في الوقت الذي تبحث فيه فرنسا عن حلفاء جدد لتمويل حربها في منطقة الساحل والصحراء وعن جنود أكفاء يحلون محل جنودها الذين تنوي سحبهم، قررت السلطات التشادية الجديدة سحب نصف جنودها من المنطقة وعودتهم إلى ثكناتهم داخل البلاد، ما يمكن اعتباره ضربةً جديدةً لسياسات ماكرون في منطقة الساحل.
ضربة يمكن أن تؤدي إلى تراجع ثقة الفرنسيين في الرئيس ماكرون الذي يسعى للفوز بولاية انتخابية جديدة السنة المقبلة، لكن تنامي الأخطاء الداخلية والخارجية صعب عليه المهمة.
تشاد تتخلى عن حليفها
في فبراير/شباط الماضي، أمر الرئيس التشادي إدريس ديبي إتنو بإرسال 1200 جندي إلى “المثلث الحدودي” بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو لمواجهة الجماعات المسلحة في هذه المنطقة، كان ذلك على هامش قمة لمجموعة دول الساحل الخمسة استضافتها نجامينا.
لم يدم تمركز هؤلاء طويلًا في منطقة الساحل، فقررت أنجمينا سحب 600 جندي وعودتهم للبلاد، ما سيصعب مهمة فرنسا، إذ تعتبر منطقة المثلث الحدودي، إضافة الى وسط مالي، الأكثر تعرضًا للهجمات المسلحة في المنطقة.
القرار التشادي يعتبر نكسة جديدة تضاف لنكسات ماكرون منذ وصوله قصر الإليزيه
القرار التشادي جاء بعد نحو أسبوعين من تعرُّض قواتها لهجوم في منطقة بحيرة تشاد، شنه تنظيم بوكو حرام، أدى إلى مقتل 26 جنديًا تشاديًا على الأقل وإصابة 14 آخرين كانوا في استراحة بمحيط البحيرة بعد دورية لهم بالمنطقة.
إعادة ترتيب الأوراق
إلى وقت قريب كانت أنجمينا أبرز حليف لباريس في المنطقة، ذلك أن فرنسا تعتبر الفاعل الأبرز في مجريات الأحداث في دولة تشاد وتملك نفوذًا يمكنها من إدارة الأمور في مستعمرتها السابقة، فتتحكم في الجيش وأجهزة الدولة وقصر الحكم وحتى المعارضة بما يتوافق مع مصالحها.
وساهمت فرنسا في تثبيت نظام إدريس ديبي الذي أطاح بنظام حسين حبري في 1990، ووقفت معه سنة 2006، عندما هاجم منشقون عن نظام ديبي أنجمينا، ووقفت معه أيضًا عندما حاصر المتمردون القصر الرئاسي بالعاصمة في 2008، قادمين من الغرب، وتكرر الأمر سنة 2019 عندما قصف الطيران الفرنسي رتلًا من المتمردين زحف من ليبيا نحو شمال تشاد.
لكن يبدو أن الحليف القديم لباريس، بدأ يعيد ترتيب أوراقه بعيدًا عن توجهات المستعمر القديم، فالعديد من المعطيات تبين أن القيادة الجديدة لتشاد تسعى للابتعاد عن فرنسا والاتجاه شرقًا نحو الدب الروسي الذي كان له دور كبير في مقتل إدريس ديبي في أبريل/نيسان الماضي.
عرفت تشاد نهاية أبريل/نيسان الماضي مقتل الرئيس إدريس ديبي – الذي حكم البلاد لأكثر من 30 سنة – على جبهات القتال بعد تحرك فصائل من المعارضة نحو العاصمة أنجمينا للسيطرة على الحكم، وتولي نجله الحكم في تجاوز للدستور كما تقول المعارضة التشادية.
منذ ذلك الوقت عرفت العلاقات التشادية الفرنسية بعض الفتور، إذ تخشى باريس أن تتحول أنجمينا نحو موسكو وتخسر حليفًا قويًا في منطقة الساحل، يذكر أن روسيا تسعى لتعزيز نفوذها ومكانتها السياسية في تشاد ودول الساحل ككل لأسباب عدة منها السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني.
وفي يونيو/حزيران الماضي، أعلنت وزارة الدفاع التشادية، أن روسيا تعتزم تقديم مساعدات عسكرية للبلاد، وأفادت الوزارة، أن خبراء روس سيقدمون المساعدة في صيانة وتحديث معدات الجيش التشادي، وقبل ذلك شارك وفد تشادي في مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي، وبحث مع مسؤولين في وزارة الدفاع الروسية قضايا الدفاع العسكري.
تشكل دول مجموعة الساحل الإفريقي الخمسة: موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي وتشاد والنيجر، منطقة تنافس دولي نظرُا لموقعها الإستراتيجي، إذ تعتبر نقطة تربط بين مختلف دول القارة السمراء وتمتلك موارد طبيعية عملاقة، وترى روسيا أن ضمان حضور فاعل في القارة الإفريقية يمر حتمًا عبر منطقة الساحل.
نكسة جديدة لماكرون
القرار التشادي يعتبير نكسة جديدة تضاف لنكسات ماكرون منذ وصوله قصر الإليزيه، فهذا القرار يأتي في الوقت الذي تسعى فيه باريس للحصول على أموال إضافية لتمويل حربها في منطقة الساحل والصحراء بعد تنكر حلفائها الأوروبيين والأمريكان لها.
وجدت بعض المال عند الإماراتيين والسعوديين، لكن لم تجد جنودًا يعوضون جنودها الذين تنوي سحبهم من هناك، في ظل رفض دول المنطقة زيادة عدد جنودهم المشاركين في الحرب الفرنسية ضد الإرهاب المتواصلة منذ 2013 دون نتائج تذكر.
وتعتبر القوات التشادية الأكثر خبرةً وكفاءةً بين جيوش الساحل في قتال الجماعات المسلحة في الصحراء الكبرى وحول بحيرة تشاد، سواء في النيجر أم مالي وحتى في الكاميرون، وهو ما يعتبر خسارةً كبيرةً لباريس.
وتسعى فرنسا لتقليص وجودها العسكري في منطقة الساحل، وتطالب منذ سنوات عديدة بأن ترسل الدول الأعضاء في المجموعة قوات إلى المثلث الحدودي حيث ينتشر حاليًّا 5100 جندي فرنسي، وتريد باريس من حلفائها تولي الشق السياسي فضلًا عن العسكري لخفض انخراطها المتواصل منذ 8 سنوات.
بعد مرور 4 سنوات على وصوله لقصر الإيليزيه، أثبت ماكرون أنه أصبح عبئًا على الفرنسيين
من شأن سحب تشاد قواتها أن يزيد من قتامة الوضع في المنطقة، فبعد أكثر من 8 سنوات على بدء التدخل الفرنسي في شمال مالي، لا يمر يوم تقريبًا في دول المنطقة من دون وقوع هجوم ضد ما تبقى من قوات السلطات أو انفجار لغم يدوي الصنع.
تضاف هذه النكسة إلى نكسات ماكرون السابقة في ليبيا وفقدان باريس نفوذها هناك بعد خسارة خليفة حفتر الذي كانت تأمل أن يساعدها على الانفراد بالثروات الباطنية الليبية، وفي سوريا أيضًا، لم يعد لفرنسا أي تأثير يذكر، فبعد أن سعى ماكرون إلى أن تكون بلاده ضمن منظومة الدول المبادرة بالحل السياسي في سوريا، لم يعد له أي كلمة هناك.
وفي لبنان، وفشل مبادرة ماكرون الرامية إلى إرساء الاستقرار هناك، رغم محاولته استغلال تفجيرات مرفأ بيروت، لتغيير الحكومة اللبنانية وإعادة تصميم السياسة من جديد في هذا البلد الذي نثرت بذوره مع مؤتمر “سان ريمو” (1920)، حين تقاسمت كل من بريطانيا وفرنسا منطقة الشرق الأوسط.
النكسات وصلت أيضًا دولة مالي الإفريقية، فقد كانت الخسائر أكبر والواقع أشد عمقًا، فلم تنجح فرنسا بعد في تحقيق أهدافها التي جاءت من أجلها، دون أن ننسى نكسة ماكرون في إفريقيا الوسطى، فضلًا عن إقليم “قره باغ”.
تأثير مباشر على حظوظه الانتخابية
هذه النكسات المتكررة من شأنها أن تؤثر سلبًا على طموح الرئيس ماكرون لإعادة انتخابه على رأس السلطة في فرنسا، إذ تراجعت ثقة الفرنسيين في إيمانويل ماكرون، وهو ما تجسد خلال الانتخابات المحلية والإقليمية الأخيرة.
في هذه الانتخابات فشل حزب ماكرون “الجمهورية إلى الأمام”، في تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات الإقليمية التي يختار الناخبون فيها مجالس جديدة في 13 منطقة من البر الرئيسي في فرنسا، بالإضافة إلى واحدة في الخارج، بالإضافة إلى 96 دائرة.
بعد مرور 4 سنوات على وصوله لقصر الإيليزيه، بات ماكرون عبئًا على السياسة الخارجية الفرنسية، إذ ساهم في فقدان باريس مكانتها الدولية، وخسر نفوذ بلاده في العديد من المناطق، ما يضع فرنسا في موقع أضعف في الكثير من الملفات التي كانت في موقع المهيمن فيها.