في الوقت الذي تتصاعد فيه حملات التشكيك في التعليم الأزهري وموجات المطالبة بدمجه في التعليم العام، تشهد الساحة المصرية ظاهرة هي الأولى من نوعها، حيث تهافتت آلاف الأُسر المصرية خلال الأيام الماضية على تحويل أبنائها من مدارس التعليم العام إلى المعاهد الأزهرية، بدءًا من العام الدراسي القادم.
تقليديًّا، كان من المعروف خلال الأعوام الماضية أن التحول من الأزهري إلى العام هو السمة الطبيعية، في ظلّ صعوبة المناهج الدراسية التي تدرَّس في المعاهد الأزهرية، حيث كان يطلَق على الثانوية الأزهرية مسمّى “الانتحار”، فيما كانت تمثّل النتائج كل عام صدمة بالغة لكثير من الأُسر، لا سيما أن مدارس بأكملها ما كان ينجح منها أحد، وهذا غير موجود في المدارس التابعة للتربية والتعليم.
ودومًا ما كانت تتعرض المناهج الدينية لكثير من الانتقادات والهجوم من العلمانيين واليساريين على حد سواء، بدعوى افتقادها لمعايير التطوير ومواكبة تطورات العصر، وتمسُّكها بالمسائل الدينية التي عفى عليها الزمن وما عادت تتناسب والواقع المعاش حاليًّا، بل وصل الأمر إلى المطالبة بإلغاء التعليم الديني بالكلية، وتصاعدت تلك الأصوات مع سيطرة حركة طالبان على أفغانستان.
الهجرة الجماعية -إن جاز تسميتها هكذا- من التعليم العام بسهولته المعهودة، إلى الأزهري رغم صعوبته، كانت مثار عدة تساؤلات لدى الخبراء التربويين والمهتمّين بالعملية التعليمية، فهل يسحب التعليم الديني في مصر البساط من تحت أقدام التعليم العام، رغم حملات التشويه المستمرة للمناهج الأزهرية وفكرة التعليم الديني برمّتها؟
إقبال كبير على التعليم الأزهري
بحسب رئيس قطاع المعاهد الأزهرية، الدكتور سلامة داود، فهناك أكثر من 300 ألف طالب تقدموا للازهر الشريف هذا العام في رياض الأطفال والابتدائي الأزهري، فيما وصل عدد الطلاب الذين حُوِّلوا من مدارس التربية والتعليم إلى المعاهد الأزهرية قرابة 20 ألف طالب حتى اليوم، مقارنة بـ 5 آلاف فقط حُوِّلوا من الأزهري إلى العام.
وشهد عام 2020 إقبالًا غير مسبوق في الالتحاق بالمعاهد الأزهرية، حيث بلغ إجمالي عدد الطلاب المقبولين في مرحلة رياض الأطفال 128978 طفلًا، بزيادة 17298 طفلًا عن العام السابق، أما عدد المقبولين بالصف الأول الابتدائي فبلغ 237520 تلميذًا، بزيادة 44617 تلميذًا عن العام السابق.
كما بلغ إجمالي عدد الطلاب المحوَّلين هذا العام من مدارس التربية والتعليم إلى المعاهد الأزهرية 25010 طلاب، بزيادة بلغت 11592 طالبًا عن العام السابق، وفي الجهة المقابلة تراجعت أعداد المحوَّلين من المعاهد الأزهرية إلى مدارس التربية والتعليم بمقدار 11027 مقارنة بالعام الماضي.
تخضع عملية التحويل للمعاهد الأزهرية لعدة ضوابط، من بينها امتحان طلاب صفوف المرحلة الابتدائية والإعدادية في القدر المقرَّر حفظه من القرآن الكريم شفويًّا.
من جانبه أشار رئيس الإدارة المركزية لمنطقة المنيا الأزهرية، الدكتور أحمد محمد طلب، إلى أن إدارة المعلومات والبيانات بالديوان العام تواصل جهدها الدؤوب للأسبوع الرابع على التوالي، في تلقّي وتسجيل طلبات الراغبين في التحويل من وزارة التربية والتعليم للأزهر الشريف بصفوف المرحلتَين الابتدائية والإعدادية، في ظل الضغط الكبير على عملية التحويلات.
كما لفت الدكتور طلب إلى أن معدلات التحويل للمعاهد الأزهرية قد سجّلَت إقبالًا مرتفعًا على مدار الـ 4 أسابيع الماضية، من بداية أغسطس/ آب الماضي حتى نهايته، وذلك مقارنةً بالأعوام الماضية.
وتخضع عملية التحويل للمعاهد الأزهرية لعدة ضوابط، من بينها “امتحان طلاب صفوف المرحلة الابتدائية والإعدادية الراغبين في التحويل إلى الصفوف المناظرة بالمعاهد الأزهرية في القدر المُقرر حفظه من القرآن الكريم شفويًّا، على نحو يحقق التوازن بينهم وبين أقرانهم بالمعاهد الأزهرية، شريطة تحقيق نسبة حفظ لا تقل عن 70%”.
فقدان الثقة في التعليم العام
“بصراحة ما عدنا نأمن على أبنائنا في ظل النظام التعليمي المعمول به حاليًّا، التغيرات المتتالية وغياب التخطيط وتحويل أبنائنا إلى فئران تجارب للسيد الوزير، كانت الدافع الأبرز وراء التحول إلى التعليم الأزهري”.. تلك كانت إجابة السيدة صفية يسري، والدة أحد الطلاب بالمرحلة الإعدادية، والتي حوّلته إلى أحد المعاهد الأزهرية بمحافظة الدقهلية.
وأضافت في حديثها لـ”نون بوست” أن العام الدراسي الماضي شهد كوارث وفضائح بالجُملة، وظلَّ الطلاب حتى الأيام الأخيرة من العام الدراسي لا يعرفون شيئًا لا عن المنهج الخاص بهم، ولا عن طريقة الامتحانات، ولا عن المطلوب منهم لعبور الاختبارات التي جاءت في معظمها صادمة وعكس التوقُّعات.
وتعجّبت السيدة الأربعينية، التي تعمل منسّقة إعلامية بإحدى الوزارات، من تصريحات وزير التعليم التي وصفتها بالاستفزازية، المتعلقة برغبة العديد من الدول الاستعانة بالتجربة المصرية في التعليم، لافتة إلى أن تلك التصريحات تفتقدُ للموضوعية والمصداقية بدرجة كبيرة، مختتمة حديثها بالقول: “حين تنجح التجربة في مصر بدايةً، نصدّرها للخارج”.
الرأي ذاته ذهب إليه صبحي، المدرِّس بإحدى المدارس الثانوية بمحافظة الغربية، حيث أكّد أن الخطة التعليمية الجديدة التي تسعى الحكومة تطبيقها على الطلاب المصريين، لا تتناسب والأجواء المصرية، كما تفتقد لظروف وخصائص الطالب المصري، وإن نجحت في بعض البلدان الأخرى فإن الأمر في مصر غاية في الصعوبة، لعدة أسباب على رأسها غياب البنية التحتية التكنولوجية الملائمة، وافتقاد الكوادر المؤهَّلة لتنفيذ بنودها.
زاد عدد المدارس والمعاهد الأزهرية لـ 65.9 ألف مدرسة ومعهد أزهرى للعام 2018-2019
وأوضح أن هناك رفضًا مجتمعيًّا شاملًا لتلك الخطة مجهولة الملامح، لكن من الواضح أن هناك إصرارًا رسميًّا على تطبيقها، خاصة أنها تحظى بدعم رئيس الجمهورية، رغم الأخطاء والفضائح التي شهدتها عملية التطبيق خلال العامَين الماضيَين، الأمر الذي أفقدَ كثيرًا من الأُسر الثقة في تلك المنظومة برمّتها، وعليه كان اللجوء للخيار الصعب وهو التحويل إلى التعليم الأزهري رغم صعوبته، بحسب تصريحاته لـ”نون بوست”.
من جانبه علّقَ الخبير التعليمي، كمال مغيث، على ارتفاع معدلات التحويل من المدارس الحكومية إلى الأزهرية، قائلًا: “للتعليم أهداف وطنية مثل المواطنة والتماسُك الوطني والتفاعل مع ثقافة العصر والمنهجية العلمية في التعامل مع القضايا والمشكلات وغيرها”.
وأضاف في تصريحاته لـ”القدس العربي“: “اليوم، ومع التجارب الفاشلة في التعليم الحكومي، التي وصلت إلى حدود عبثية لا يعرف لها الناس أولًا من آخر، يقوم عشرات الآلاف من طلاب التعليم الحكومي بالتحويل إلى المعاهد الأزهرية، بحثًا عن الأمان التعليمي بأي ثمن”.
كما تساءل أيضًا: “هل يفهم نظامنا السياسي وحكومتنا الرشيدة ما يحدث؟ وهل لهم يد في هذا؟ وهل لديهم تصور عن مستقبل أهدافنا الوطنية في التعليم؟ أم أنهم يكتفون بدور المتفرِّج؟ أم أنهم “واخدينها من قاصرها ويقضونها كالأطرش في الزفة”؟”.
التعليم الأزهري.. خطة تطوير مستمرة
تبذلُ مؤسسة الأزهر وشيخها أحمد الطيب جهودًا كبيرة لتطوير المناهج واستراتيجيات التعليم، لا سيما خلال السنوات الأخيرة التي تصاعدَ فيها التوتر بين المشيخة ومؤسسات الدولة، على رأسها رئيس الجمهورية الذي طالما عبّر عن امتعاضة من الآلية التي تدارُ بها تلك المؤسسة الدينية الراسخة.
أعلن العام الماضي وكيل الأزهر الشريف، الشيخ صالح عباس، أن شيخ الأزهر قد أمرَ بتشكيل لجان متخصِّصة لتطوير التعليم الأزهري منذ عدة سنوات لتشمل كل مراحله، مستعرضًا بعض الخطوات التصحيحية في هذا المسار، منها إضافة مادة الثقافة الإسلامية لمقرّرَي المرحلتَين الإعدادية والثانوية، تتناول قضايا ترسِّخ قِيَم التعايش السلمي والمواطنة، وإظهار سماحة الإسلام، وكيفية التعامل مع أهل الأديان الأخرى، وهي مسائل كانت تؤخذ في السابق على المناهج الأزهرية.
تشتمل خطة مؤسسة الأزهر على تطوير المعلِّم الأزهري، بما يتناسب مع دوره التربوي والتقويمي والفكري، كونه الحلقة الأهم في تطوير العملية التعليمية.
كذلك وضعت المؤسسة خطة استراتيجية تستهدفُ “تحصين فكر الطلاب من أي انحراف وضلال، يسيء لشريعة الإسلام وسنّة نبيه، وإحاطتهم بمخاطر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لهذه الأفكار الشاذة التي سرعان ما تنتشر وتبثّ سمومها عن طريق الجماعات المنحرفة، وتؤثر في فكر شباب الأمة”، كما جاء على لسان وكيل الأزهر.
شملت الخطة تطويرَ المعلِّم الأزهري بما يتناسب مع دوره التربوي والتقويمي والفكري، كونه الحلقة الأهم في تطوير العملية التعليمية، والعامل الأبرز في تقوية العقول الناشئة، وتحصينها بالفكر المعتدل، وذلك عبر الندوات والدورات التدريبية المكثَّفة، هذا بخلاف تأهيلهم للتعامل مع التقنيات الإلكترونية الحديثة والمنصّات التعليمية الذكية.
التعليم العام والأزهري.. حرب باردة
خرج عام 2018 وزير التربية والتعليم، طارق شوقي، بتصريح مثير للجدل، لكنه كشف عن النوايا الباطنة التي يكنّها للتعليم الديني في البلاد، حين قال خلال اجتماعه بأعضاء لجنة التعليم في مجلس النواب، إن “هناك مشاورات لدمج التعليم الأزهري مع نظيره العام، بحيث تكون المواد الدينية اختيارية.. أعتقد أن الوصول إلى هذه الخطوة سيكون أمرًا جيدًا”.
أوحى الوزير بتصريحاته بشكل أو بآخر عن وجود نية لدى الحكومة لتغيير واقع التعليم الأزهري، بدعوى غيابه عن مواكبة العصر، وإصرار القائمين عليه على التمسُّك بالمناهج التقليدية التي تجاوزها الزمن، على حدّ قوله، وهو ما أثار حفيظة الأزهر، الأمر الذي دفعه للردّ على لسان وكيله السابق، عباس شومان.
أكّد شومان في بيان رسمي له، تعليقًا على تصريحات وزير التربية والتعليم، أن “التعليم الأزهري بخصوصيته يقف إلى جانب التعليم العام ليشكّلا تنوُّعًا لا مثيل له في بلد آخر من العالم، ولا يمكن المساس بأحدهما إلا في مجال التطوير والتحديث”، ما دفع الوزير للتراجع عن تصريحاته لاحقًا.
قد يكون عدد المتحولين للتعليم الأزهري خلال العام الجاري ليس بالرقم الكبير، لكنه خطوة أولى نحو سحب البساط من تحت أقدام التعليم العام، إن لم يُعِد النظر في أسباب العزوف الجماهيري عنه.
لا شك أن الإقبال المتزايد على التعليم الأزهري سيقود إلى طفرة كبيرة في البنية التحتية للمنشآت التعليمية التابعة للأزهر، وهو ما بدأ يضعه القائمون على المؤسسة الأزهرية في الحسبان منذ عامَين تقريبًا.
فبحسب بيان صادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، فقد زاد عدد المدارس والمعاهد الأزهرية لـ 65.9 ألف مدرسة ومعهد أزهرى للعام 2018-2019، مقابل 63.9 ألف خلال عام 2017-2018، بنسبة زيادة 3.1%.
فيما زاد عدد التلاميذ في مراحل ما قبل الجامعة ليصل إلى 24.2 مليون، مقابل 23.2 مليون تلميذ عام 2017-2018، بزيادة 4.3% من إجمالي التلاميذ، فيما تجاوز عدد المعلمين 1.2 مليون مدرِّس، بزيادة سنوية قدرها 1%، أما مرحلة رياض الأطفال (ما قبل الابتدائي) فقد بلغ عدد التلاميذ فيها 1.5 مليون تلميذ، أما طاقة المدرِّسين فبلغت 61.3 ألف مدرِّس.
أخيرًا.. من المتوقع أن الإقبال على التعليم الأزهري لن يمرَّ مرور الكرام على المتربّصين بكل ما هو ديني، وعليه قد تشهد الساحة خلال الفترة القادمة حملات تشويه ممنهَجة ضد الأزهر ومناهجه، مقابل الضغط قدر الإمكان لتحسين صورة التعليم العام، عبر تحفيزات ومغريات للشارع المصري للتمسُّك به على حساب التعليم الديني، ما ينذر باستمرار الحرب الباردة بينهما لمواجهات أخرى قادمة.