في غياب الإنجازات، دائمًا ما تذهب الأنظمة الاستبدادية إلى العنف للتغطية عن عجزها، وإجبار “المواطنين” على الركون في منازلهم والقبول بالأمر الواقع، وهذا ما يحصل تمامًا في تونس، في ظل سعي الرئيس قيس سعيّد للسيطرة على مقاليد الحكم، بعد انقلابه على دستور بلاده ومؤسسات الدولة الشرعية، وسعيه أيضًا للسيطرة على الفضاء العام.
مشاهد مأسوية
المشاهد القادمة من شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة تونس، عشية يوم الأربعاء، كانت سوداوية ومخجلة إلى أبعد الحدود، فقد تفنّنت قوات الأمن بالزيَّين الرسمي والمدني في الاعتداء على الجميع المتظاهرين السلميين والصحفيين والمحامين ونشطاء مجتمع مدني، حتى المارّين من هناك بالصدفة وصلتهم عصا الأمن.
لم تكن المظاهرة ضد قيس سعيّد وإجراءاته الانقلابية، وإنما كانت للمطالبة بكشف حقيقة الاغتيالات السياسية (شكري بلعيد ومحمد البراهمي)، نظّمها شباب حركة “ماناش مسلمين/ات”.
بدأت المظاهرة سلمية، لكن عناصر الأمن المتمركزين هناك بأعداد كبيرة، كانوا في أُهبة الاستعداد لقمع المظاهرة، بحجّة مخالفتها لقانون الطوارئ وقرارات الرئيس، التي فرضَ فيها عدم التجمهر لأكثر من 3 أشخاص.
تشهد تونس منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، عدة انتهاكات انطلقت بتجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة وتولي سعيّد كل السلطات.
تُعتبر هذه المظاهرة الأولى التي تنفّذها حركة “ماناش مسلمين/ات”، بعد انقلاب 25 يوليو/ تموز الماضي، وقد كانت احتجاجاتهم أسبوعية، فكُلّ يوم أربعاء يقام احتجاج أمام وزارة الداخلية للمطالبة بكشف حقيقة الاغتيالات السياسية التي شهدتها تونس عام 2013.
في السابق، كانت الاحتجاجات تمرُّ بسلام، يصدح المتظاهرون بمطالبهم وشعاراتهم المندِّدة بالحكومة والنظام ووزارة الداخلية وحركة النهضة وعديد الأحزاب الأخرى، لكن هذه المرة حصل العكس، فقد كان عناصر الأمن بالمرصاد لهم، وجرى إيقاف البعض ثم أُطلق سراحهم بعد التنكيل بهم وتدخُّل المحامين.
الاعتداءات طالت الجميع
طالت الاعتداءات أغلب الحاضرين في شارع الحبيب بورقيبة، بدءًا بالصحفيين، فقد تعرض الصحفيون للدفع والضرب خلال تفريق قوات الأمن للمحتجّين، رغم ظهورهم ببطاقاتهم المهنية وارتدائهم لسترهم المميِّزة لهم.
بعض الصحفيين أُسقِطوا أرضًا، ما خلّف لهم إصابات على مستوى الظهر، وفيهم من مُنِع من العمل وجرى دفعه وتعطيل حريته وتحديد مجال تحركه، وفق ما عاينته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ميدانيًّا.
اعتبرت نقابة الصحفيين الاعتداءات المسجَّلة في حق الصحفيين تراجعًا خطيرًا في التعاطي الأمني مع الصحفيين الميدانيين، خلال تغطيتهم للحركات الاحتجاجية، ومؤشّرًا لانتكاسة في مسار الصحفيين نحو الحرية.
كما استنكرت النقابة استعمال العنف الأمني ضد المحتجّين السلميين، وهو نفس أسلوب النظام البائد ونظام حكومات الترويكا المعادي لحرية التعبير وحرية التجمهر السلمي، وذلك عوض الحوار والاستماع إلى مطالبهم والعمل على حلِّ الإشكالات المطروحة.
بدوره وصف الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، في بيان، يوم الخميس، الاعتداءات الأمنية بـ”الهمجية”، وطالب بفتح تحقيق فيها، وأكّد الاتحاد أنّ الحقوق والحريات خطٌّ أحمر ولا يمكن القبول بالتضييق عليها.
كما أكّد الحزب الجمهوري في بيان له، أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشكِّل الأحكام الاستثنائية، التي أعلنها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، مدخلًا لانتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين ومصادرة الحريات العامة.
وقالت الصحفية يسرى الشيخاوي، التي هي إحدى ضحايا الاعتداءات الأمنية، لـ”نون بوست”: “ما حصل أمس هو قمع عنيف مارسه الأمنيون على المحتجّين والصحفيين والمحامين والناشطين في المجتمع المدني”.
وتصفُ يسرى ما حصل: “منذ انطلاق الوقفة مع الساعة الخامسة بعد الظهر، حاولت قوات الأمن منع المحتجّين من الاحتجاج ومن التقدُّم نحو مدرّج المسرح البلدي وسط العاصمة، ومن ثم منعوا بعض الصحفيين من التصوير بحجّة عدم ارتدائهم السترات التي تحملُ شارة صحفي، رغم استظهارهم ببطاقة صحفي”.
تكمل يسرى: “بعد ذلك بدأت عناصر الأمن في استعمال القوة والغاز المسيل للدموع لفضّ الاحتجاج، وقد طالَ العنف المحتجين والصحفيبن رغم ارتداء السترات.. التعامُل الأمني كان فيه الكثير من القوة والفظاظة”.
يريد سعيّد وأنصاره إيصال رسالة للتونسيين مفادها أن الشارع لم يعد متاحًا بعد 25 يوليو/ تموز.
تؤكد محدثتنا أن “هذا الأمر يدقّ ناقوس الخطر فيما يخص حق التظاهر السلمي وحرية التعبير والصحافة”، وتعتقد يسرى أن ما حصل بالأمس يحيل إلى بداية انتكاسة على مستوى الحريات، ترجو أن يتمَّ تداركها باعتذارت رسمية من الجهات المسؤولة.
بدوره أدان حزب العمال هذه الاعتداءات، و”حمّل رئيس الدولة، رئيس كل السلطات والأجهزة مسؤولية هذا القمع السافر” ، معتبرًا أن ما جرى “هو اختبار جدّي لقائد الانقلاب، يؤكّد بالدليل والبرهان عداءه للحقوق والحريات التي طالما صرّح ولمّح أنه يرفضها ومستعدّ لمصادرتها”.
وسبق أن طمأن الرئيس التونسي قيس سعيّد، داخل البلاد وخارجها، بأنه “ملتزم” باحترام الحقوق والحريات والاحتكام للقانون والدستور، لكن يبدو أنه مجرد كلام لا أثر له على أرض الواقع.
وتشهد تونس، منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، عدة انتهاكات انطلقت بتجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة وتولّي سعيّد كل السلطات، كما خضع الكثير من الشخصيات -بينهم قضاة وموظفون كبار في الدولة وموظفون في الخدمة المدنية ورجال أعمال وأحد البرلمانيين- لقرار منع السفر والإقامة الجبرية دون أي إذن قضائي.
السيطرة على الفضاء العام
تُعتبر حرية التعبير والرأي من أبرز مكتسبات الثورة التونسية التي قامت عام 2011، وتمكّن الدستور التونسي من أن يكفل هذا الحق عبر سنِّ مجموعة قوانين تعزِّز هذه المكتسبات ولا تسمح بتهديدها أو تقويضها، لكن هذا المكسب مهدَّد الآن وبقوة.
هذه الاعتداءات العنيفة في حق تونسيين خرجوا للمطالبة بكشف ملفات الاغتيالات السياسية، هدفها السيطرة على الفضاء العام وإجبار التونسيين على البقاء في منازلهم والرضاء بالأمر الواقع، وفق ما أكّده العديد من التونسيين.
يريد سعيّد وأنصاره إيصال رسالة للتونسيين مفادها أن الشارع لم يعد متاحًا بعد 25 يوليو/ تموز، خاصة أن أولى قراراته التي أعقبت الانقلاب على الدستور كان تمديد حالة الطوارئ 6 أشهر أخرى ومنع التجمعات.
ليس العنف وحده وسيلة سعيّد للسيطرة على الفضاء العام، بل الإشاعات أيضًا، فلا يمرُّ يوم دون أن نسمع بحملة اعتقالات وإيقافات في صفوف النوّاب ورجال الأعمال الفاسدين، الذين أهلكوا البلاد وعاثوا فيها الفساد، بهدف “التضليل الإعلامي”.
يعمد هؤلاء إلى توسيع مدى انتشار المعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، حتى يضعوا التونسيين أمام الأمر الواقع، حيث يُعتبر توظيف الإشاعات وسيلة وأداة للتلاعُب بالرأي العام، فهم يستغلون ردود فعل الجمهور القديمة والمتكررة عن عمد.