ظل عبد الرحمن بدوي على امتداد عقود من الزمن مالئ الدنيا وشاغل الناس، بنشاطه السياسي والوظيفي والفكري الخصب، وشاء قبل رحيله عن العالم أن يكتب سيرته الذاتية على غرار صنيع أعلام عصره كالعقاد وطه حسين ووفيق الحكيم وأحمد أمين وزكي نجيب محمود وغيرهم.
لكنه أراد كتابة سيرة ذاتية مختلفة على عادته في الاستقصاء والتحري والاستطراد والتعمق، فجاءت سيرته الذاتية مرآة لنفسه الغامضة، ولفكره الحلزوني الملتوي العميق والضبابي، ولعصره برمته.
سيرة كتبها في جزأين ضخمين، فالجزء الأول في 383 صفحة والجزء الثاني في 382 صفحة، من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في أواخر القرن المنصرم، استهلها بهذه العبارة المدوية “بالصدفة أتيت إلى هذا العالم وبالصدفة سأغادر هذا العالم! ولو فتشت تاريخ حياة أي إنسان لوجدت أن نوعًا من الصدفة هو الذي تسبب في ميلاده، صدفة في الزواج، صدفة الالتقاء بين الحيوان المنوي في الرجل والبويضة في الأنثى.. إلخ وواهم إذن من يظن أن ثمة ترتيب أو عناية أو غاية، إنما هي أسباب عارضة يدفع بعضها بعضًا فتؤدي إلى إيجاد من يوجد وإعدام من يعدم”.
حصل عبد الرحمن بدوي على الدكتوراة في الفلسفة عن “مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة” و”الزمان الوجودي” وأشاد به طه حسين كثيرًا ووسمه بأول فيلسوف مصري
ولد عبد الرحمن لأب صارم متدين في قرية شرباص عام 1917 في أسرة كثيرة العدد، وكان والده من ملاك الأراضي لكنه لم يكن من المتجبرين على عادة الإقطاعيين، وكان حريصًا على تعليم ابنه وإدخاله مدرسة الحقوق لعله يصبح يومًا وزيرًا، فقد جرت العادة أن أبناء كبار الملاك يتخرجون في كلية الحقوق ويتولون مناصب سياسية رفيعة.
لكن الفتى بعد تعلمه الابتدائي في فارسكور ونيله الثانوية من “السعيدية” اتجه إلى دراسة الفلسفة لما آنس من نفسه الميل إلى الاستقصاء والاستدلال والنفاذ إلى بواطن الأشياء، وفي جامعة فؤاد سابقًا حصل على الدكتوراة في الفلسفة عن “مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة” و”الزمان الوجودي”، وأشاد به طه حسين كثيرًا ووسمه بأول فيلسوف مصري، وكان تقدير بدوي لطه حسين عظيمًا فكرًا وأسلوبًا، كما امتدح الشيخ مصطفى عبد الرازق أندريه لالاند من المستشرقين وقد تتلمذ على يديه لويس ماسينيون الذي يصفه بالعظيم.
كانت حياة بدوي حياة خصبة مدوية وكأنه طبق عمليًا نصيحة نيتشه بالعيش في قلب الخطر، فقد كان رجل جدال ومواجهة وصدام وشجاعة أدبية يعضدها كبرياء وعنفوان واعتزاز بالنفس وإباء للضيم والجبن والهوان والإمعية.
لم يشأ الانضمام إلى حزب الأحرار الدستوريين شأن أبناء الباشاوات والأعيان ولا إلى حزب الوفد، فكان يصفه بالشعبوية والانتهازية والفساد، بل انضم إلى “مصر الفتاة” ثم انفصل عنه وعمل ملحقًا ثقافيًا بسفارة مصر في سويسرا في الخمسينيات، ثم عاد إلى التدريس في جامعة القاهرة، فبنغازي في ليبيا، فالكويت وأخيرًا جامعة السوربون حيث عاش بقية عمره في فرنسا، ثم عاد إلى مصر قبل رحيله بقليل لينتقل بعد ذلك إلى جوار ربه عام 2002.
سيرة ذاتية إذا شرع المرء في قراءتها سيصدم بقسوة بدوي وعنفه اللفظي وتهكمه على أعلام عصره، فالعقاد جبل أجرد، وأحمد أمين حقود حسود، وعبد الوهاب عزام إسلامي انتهازي، وزكي نجيب محمود درس عن بعد، وأحمد فؤاد الأهواني سطحي، ومحمد الطالبي ومحي الدين صابر قدما رسالتين فارغتين لا قيمة لهما لأن السوربون كانت تقبل كل أطروحة وتعطي الشهادة العليا ولأن المشرفين لا يقرأون نصف الرسالة ولأن فرنسا لا يهمها الأمر ما دام الطلبة يعودون للتدريس في أوطانهم وأخيرًا التخلص منهم.
بل لم يسلم من قلمه حتى سعد زغلول والشيخ محمد عبده وشيوخ الأزهر الذين رماهم بالجهل والانتهازية والدسائس والمؤامرات ضد بعضهم، وامتدت قسوته إلى رجال السلك الدبلوماسي فكتب أن معظمهم جهلة وانتهازيون وصلوا إلى المناصب بالزلفى والمحسوبية ولا فائدة فيهم، بحكم تجربته كملحق ثقافي في سفارة مصر ببرن السويسرية.
وعلى عادته في السخرية المرة امتد قلمه يعبث بأعلام العالم العربي وأعيانه، فالشيخ بيير الجميل رئيس حزب الكتائب اللبنانية عميل فرنسي وعمر فروخ يذكي نار التعصب وفؤاد أفرام البستاني أفعوان خبيث.
هكذا يمضي في النيل من كل كاتب ومفكر وسياسي بثقة وبقاسي اللفظ ونابي الحكم مشبعًا رغبة جوانية في الإعلاء من قدر نفسه والحديث عن أناه بإطناب شديد وشعوره بالظلم والاضطهاد ظل يلاحقه وحسد وغيرة المحيطين به من أساتذة وكتاب ومستشرقين وسياسيين وأنه لم ينل حقه بالتمام، كأنه أراد أن يجعل من سيرته التعويضية هذه ملحمة بدوية على غرار ملحمة عنترة وسيف بن ذي يزن والزير سالم.
قدم بدوي بأسلوبه الجزل المحكم الخالي من التكلف شهادة باذخة على قرن بأكمله ليس في مصر الملكية فقط بل ومصر العدوان الثلاثي ومصر ثورة يوليو وما تلا ذلك من أحداث
لا ريب أن بدوي جبل معرفي ومفخرة عربية وإسلامية وقامة فلسفية كبيرة وهو الوجودي الذي ظل يتباهى بوجوديته إلى آخر رمق في حياته، كما أنه قنطرة فلسفية وفكرية بين الشرق والغرب، وإذا كان ابن رشد أو الفارابي هما المعلم الثاني فعبد الرحمن بدوي هو المعلم الثالث، ففي جعبته أكثر من مئة كتاب بين تأليف فلسفي رصين وتحقيق لكنوز التراث العربي والإسلامي وتأليف نثري وشعري وترجمات، ما يجعل الكثيرين من هواة جمع الألقاب في الجامعات العربية المعاصرة كدكتور وبروفسور ومحاضر موقع السخرية والإساءة إلى مضمون الألقاب التي يحملونها، فلا يعرف للكثير منهم إلا الجعجعة والطنين والعجيج والتبجح والادعاء الفارغ المفضوح وقد سخر بدوي منهم جميعًا.
قدم بدوي بأسلوبه الجزل الخالي من التكلف والعبارة الناصعة واللفظ الدقيق المحكم شهادة باذخة على قرن بأكمله ليس في مصر الملكية فقط بل ومصر العدوان الثلاثي ومصر ثورة يوليو ومصر السادات وشهد على العالم العربي في حروبه التحررية والوحدة بين مصر وسوريا وحرب اليمن والثورة الجزائرية والانقلابات في سوريا والعراق وليبيا والثورة الإسلامية في إيران.
ولا يخفي بدوي إعجابه بالفكر الألماني وبالمثالية الألمانية وبالفلاسفة الألمان هيجل ونيتشة وهيدجر وقد خصهم جميعًا بمؤلفات رصينة عميقة، وكان بدوي من كبار متقني اللغة الألمانية كإتقانه الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية واللاتينية والفارسية، ومن كل لغة نقل روائع الفكر والأدب، غير أن لألمانيا موقعًا خاصًا، فهذا البلد زاره شابًا ورأى فيه هتلر وجهًا لوجه واستمع إليه في ميونيخ لا يخفي بدوي إعجابه بالألمان وفرحه بانتصارهم وأمله في انتصار دول المحور على الحلفاء لأن الاستعمارين الفرنسي والبريطاني لا سبيل لكسر شوكتهما إلا باندحار قواتهما أمام هتلر، وكان هذا شعور الملايين من العرب.
ويستمر في إطلاق قنابله الفكرية وفي الإطاحة برؤوس العلم والفكر غير أنه يعرج هذه المرة على القلب والوجدان، ومن يعرف بدوي لا يعرفه إلا رجلًا يبدو أقرب إلى الغلظة وجفاء الطبع والقسوة والجد والصرامة والانصراف إلى القراءة أو الكتابة أو التحقيق لا شأن له بلواعج الحب وتباريح الغرام ونشوة المدام وفتنة القد والخد.
لكن هذا غير صحيح فبدوي صاحب وجدان يذوب رقة وصبابة، وصاحب نفس متعطشة للحب والمتعة على الرغم من أنه لم يتزوج أبدًا، وفي سيرته تجرأ على الحديث عن تجاربه الغرامية ولياليه في سويسرا وألمانيا وإيطاليا وخص نساء عرفهن بطيب التحية والثناء أن منحنه المتعة والإلهام معًا، وها هو يتحول إلى شاعر وجداني رقيق:
يا ابنة “الإيزر” يا أحلى فتـاة
أيــــــــن أنت الآن؟ آه منك آه
شعلة الحب التي أوقدتـــــــــها
نورت للقلب أسباب الحيــــــاة
ونداء النهد ريان الصــــــــدى
يعصر الشهوة في كأس الجناة
وهناك شعور بالأسى وشجن ظاهر لا يدارى إضافة إلى مشاعر السخط والغضب والضيق والتبرم ونزعة الاستعلاء والسخرية وقليل من الصفاء والمرح وذلك حين يتناول قريته شرباص البلدة الوادعة النائمة في أحضان الريف يحرسها القمر الساجي ويزفها إلى مرقدها حفيف الشجر وهمس السواقي وبرد النسيم المعطر بطهارة الأرض، ثم جمال الطبيعة في سويسرا وألمانيا وإيطاليا لا بطريقة النوستالجيا الغريرة بل نوستالجيا واعية بصيرة، فحال العلم كان أفضل وكذلك تعلم اللغات ومستوى الكتابة وممارسة السياسة وفي كل مرة كان يستشهد بهذا البيت المأثور:
رب يوم بكيت منه فلمــــــــا
صرت إلى غيره بكيت عليه
وكما كان منتظرًا، فمن يعرف فكر بدوي ينتظر منه أن يدين الشعر الحر ويعتبره حركة شيوعية وله محاولات شعرية كلها عمودية لا جدة فيها، وامتد مقته إلى الحركات الأدبية والفنية في العالم، فنال من سارتر واعتبره ميع الوجودية كما أنه كاتب مسرحي وليس فيلسوفًا، كما نال من حركات الشعر الحديث في أوروبا وعدها غامضة غير مفهومة ولم يستثن من هجومه الدادية والسريالية واللامعقول والعبثية وغيرها.
وجرأته في مهاجمة الصهيونية ظاهرة ونزعته العربية الإسلامية تقطر من قلمه قطرًا رغم محاولة تقديم نفسه كفيلسوف وجودي ومفكر حر باحث متعمق في شؤون الفلسفة قديمها وحديثها، وقد عرى ثلاثة من أدباء ومفكري فرنسا ورماهم بالتعاطف مع “إسرائيل” والصهيونية كيوجين أونسكو وناتالي ساروت وبدرجة أقل سارتر الذي اتهمه بإبطان التعاطف مع “إسرائيل” وإظهار التعاطف مع العرب، كما عرى النزعات الانفصالية في العالم العربي كالفينيقية والآشورية والبربرية في شمال إفريقيا.
وفي فترة عمله في بنغازي بليبيا تعرض للاعتقال من مخابرات الزعيم وكانت تجربة حزينة وشاقة لأنها تنكر مجهود الرجل العلمي والفلسفي – وقد حقق كثيرًا من نفائس المخطوطات الفلسفية هناك على الرغم من اعتباره الفلسفة الإسلامية مجرد شرح لفلسفة اليونان – وتدريسه للطلبة وتأطيره لهم، فكل ذلك لم يثن زبانية النظام عن الزج به في زنزانة الاعتقال لشكوكهم في عداوته لثورة الفاتح وأخيرًا إجباره على مغادرة ليبيا وهذا بعد مساع من الرئيس أنور السادات.
ومن غير شك أن بدوي كان متجاوزا في حكمه على بعض المفكرين وتطاوله عليهم كالعقاد الذي أوعز إلى بعض رفاقه فتعرضوا له ذات يوم وهو عائد إلى بيته فأشبعوه ضربًا وركلًا وصفعًا
تبقى النقطة الأكثر جدلًا في سيرة بدوي موقفه من ثورة يوليو 1952 فقد صب جام غضبه وأقذع العبارات على مجلس الثورة وجمال عبد الناصر، واصفًا إياه بالطاغوت ومخابراته بالزبانية وليس ذلك فقط لتجريد النظام أسرة بدوي من أملاكها بدعوى محاربة الإقطاع والتخلص من آثار العهد الفاسد عهد فاروق، بل إن بدوي رحب بالثورة وهذا شأن كل وطني مخلص غيور على شعبه، فالفساد قد طم وعم وكان توفيق الحكيم في “عودة الوعي” قد وصف فاروق بالفاسد المترهل الجسم كخنزير، لكن لأن النظام السابق جنح بعد ذلك إلى تغليب الهاجس الأمني والمخابراتي وأولوية العسكري على السياسي والمثقف وشكل مجلس للمحاسبة فارتكبت مظالم وعملت الوشايات والأحقاد في عزل الناس من مناصبهم من أساتذة ومسؤولين ورجال إدارة والزج ببعضهم في السجون والاختطاف والتعذيب والقتل وجردت العائلات من أملاكها بتحديد الملكية من 200 فدان إلى 100 ثم 50 فدانًا دون تعويضات وحلت الأحزاب واكتفي بالاتحاد الاشتراكي وقامت الدعاية والديماجوجيا والحماسة والانفعالات والخطب الهوجاء مقام الفكر والروية والتخطيط والدهاء السياسي وقام حول عبد الناصر لفيف من الكتاب والمثقفين والمرتزقة والطبالين والمزمرين ومنهم من لم يتوان بدوي عن رميه بالشيوعية والولاء لموسكو مثل غالي شكري ومحمود أمين العالم.
وانتقد بشدة سكوت توفيق الحكيم واصفُا إياه بالمتموقع دون أن ينسى رجال عبد الناصر صلاح سالم وشمس بدران وغيرهما، من أجل ذلك كانت هزيمة يونيو/حزيران منطقية ومنتظرة وكانت الضربة القاصمة لعشرينية من الدعاية والحماسة والتضليل وأخذ الناس بالشبهة والحجر على الحريات وتراجع الاقتصاد والثقافة والإنتاج الجامعي بسبب الهاجس الأمني والقمع والاستفراد بالقرار ووجود حاشية من المتملقين، وعلل كثرة المشيعين لجنازة عبد الناصر بأن الشعب هوايته المشي في الجنازات!
ومن غير شك أن بدوي كان متجاوزا في حكمه على بعض المفكرين وتطاوله عليهم كالعقاد الذي أوعز إلى بعض رفاقه فتعرضوا له ذات يوم وهو عائد إلى بيته فأشبعوه ضربًا وركلًا وصفعًا، وهذا سلوك غير أخلاقي يعاقب عليه القانون، وزكي نجيب محمود وعمر فروخ وغيرهم وتوفيق الحكيم صديقه القديم الذي ما سكت عن تجاوزات الثورة، بل نبه عبد الناصر إلى التجاوزات في “بنك القلق” وشهد شهادة صادقة في كتابه “عودة الوعي”.
ولا شك أن نقده لثورة يوليو فيه تجاوز، فقد كان الرجل موتورًا ومظلومًا ومن حقه بعض السخط وبعض الغضب وكثير من النقد البناء.
ومما يعيب سيرة بدوي على أهميتها البالغة حشدها بالاستطراد والخروج عن الموضوع على طريقة الجاحظ في الاستطراد، وهذا لم يكن شأن كتاب السيرة قبله وبعده، وتفسير ذلك أن بدوي أراد شهادة على قرن بأكمله وغلبت عليه نزعة الفيلسوف والمفكر المستقصي المحلل والمستدل فجاء في سيرته باستفاضات واستطرادات كانت أعباءً على النص، وكان بإمكانه الاستغناء عنها وهي جداول وأرقام إحصائية ومعطيات جغرافية وتاريخية للبلدان التي زارها وعمل بها وفي مكنة القارئ الاطلاع عليها في مظانها من قواميس وموسوعات خاصة في عصر الإنترنت وكأنه أرد أن ينبذ العقاد وهيكل وطه حسين فأتى في سيرته بما لم يأت به هؤلاء وصفى حسابه مع الجميع سياسيين ومثقفين وأساتذة ودبلوماسيين.
لهذا جاءت هذه السيرة ضخمة قل من يصبر على قراءتها دفعة واحدة بسبب الزوائد التي أثقلت كاهل النص وصارت عبئًا عليه، وربما شعر بعض المثقفين ببعض الخيبة حين طوى الذكر عن قضايا مهمة في حين ولع ببعض الاستطرادات الثانوية كقضية المستشرق الشاب باول كراوس الذي عثر عليه ميتًا وقيل إنه انتحر وقيل قتلته جهات منها الصهيونية، وظل لغز كراوس قائمًا إلى اليوم غير مفكك وبدوي خير من يميط اللثام عنه فقد عرفه عن قرب.
كما أن تجديفه في أن العلاقة بين الرجل والمرأة وحرية العلاقة الجنسية هو الأصل ورجال الدين فقط هم الذين عقدوا المسألة هي نكتة من بدوي! ومن التعب الذي ألحقه بدوي بقارئ سيرته خلوها من فهارس وعناوين الفصول وغيرها، وهكذا يضيع من يبحث عن غرض ما نظرا لأهميتها وينفق جهدًا ووقتًا أطول.
ومهما يكن فسيرة بدوي من الأهمية بمكان أنها شهادة على قرن بأكمله وعلى العالم العربي بتمامه في ركونه وفي يقظته، وفي توثبه وهزائمه، وفي أحزانه وآماله ومنجزاته، وشهادة على العالم برمته في حربيه الطاحنتين وفي حربه الثالثة الموسومة بالباردة وعلى كل المذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية والفنية وعلى أعلام الفكر الأدب والفن والسياسة.
كتب بدوي في بداية سيرته أنه جاء إلى الدنيا بالصدفة وسوف يرحل عنها بالصدفة وحدها، فهل كانت الرصاصة التي أطلقها على والده أحد خصومه قبل أن يولد هو بثلاث سنوات فاستقرت خلفه في الجدار بسبب انحناء الوالد لجمع أوراق طائشة وبهذه الحركة نجا! صدفة أم تقدير إلهي ليولد عبد الرحمن بعد ذلك بثلاث سنوات ويملأ دنيانا علمًا وفلسفةً وترجمةً ونشاطًا؟ ولربما تمثل بدوي الآن في رقدته الأخيرة بقول الرازي:
نهاية إقدام العقول عقــــــــــــــال
وأكثر سعي العـــــــالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا قيل وقالـــــــــوا
لقد كان بدوي ويظل هرمًا معرفيًا وجبلًا فكريًا ونجمًا رفيعًا، إباء وكبرياء واعتزاز بالنفس رغم عيوبه وما أكثرها – كفى بالمر نبلًا أن تعد معايبه – وهو درس لكل مثقف وأكاديمي يتيه عجبًا بلقبه وجوائزه وتكريماته الفارغة كما تتيه العروس بجواهرها ولا ينتج شيئًا لوطنه غير الجعجعة التي لا طحين من ورائها، رحم الله عبد الرحمن وتجاوز عنه.