورة.
رغم ذلك، رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا يوم 15 من أغسطس/آب النظر في الاستئناف الذي قدمه ملاك الأرض ضد البؤرة الاستيطانية، وهو الحكم الذي أدانه مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان الذي أقام الدعوى نيابة عن الفلسطينيين، واعتبره سابق لأوانه.
أجلّت المحكمة العليا أي قرار حكم نهائي بخصوص شرعية البؤرة واتفاق المستوطنين مع الحكومة حتى إجراء مسح شامل للمنطقة واتخاذ قرار نهائي بأنها أرض للدولة.
قالت المحكمة إن ملاك الأرض لهم الحق في الاستئناف مباشرة إذا أعُلنت الأرض ملكًا للدولة، لكن وفقًا لمركز القدس فلن يُنظر في الالتماس حتى اتخاذ قرار بغض النظر عن الوضع القانوني للأرض.
في الحقيقة يقول المركز إن المحكمة العليا استجابت للاستئناف بإهمال تام، وتجاهلت الانتهاكات الصارخة التي ارتكبها المستوطنون على الأرض التي لا يملكون أي حق فيها، ما يشير إلى أن المحكمة لا ترى أي مشكلة قانونية في خرق القانون.
مقاومة مبدعة
خلال الأشهر القليلة الماضية طور شباب بيتا وسائل إبداعية لمقاومة المستوطنين ورصاص جيش الاحتلال في حملة أطلقوا عليها “الإرباك الليلي”، إنها مزيج من طرق المقاومة التقليدية مثل إلقاء الحجارة وإشعال الإطارات وطرق جديدة مثل استخدام الليزر ومكبرات الصوت وأجهزة الإنذار وأصوات انفجارات كاذبة.
تُعرف بيتا بمقاومتها واضطرارها لمواجهة جيش الاحتلال عدة مرات عبر السنين نظرًا لموقعها الجغرافي المطل على الطريق بين نابلس وأريحا
نظم المتظاهرون والمشاركون في حماية الأرض من التوسع الاستيطاني أنفسهم في مجموعات تعمل في ورديات ليلية ونهارية، ولكل منها مهمة محددة، تعج المنطقة دائمًا بالسكان حيث يخرج سكان بيتا في رحلات منتظمة إليها.
يقول أحد المتظاهرين – 25 عامًا -: “في أيام الجمع يخرج الشباب بالمقلاع بينما يخرج كبار السن حاملين الأعلام الفلسطينية، نستخدم أيضًا الإطارات المشتعلة والألعاب النارية والبالونات، نتابع كذلك الصحف الإسرائيلية على وسائل التواصل الاجتماعي لنرى ردود فعل المستوطنين، لقد وجدنا أننا نجحنا في الضغط عليهم وإجبارهم على ترك المستوطنة، إنهم يشعرون أيضًا بالخطر وسط هذا الرفض الشعبي المتواصل لوجودهم”.
وأضاف “نريد الحفاظ على بيتا وأراضيها، لقد تمكنا من طردهم من الجبل عدة مرات، هذه المرة ستكون الأخيرة ولن يعودوا مطلقًا، بمجرد استعادة العائلات لأراضيها ستحتفل البلدة بأكملها، سيكون الاحتفال مثل زفاف وطني”.
يقول ناشط آخر – لم يكشف هويته خوفًا من الانتقام الإسرائيلي -: “إننا هنا طول الوقت للحفاظ على نهج أسلافنا في الحفاظ على أراضينا ومنع الهجمات والمصادرات بأي ثمن، حتى لو كلف الأمر حياتنا وحريتنا”.
تُعرف بيتا بمقاومتها واضطرارها لمواجهة الجيش الإسرائيلي عدة مرات عبر السنين نظرًا لموقعها الجغرافي المطل على الطريق بين نابلس وأريحا.
يقول الناشط: “تقاتل بيتا دائمًا دعمًا لغزة والأسرى الفلسطينيين وتواجه أي فعل تقوم به “إسرائيل” في الضفة الغربية، إننا نضحي بالشهداء والجرحى والسجناء ولا يرهبنا ذلك أو يمنعنا من المواصلة، بيتا لا تعرف الهدوء، إنها مشتعلة دائمًا، والجيش الإسرائيلي يحجم عن الإغارة عليها لأنه يعلم الثمن الباهظ الذي سيدفعه لقاء كل غارة عسكرية”.
رغم أن المستوطنين غادروا جبل صبيح، فإن المواجهات ستستمر ولو بوتيرة أبطأ، لقد تعهد السكان بعدم التراجع حتى يستعيدوا التلة بأكملها، يقول الناشط: “حتى لو أزالوا البؤرة واستعدنا جبل صبيح، فإن بيتا لن تتوقف عن كفاحها حتى نستعيد فلسطين بكاملها، نتمنى أن تنتقل تجربة بيتا إلى كل القرى الفلسطينية التي تواجه بناء المستوطنات بشكل يومي”.
المصدر: ميدل إيست آي