اتّساقًا مع الخبر المعلَن بواسطة شركة “أمازون” الأمريكية، بتحوُّل منصّة “سوق” الإماراتية سابقًا، والعاملة كمنصّة تجميعيّة تيسِّر للمستهلك الحصول على حاجاته عبر الإنترنت، من خلال كونها وسيطًا بين المنتِج والمستهلك، إلى “أمازون” فقط، في يوليو/ تموز الماضي؛ أعلنت “أمازون” طيّ صفحة “سوق مصر” للأبد، لتصبح العلامة التجارية الرقمية باسم “أمازون” فقط.
أدّى هذا الخبر، الذي تمّ إطلاقه في مراسم رسمية حكومية، إلى سيلٍ من التحليلات والانطباعات، المختلفة في المضامين ولكن الرابط المشترك بينها جميعًا هو أهمية القرار والخبر، إذ لم يعد هناك “سوق” بعد الآن في مصر، وإنما “أمازون” فقط.
خلفية
من الضروري في هذا الزخم أن نتعرّف، كمستهلكين وزبائن محتملين على الأقل، إلى خلفية هذا القرار والتحول. ببساطة، إنّ تحول “سوق” إلى “أمازون” يعكس لنا أكثر من حقيقة على أرض الواقع، فيما يخصّ مجال التجارة الإلكترونية النامي عالميًّا بشكل عام، وفي مصر ذات الكثافة السكانية الضخمة والأغلبية الشبابية بشكل خاص.
بدأت “أمازون” دخول منطقة الشرق الأوسط، عن طريق الاستحواذ على شركة “سوق” الإماراتية للتجارة الإلكترونية.
الحقيقة الأولى أن هذا التحول يأتي في الأساس بناءً على مساعي “أمازون” المملوكة والمرتبطة باسم رجل الأعمال العالمي جيف بيزوس، بسبب دخول أسواق جديدة مناطق لم تكن في دائرة اهتمام الشركة التي تأسّست عام 1995، للعمل في تجارة التجزئة في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل رئيسي كنقطة انطلاق.
من بين الأسواق التي خطّطت الشركة إلى ولوجها في السنوات الأخيرة، هي أسواق ما يُعرَف بأسواق الشرق والجنوب، على أساس جغرافي، أو أسواق الظلّ والهامش، إذا ما قورنت بالطابع الرأسمالي لمهد هذا النمط من الاستثمارات في العالم الغربي.
بدأت “أمازون” دخول منطقة الشرق الأوسط عن طريق الاستحواذ على شركة “سوق” الإماراتية للتجارة الإلكترونية، في مارس/ آذار 2017، بصفقة قالت المصادر إن قيمتها التقديرية، والتي لم تعلَنْ بشكل رسمي، بلغت ما بين نصف مليار ومليار دولار أمريكي.
يقول الاقتصاديون إن “أمازون”، بهذا النمط من الاستحواذ، حتى لو كانت قيمة شراء الكيانات الأخرى عالية بعض الشيء، فإنها في الواقع تشتري معها “عوامل النجاح” أيضًا، بما في ذلك قواعد البيانات الضخمة للمستخدمين الخاصة بشركة “سوق” والعمالة الماهرة وتقنيات اللوجستيات، كالشحن والتوزيع ومراكز البيع الموجودة بالفعل، والتي سيجري فقط استنساخها وتوسعتها.
بخطةٍ تدريجية بدأت “أمازون” في الانضمام إلى سوق عربي ضخم كلّ عام، ففي أبريل/ نيسان 2019 ولجت “أمازون” السوق الإماراتية للتجارة الإلكترونية بالطريقة نفسها، مع تغيير اسم العلامة التجارية من “سوق” إلى “أمازون”، وهو السوق الأكثر جاهزية من حيث العدّة القانونية والتسهيلات اللوجستية في العالم العربي.
وفي العام التالي، يونيو/ حزيران 2020، دخلت إلى السوق السعودية بالطريقة نفسها، وصولًا إلى اقتحام السوق المصرية في سبتمبر/ أيلول 2021، بإطلاق منصة جديدة تحمل اسم “أمازون” ومزيد من الخدمات اللوجستية الرقمية التي تخدم سلاسل التجارة.
ثلاثة مستفيدين
تلقّت 3 أطراف هذا الخبر بدخول “أمازون” إلى السوق المصرية بالحبور والحماس، وهي الأطراف الثلاثة المستفيدة من هذه العملية: الطرف الأول “أمازون” نفسها، التي ضمنت لنفسها مكانًا قانونيًّا مدعومًا حكوميًّا في السوق العربي الأكبر، وأحد أبرز الأسواق في المنطقة.
تخطِّط “أمازون” إلى أن تكون مصر قاعدة انطلاق لها، تصنيعيًّا وتسويقيًّا على أرض الواقع، إلى أسواق إفريقيا والدول العربية الموجودة في القارة السمراء، وذلك من خلال الاستفادة من الموقع الجغرافي المتميّز والتسهيلات اللوجستية والعمالة الرخيصة والبنية التحتية الجيدة.
الهدف الأبرز، والنوعي، الذي ستستفيد منه الحكومة المصرية في هذه الخطوة، هو توسيع رقابتها المرجوة على سوق التجارة الإلكترونية في مصر، و”رسمنة” هذا القطاع العملاق.
الطرف الثاني الذي يسوِّق لأهمية هذا الخبر، هو الطرف الآخر الذي وافق على دخول “أمازون” إلى السوق المصرية، والاستحواذ على “سوق مصر”، وهو السلطات المصرية، التي ستستفيد من توسُّع عملاق تجارة التجزئة، وإحدى الشركات الخمس الكبرى في العالم، من خلال “الوظائف” الجديدة التي ستخلَق للشباب من الفنّيين والعمّال، والأراضي الجديدة التي ستُباع لـ”أمازون” وتُخلَق بجوارها كيانات استثمارية ضخمة، عمرانيًّا وخدميًّا، والضرائب الباهظة التي ستجبيها الحكومة من الشركة العملاقة، إلى جانب الدعايا العالمية.
غير أنَّ الهدف الأبرز، والنوعي، الذي ستستفيد منه الحكومة المصرية في هذه الخطوة، هو توسيع رقابتها المرجوة على سوق التجارة الإلكترونية في مصر، و”رسمنة” هذا القطاع العملاق الذي تصل حجم تجارته المعلنة فقط إلى 40 مليار جنيه، ضمن مساعي تعزيز سياسات التحول الرقمي والشمول المالي، والتي تصبّ جميعها في صالح تقنين هذا القطاع.
في السياق نفسه، كانت الحكومة المصرية التي نظّمت عددًا من المؤتمرات الكبرى، التي شهدت حضور وفود ضخمة من المسؤولين والمنتجين والتقنيين، قد أعلنت حزمة قوانين مقترحة بالتعاون مع عدد من المنصات الرقمية العالمية العاملة في الداخل المصري، من أجل فرض ضرائب على أي إعلان، مهما كان بسيطًا، لتسويق منتجات على الإنترنت، بغرض “رسمنة” هذا القطاع.
المستفيد الثالث الذي ملأت تحليلاته مواقع التواصل الاجتماعي في الساعات الأخيرة، هو طبقة المستهلكين الذين سيتمتّعون بمزيد من الخدمات الرقمية النوعية التي ستقدِّمها الشركة التي يتجاوز رأسمالها تريليون دولار، بما في ذلك الحصول على منتجات مصنوعة في أميركا عبر “أمازون” بأسعار مخفّضة نتيجة تعاون الشركة مع الجمارك المصرية، وخدمات ثانوية أخرى تهمّ المستهلك كالشحن المجاني، الذي طُبِّق بشروط بسيطة جدًّا في تجربة “أمازون” في الخليج.
صغار المنتجين: الخاسر الأكبر
طالما أن هناك مستفيدين في تنافس رأسماليّ ضخم كهذا، فلا بدّ أن يكون هناك أيضًا خاسرون؛ هذه أبجديات التنافس الرأسمالي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بطموحات “أمازون” في سوق احتكاري لا يتمتع بالشفافية المطلوبة في المجالات الحيوية، كالدواء والغذاء والبناء، فضلًا عن التجارة مثل السوق المصرية.
يرجّح الخبراء أن تتعرض الشركات الكبرى العاملة في مصر في مجال التجارة الإلكترونية، والتي تظلّ أصغر في حجم المبيعات والأرباح والموظفين من “سوق” التي صارت “أمازون”؛ إلى موجة كساد تدريجيّ، بسبب نفوذ “أمازون” المتوقَّع في السوق المصرية.
قبل أن تُباع “سوق” الإماراتية (الأمّ) وفروعها الإقليمية، بما في ذلك “سوق مصر”، إلى “أمازون”، كان هناك 3 شركات متقاربة في الإمكانات تتنافس على قطاع التجارة الإلكترونية في مصر، هي “سوق” و”جوميا” و”نون”، وهو ما كان يحافظ على توازن السوق، ويحمي المستهلك من الاحتكار.
أما الآن فقد أضحت الفجوة بين هذه الشركات الثلاث، فضلًا عن الكيانات الأقلّ حجمًا، والتي يزيد عددها في السوق المصرية، كبيرةً، إذ كيف يمكن لشركةٍ يبلغ رأسمالها الإجمالي حوالي مليار ونصف المليار دولار مثل “جوميا”، أن تنافس شركة أخرى في المجال نفسه يبلغ حجم استثمارات وأصول فرعها الرئيسي أكثر من تريليون دولار؟ والكلام هنا عن “أمازون” بالطبع.
إلى جانب هذه الشركات المذكورة التي قد تُسحَق في خضمّ التنافس مع “أمازون” في مصر، هناك قطاعات معيّنة تفضِّل الشركة الأمريكية الاستثمار فيها، مثل الأجهزة الكهربائية والأثاث والصيدلة، ويتوقع أن تنجح “أمازون” في الحصول على نصيب الأسد منها محليًّا في مصر، خلال وقت وجيز.
أضلاع مثلث الاحتكار
الخوف من عواقب توسُّع “أمازون” في السوق المصرية ليست اعتباطية، أو مجرد مخاوف نظرية متعلقة بالتنافس في عالم رأسمالي؛ وإنما هناك شواهد كثيرة تدعم هذه المخاوف التي تختلج في صدر منافسي الشركة من جهة، وخبراء السوق والاقتصاد الذين يتطلّعون إلى منافسة صحّية من جهة أخرى.
على رأس هذه المخاوف أن الشركة الأميركية ليست مجرد منصة أو مستثمِر في قطاع التجزئة، أو ميسِّر للخدمات اللوجستية، وإنما هي “مُصنِّع” أيضًا، يسعى إلى الاستحواذ على كل سلاسل الإنتاج والتصنيع في أي سوق تقوم باقتحامها، بما يضمن لها تقديم المنتَج إلى المستهلِك بأقل سعر، استغلالًا للعمالة الرخيصة والتسهيلات الحكومية والتحكم في سلاسل الإنتاج والتوزيع.
يقول الكاتب الاقتصادي محمد رمضان، إن أمازون بنيت في الأساس للتوسُّع الأفقي والتضخُّم والاحتكار لا المنافسة، وذلك بدليل أن معظم الأرباح يعاد تدويرها داخل أهداف الشركة في الأسواق الجديدة، بدلًا من إنفاقها.
في الولايات المتحدة الأمريكية، تعرّضت “أمازون” إلى المساءلة القانونية والبرلمانية، بسبب منافستها المشكوك في نزاهتها لإحدى شركات صناعة الحفاضات في السوق الأمريكية، مستغلةً قدراتها المالية ونفوذها القانوني واللوجستي والتقني، ما أدّى في النهاية إلى الاستحواذ على هذه الشركة، وهو مصير كل منافس حقيقي لـ”أمازون”، إما أن يُباع لها، كما حدث مع “سوق”، وإما يترك السوق كليًّا ويصفّي أنشطته.
هيكليًّا، يقول الخبراء مثل الكاتب الاقتصادي محمد رمضان، إن هذه الشركة بُنيت في الأساس للتوسُّع الأفقي والتضخُّم والاحتكار لا المنافسة، وذلك بدليل أن معظم الأرباح يعاد تدويرها داخل أهداف الشركة في الأسواق الجديدة بدلًا من إنفاقها، وهو ما يفسِّر الفجوة الضخمة الملحوظة دائمًا في الاستثمارات والمبيعات العالية للشركة، مقابل صافي الأرباح الذي يكون ضئيلًا بسبب تدويره في التوسُّع من جديد.
وفي الأخير، يقيّم الخبراء مثل خالد أبو شادي هذا الوضع الجديد، بأنّ جزءًا لا يُستهان به في ملعب السلطات المصرية، التي يجب ألا تغترّ بالميزات المظهرية لدخول “أمازون” إلى السوق المحلية، إذا كانت هذه الميزات سوف تؤثر سلبًا على جوانب غير مرئية من السوق، مثل التنافسية المطلوبة حتى في أكثر الاقتصادات رأسمالية في العالم، الولايات المتحدة، فالرأسمالية ليست مبرِّرًا للاحتكار أبدًا، يقول أبو شادي.