الرعاية العسكرية.. كيف استخدمت الهند الطب كمبرر لاحتلال كشمير؟

ترجمة حفصة جودة
يعد التاريخ السياسي لكشمير حسابًا لعقود وسنين من تسليح كل نواحي الحياة، السياسية والاجتماعية وحتى الصحة والرعاية.
في كتابها “العيادة المحتلة: العسكرة والرعاية في كشمير” الذي نُشر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قامت سايبا فارما – عالمة أنثروبولوجيا ثقافية وطبية في جامعة كاليفورنيا سان دييغو – بدراسة إثنوغرافية في كشمير الهندية المحتلة، فقد تحدّت ثنائية العنف والرعاية وتحدثت عن الارتباط الوثيق بين الطب والروح العسكرية في كشمير، ما أنتج كيانًا قمعيًا من “الرعاية العسكرية”، تُستخدم لغة الرعاية كمبرر للاحتلال الهندي لكشمير.
في سياق الاحتلال والتمرد ومشاريع الدولة للسيطرة والرعاية، تأخذ سايبا جولة في الوادي الذي يقع في مفترق الطرق بين الطب والعسكرة لاكتشاف التصنيفات المختلفة للرعاية وتاريخها وتروي قصص العنف من خلال الطب، حيث تصبح العيادة موقعًا بارزًا يشهد آثار العنف والاحتلال.
لقد استكشفت كيف أنتجت سنوات من التمرد ارتيابًا بين الأفراد في العيادة، وكيف ولّدت العيادة نفسها أنواعها الخاصة من العنف.
وباء الصدمة
وثقت فارما الآثار النفسية والاجتماعية الحاليّة والسابقة لنظام عسكرة الرعاية طويل المدى، وقالت إنه بينما كانت الدولة الهندية مهووسة بتبرير احتلالها لكشمير من خلال الاستثمار المفرط في الرعاية العسكرية والتسليح النشط للطب، انتشر وباء الصدمة، فقد ارتفع عدد حالات الإصابة بالصدمة النفسية بشكل كبير في مطلع الألفية الثالثة.
هذا الارتفاع في الصدمات النفسية حل محل الوفيات كمصدر قلق الصحة العامة مع تغير الأسباب المنطقية لاحتلال كشمير، بدءًا من انتشار الجنود في انتخابات 1988 لعقود من فرض حالة طوارئ قانونية غير محددة وعسكرة وتوريق (تحويل الأصول إلى أموال قابلة للتداول) لا مثيل له.
من خلال عملها الميداني القوي والمكثف، كشفت فارما المعاناة النفسية والعاطفية الهائلة لهؤلاء الناس الذين عاشوا هذه الأزمات المتعددة.
في أثناء سفرها إلى الوادي، اكتشفت أن الحدود بين الطب والعسكرة لم تعد موجودة، حيث أصبحت البنية التحتية للصحة العامة تحت الهجوم من خلال العنف المادي (القصف والغاز المسيل للدموع) والعنف الهيكلي (منع الموارد).
في انتقادها للظلم وسخافة السياسات في الإقليم المحتل، شرحت سايبا في فصل “الحصار” كيف تحولت العيادات إلى مراكز استجواب عسكري، خلّفت ورائها بصمة واهنة في أذهان الكشميريين الذين عاشوا هذه الفترة.
الحصار الطويل
في تفسيرها لكيفية ارتباط الحصار بالنفس البشرية، حفرت فارما بعمق في التاريخ السياسي المبكر لكشمير، لتبرز على السطح القصص الضائعة للناس، وتحديًا للصورة اللطيفة للحصار كشكل من أشكال الرعاية العسكرية، وثقت التاريخ الحي للناس في ذروة الصراع.
مع انتهاء حصار كوبوارا في اليوم الثامن، تدهورت العلاقات إلى الحد الذي رفض فيه الناس الطعام الذي قدمته القوات
في أثناء حصار 1994، تحولت عيادات القرى إلى حجرات تعذيب تمتلئ بالصراخ المخيف للسكان المستعبدين.
وبينما أصبح الإذلال الروتيني جزءًا من الحياة في كشمير، أصبحت إستراتيجية الدولة في استهداف واستغلال المدنيين في الحرب جزءًا من مكافحة التمرد، في عام 2008 تعرضت قرية في مقاطعة كوبوارا لحصار لمدة 8 أيام متتالية.
تقول سايبا إن تأثير مثل هذه العملية لمكافحة التمرد لم يؤد إلى تحسن العلاقات بين القوات المسلحة والمدنيين، بل أدى إلى تفسخها، ومع انتهاء حصار كوبوارا في اليوم الثامن، تدهورت العلاقات إلى الحد الذي رفض فيه الناس الطعام الذي قدمته القوات.
هذا التوتر الناشئ بين القوات والمدنيين كان في صالح سياسة “فرّق تسد” الذي تنتهجها الدولة، فأصبح الخوف والارتياب عميقًا بين الناس الذين يحصلون على الرعاية، وكجزء من الحصار المنتظم وعمليات مكافحة التمرد، أصبحت المستشفيات امتدادًا لساحة المعركة بدلًا من أماكن للجوء.
في زيارتها بأغسطس/آب 2016 لمستشفى “SMHS” (مركز الصراع)، شهدت سايبا فترة من الاضطرابات، كانت المستشفى في هذا الوقت من الاشتباكات الدائرة وحظر التجول موقعًا لإحصاء الجثث والجرحى، كما شهدت تجاوزات الجيش وقمعه.
الضعف الجمعي
بمجرد أن يخطو المرء خارج المستشفى، فإنه يخشى العودة إلى المنزل، فدورات الاحتجاج المستمرة وقصف الغاز المسيل للدموع حوّل الشوارع إلى ساحات قتال.
وصف الكشميريون المتحدثون بالإنجليزية من الطبقة المتوسطة هذا الوضع بـ”الفوضى”، لكن الكلمة تجمع بين البيئة الصادمة في الشوارع والثورة في الأجساد والأرواح، وهو ما يصلنا بكلمة “kamzori” تلك الكلمة الأردية التي تصف الضعف غير المحدد بالجانب المادي فقط، لكنه يتضمن ضعفًا سياسيًا وأخلاقيًا جمعيًا.
استأنفت سايبا هذا الموضوع المهم لـ”kamzori” في تتبعها للتاريخ العميق للحصار في كشمير – تاريخ الاستعمار منذ عام 1586 – لفهم تأثير الحصار الطويل لقرون، في حديثها مع الناس علمت أن “kamzori” هي الشكوى الأكثر وجودًا في محيط الرعاية الصحية النفسية في كشمير.
بالانتقال من الذات الشخصية للجمعية، فإن “kamzori” كتعبير له مغزى عن الكرب لم يُجدول أبدًا كحالة فردية، لكنه يُستخدم لوصف حالات اجتماعية، ترتبط الأجساد البشرية بالتجارب الجمعية للعنف البنيوي والجسدي الذي عانى منه الكشميريون وظهر في صورة وهن جسدي.
في الحديث عن “kamzori” سنرى أن الجسد الفردي الواهن يشتبك مع الجسد السياسي الواهن، إذ تنغمس الذكريات الخاصة للموت والاختفاء والفقد في المساحات العامة من خلال أفعال التذكر الجندرية.
في كل شهر تجتمع السيدات من أعضاء “رابطة آباء الأشخاص المختفيين” في وسط سريناغار، مسلحات بملصقات وصور لأحبابهن في احتجاجات مكبوتة لكنها ملفتة للنظر.
في هذا الإصرار يكمن الأمل، وسط الأرواح المحطمة والمنكسرة، وفي تنويرها المؤثر لانهيار المعنى والممارسة والبنية التحتية للرعاية، تبحث فارما عن تسليح الناس والأماكن في مفترق الطرق بين العسكرة والطب، هذا الكتاب سيقيس كل الإيدولوجيات القومية وأوهام الدولة الهندية في المستقبل.
المصدر: ميدل إيست آي