منذ عقود يدور صراع خفي ومعلن بين قطبي القوى العالمية الشرقية والغربية بزعامة الصين والولايات المتحدة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط، فكل منهما يسعى لفرض نفوذه وإسقاط هيمنة الآخر على بلدان المنطقة والحصول على أكبر مكاسب ممكنة من هذه البقعة الإستراتيجية المهمة، والسؤال هنا: كيف يعيد “طريق الحرير” الجديد تشكيل العلاقات السياسية بين الشرق والغرب؟
ما جدوى محاولات تقليم أظافر القوى الشرقية؟
لعل الحرب السياسية والاقتصادية التي شنها الغرب على الصين وإيران وروسيا – إبان تولي ترامب – كانت محاولة جادة لتقليم أظافر قوى الشرق ومحاولة وقف خططها الطموح اقتصاديًا ودبلوماسيًا وسياسيًا، لكن هذه الدول أثبتت عمليًا أنها ليست بالعدو الضعيف الذي يمكن هزيمته بسهولة.
في الحقيقة تسعى القوى الشرقية بخطى حثيثة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، متحدية الدور الغربي الطويل الأمد كقوة مهيمنة بالمنطقة، فروسيا وإيران لاعبان رئيسان في الملف السوري، ومن جهة أخرى تلوح إيران بالسلاح النووي ولا تعبأ بالعقوبات عليها.
أما الصين فأعلنت في 2013 مشروعًا ضخمًا “الحزام والطريق”، هدفه المعلَن إحياء طريق الحرير القديم، وهدفه المستتر تعزيز نفوذها من شرق آسيا لأوروبا وإفريقيا، بحيث يجعل القوى الشرقية وفي مقدمتها الصين وروسيا نقطة الالتقاء الجديدة المسيطرة جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا على مقدّرات العالم.
ما الفارق بين طريق الحرير القديم ومشروع الحزام والطريق؟
من جهة أخرى فإن طريق الحرير القديم هو مجموعة طرق برية وبحرية شُقّت في المنطقة الأوروبية الآسيوية، تبادل عبرها الأفراد من كل بقاع العالم بضائع متنوعة مثل الحرير والتوابل، بالإضافة إلى تبادل الثقافات والأفكار، فقد مثلت حلقة وصل مهمة بين الشرق والغرب.
“الحزام والطريق” مشروع عالمي طموح للبنية التحتية والتنمية الاقتصادية، يستند لتدشين شبكة اقتصادية ضخمة وبنى تحتية أساسية تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا وما وراء ذلك
“طريق الحرير” مصطلح حديث العهد نسبيًا، فلم تحمل هذه الطرق القديمة خلال تاريخها الطويل اسمًا بعينه، لكن في منتصف القرن التاسع عشر أطلق عليها الجيولوجي الألماني البارون فرديناند فون ريشتهوفن اسم “دي سيدينستراس”، وتعني باللغة الألمانية “طريق الحرير”، ولا يزال مستخدمًا حتى الآن.
“الحزام والطريق” مشروع عالمي طموح للبنية التحتية والتنمية الاقتصادية، يستند إلى تدشين شبكة اقتصادية ضخمة وبنى تحتية أساسية تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا وما وراء ذلك، وتتعاون فيه الصين مع نحو 19 دولة في الشرق الأوسط مع وعود بتوسيع مجالات الشراكة معها في التكنولوجيات الجديدة والمتطورة.
لكن – في الواقع – المبادرة أكبر من ذلك بكثير، فهي خطة صينية ذكية تسمح لها بالسيطرة تدريجيًا على المنطقة بطريقة سلمية دون حدوث توترات سياسية أو عسكرية مع قوى الغرب، بما يضمن انتقالًا سلسًا للهيمنة من الدول الغربية – والأمريكية خاصةً – إلى قوى الشرق – وتحديدًا الصين – دون حرب أو نزاع.
قبل الإعلان عن المبادرة بـ17 عامًا وتحديدًا في عام 1996م اجتمعت وفود 40 دولة في إيران، من بينها الصين وروسيا وآسيا الوسطى وتركيا وباكستان وأفغانستان لإحياء إستراتيجية “طريق الحرير”، وبعد عمل ممنهج وصامت جاء إعلان الصين عن مبادرة ضخمة لتعزيز الاتصالات بالقارتين الأوروبية والإفريقية عبر آسيا.
لماذا تعتبر الصين أكبر شريك تجاري لدول منطقة الشرق الأوسط؟
باتت الصين بالفعل أكبر شريك تجاري لمعظم دول منطقة الشرق الأوسط حتى قبل الإعلان عن مبادرة “الحزام والطريق”، إذ تبني فيها بنى تحتية بمليارات الدولارات، بالإضافة لاستثمارات شاملة مع بلدان بارزة مثل السعودية ومصر وإيران والإمارات، فالسعودية مثلًا أكبر مورد للنفط الخام للصين في 2020.
التفوق الصيني الشرقي على قوى الغرب ليس على مستوى البلدان فقط، وإنما على مستوى المؤسسات أيضًا، فبكين تنافس مؤسسات التمويل الغربية (صندوق النقد والبنك الدولي) وتمنح قروضًا لبلدان المنطقة دون النظر لنظامها السياسي أو أن تشترط تغيير اقتصاداتها المحلية بحسب توجهات السوق الحرة.
مقارنة بشركات الأعمال الغربية فإن الشركات الصينية المدعومة مِن حكومة بكين تتمتع بمرونة أكبر لعقد صفقات متميزة مع البلدان النامية، خاصةً في دول الشرق الأوسط، ولا تشترط أن تكون عائداتها أرباحًا نقدية في المقام الأول، بل قد تشمل عائداتها النفوذ الإستراتيجي أو القوة الناعمة.
“طريق الحرير” الجديد تحوّل تكتيكي في طبيعة النظام العالمي من عالم ثنائي القطب “شرقي وغربي فقط” إلى عالم متعدد الأقطاب ومتعدد الثقافات.
التفوق الشرقي-الصيني في المنطقة تماشى مع انسحاب غربي-أمريكي تدريجي من المنطقة، فإدارتا ترامب وبايدن اتخذتا خطوات لتقليل الاهتمام الأمريكي بالمنطقة، وتمنحان أولوية كبرى لآسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، وهذا يعكس إجماعًا من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على توجه سلبي تجاه الشرق الأوسط.
طريق الحرير الجديد تحوّل تكتيكي في طبيعة النظام العالمي من عالم ثنائي القطب “شرقي وغربي فقط” إلى عالم متعدد الأقطاب ومتعدد الثقافات يضع الصين وغيرها من القوى الشرقية في الشرق الأوسط وخارجه (السعودية ومصر وتركيا وإيران وروسيا والهند) على خريطة الاهتمام وصناعة القرار الدولي.
القوى الغربية التي تسعى للرد القاسي على اندفاع القوى الشرقية – الصينية – نحو الشرق الأوسط تحتاج لانتهاج أسلوب متعدد الوجوه يضع في الحسبان العوامل الداعمة لبكين كالتكتيكات الإستراتيجية التقليدية التي تتبعها قوى الغرب مثل استخدام دول آسيوية أخرى لتحقيق التوازن السياسي مع الصين.
تحتاج القوى الشرقية والغربية على حد سواء لإدراك حقيقة أنه ليس من مصلحة البشرية تفوق معسكر على حساب آخر، بل من مصلحتها إبداء كامل الاستعداد للتعاون وقبول الآخر بكل اختلافاته العقائدية والثقافية والفكرية ونبذ الاحتكار والرغبة في السيطرة والتملك وكسب مُقدَّرات الأمم دون وجه حقّ.