ترجمة حفصة جودة
عندما كانت دينا – تبلغ الآن 22 عامًا – في عامها الأخير من المدرسة الثانوية في بالتيمور، ولاية ماريلاند، كانت تعاني وقتًا عصيبًا بسبب طلبات الالتحاق بالجامعة مثل العديد من المرهقين.
درست دينا دورة لعلم النفس في العام السابق وأدركت أنها ليست بخير، وفي إحدى نوبات اكتئابها أفضت إلى شقيقتها التي نصحتها بطلب المساعدة، في إحدى الليالي على العشاء تشجعت لإخبار والديها بأنها ترغب في الذهاب إلى الطبيب النفسي، لكن والديها – ترجع أصولهمًا إلى باكستان – أصيبا بالغضب.
تقول دينا: “أتذكر أن والدتي أخبرتني بأن الحصول على مساعدة ليس شيئًا تفعله النساء في عائلتنا، وأخبرتني: هل تعتقدين أنني غير مكتئبة؟ هل تعتقدين أن جدتك غير مكتئبة؟ هناك الكثير من العار، هناك هذا الإسكات من كل الأجيال لك وللناس من حولك، ووصمة العار التي ستلاحقك في حال طلبت المساعدة من أجل مرض نفسي”.
عندما بدأت دينا دراستها بالجامعة وانتقلت للحرم الجامعي بدأت في الذهاب إلى الطبيب النفسي سرًا وتمكنت من الحصول على مساعدة وما زالت تواصل ذلك.
تحمُّل عبء الصدمة
يقول خبراء علم النفس إن هناك وصمة عار تصيب بعض الذين يطلبون المساعدة في كل المجتمعات، لكن الأمر أكثر حدة بين المسلمين، لأن المشكلات النفسية بالنسبة للكثير منهم ترجع إلى نقص الإيمان.
يقول جيل الآباء بشأن أبنائهم: “لقد وفرنا لهم كل شيء فلماذا يُصابون بتلك المشكلات؟”
وفقًا لدراسة نُشرت في يوليو/تموز بواسطة مجلة الجمعية الطبية الأمريكية “Jama“، فإن نحو 8% من المسلمين يحاولون الانتحار على مدار حياتهم، مقارنة بنسبة 6% بين الكاثوليك و5% بين البروتستانت و3.6% بين اليهود، ممن شاركوا في الدراسة.
تقول فرحة عباسي التي تعمل أستاذًا مساعدًا بقسم الطب النفسي بجامعة ولاية ميتشجان والمدير المؤسس للمؤتمر الإسلامي السنوي للصحة النفسية، إنه على كبار السن في المجتمع الإسلامي أن يقبلوا بوجود المشكلات النفسية وأن يعترفوا بالانتحار ويطلبوا المساعدة بالإضافة إلى تشجيع أطفالهم على ذلك.
تقول عباسي إن أكثر الأسئلة شيوعًا بين مرضاها: “كيف ننقل ذلك لوالدينا؟” في الوقت نفسه يعتقد الآباء أن الجيل الأصغر كسول مقارنة بهم، فهم يقولون للطبيبة إنهم عملوا في وظيفتين وتمكنوا من النجاة في ثقافة جديدة لتوفير معيشة جيدة لأبنائهم، ويضيفون: “لقد وفرنا لهم كل شيء فلماذا يُصابون بتلك المشكلات؟”.
تجيب عباسي: “إنني أخبرهم أن هذا الجيل شهد 3 حروب وفوضى سياسية وانهيار اقتصادي، ورغم تضاعف نسبة التعليم، فإن سوق العمل تقلص أكثر، عندما جئت لهذه البلاد كان التخرج في المدرسة الثانوية أمرًا عظيمًا، لكنني رأيت بنفسي كيف أصبح الحصول على درجة البكالوريوس أمرًا مهمًا، والآن إننا نخبر هذا الجيل أنه لا مستقبل لهم حتى يصبحوا محترفين، إنهم يواجهون ضغطًا كبيرًا”.
وفقًا لمعاهد الصحة الوطنية فإن معدلات الاكتئاب واضطرابات الشخصية الحدية أصبحت أعلى بين الجيل الثاني من المهاجرين أكثر من الجيل الأول “الآباء”.
بدلًا من أن نقول لأحدهم صلّ أكثر، يمكننا أن نقول إن الصلاة والعلاقة الجيدة مع الخالق ستعمل كحاجز وقائي، وستمنحك مرونة أكثر لمواجهة التحديات في العالم
تقول عباسي: “لماذا نقلل من قدر هذه الأرقام؟ لأن الجيل الأول لم يتعامل مع صدماته، لقد مرروا هذه الصدمة للجيل الثاني، عندما يقول لي الوالدين “لكننا كنا أقوياء” أقول لهم: لا لم تكونوا كذلك، إنكم لم تتعاملوا مع الأمر ومررتوه لأطفالكم، والآن إنهم يتحملون عبء صدماتكم وصراعهم الخاص”.
الصحة النفسية وسط الجائحة
في مركز الخليل للصحة النفسية والروحية الذي يملك فروعًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ازداد عدد الشباب الطالبين للمساعدة بشكل كبير في السنوات الأخيرة، في 2014 كان المركز يعقد بين 50 إلى 60 جلسةً شهريًا، هذا العام تتراوح الأرقام بين 1500 إلى 1600 جلسة في الشهر.
يقول فهد خان طبيب نفسي سريري مرخص ونائب مدير مركز الخليل إن التعليم هو الحل الأساسي، بالإضافة إلى أماكن تلّقيه مثل المساجد المحلية والمراكز المجتمعية، يحتاج الأئمة إلى التدريب للتعرف على الأعراض والتحدث عن مشكلات الصحة النفسية، وإلا فإن الخلط بين المرض النفسي وقلة الإيمان – الذي أظهرته بعض الدراسات – سيظل مستمرًا.
يقول خان: “عندما يقول أحدهم يجب أن تصلي أكثر فهذا يساعدك في علاج الاكتئاب، فهو ليس دائمًا على صواب وفي بعض الحالات يكون مخطئًا تمامًا، لكن الحقيقة أن الارتباط الأعمق بالدين يعمل كحاجز وقائي ضد المشكلات النفسية الشديدة أو الانتحار وهو ما كشفته الدراسات”.
“إننا بحاجة لتغيير السردية، فبدلًا من أن نقول لأحدهم صلّ أكثر، يمكننا أن نقول إن الصلاة والعلاقة الجيدة مع الخالق ستعمل كحاجز وقائي، وستمنحك مرونة أكثر لمواجهة التحديات في العالم”.
تقول أنسية دياب – مستشارة نفسية تعتمد على الإيمان في نيويورك – إن المجتمعات المسلمة والمساجد بحاجة للعمل بشكل أفضل مع المنظمات بشأن كيفية التعامل مع الانتحار والأمراض النفسية.
وتضيف: “دائمًا ما أقول إن الوقاية أفضل حل، لكن للأسف مجتمعاتنا رجعية للغاية عندما يحدث ذلك، ويرغبون في التدخل السريع بعد وقوع المشكلة، لكنهم سرعان ما ينسون ذلك حتى تقع مأساة أخرى”.
بعض الثقافات ترى أن المرض النفسي “سحر أسود” أو سيطرة من الجن على البشر، وتفسير الأمر على هذا النحو يمنع الكثير من الشباب من الحصول على المساعدة التي يحتاجونها
“في معظم الأحيان يمكن الوقاية من الانتحار، فمعظم الناس يُظهرون إشارات تحذيرية أو تنبيه بالخطر بأنهم يفكرون في الانتحار، ومثلما نتعلم الإنعاش القلبي الرئوي والإسعافات الأولية، فمن مسؤوليتنا أن نعلم أنفسنا بشأن الصحة النفسية ومساعدة من يحتاجون ذلك”.
تقول دياب إن استضافة ورش عمل في المجتمعات والمدارس والمساجد يساعد بشكل كبير ويُحدث فارقًا، حتى في عيادتها الخاصة ارتفعت بشكل كبير أعداد الشباب المسلم الذين يحاولون الحصول على مساعدة بشأن القلق والاكتئاب ونوبات الهلع، فحتى الدعم الذي كان المسلمون يجدونه عادة في المساجد والمجتمعات تراجع بشكل كبير بسبب الجائحة.
بانتظار تحطيم الوصمة
وفقًا للشيخ عباد والي المدير التنفيذي وباحث مقيم في مركز “هيل سايد” الإسلامي، فإن بعض الثقافات ترى أن المرض النفسي “سحر أسود” أو سيطرة من الجن على البشر، وتفسير الأمر على هذا النحو يمنع الكثير من الشباب من الحصول على المساعدة التي يحتاجونها.
وأضاف أنه بعد إخبار أحدهم بأن أعراض مرضه النفسي ليست نتيجة قوة خارقة للطبيعة، ودفعهم للحصول على مساعدة محترفة، يسأل الشخص: “هل هناك تميمة يمكنني ارتدائها لأحمي نفسي؟”.
استخدم والي مثالًا من القرآن في سورة مريم عندما قالت في أثناء المخاض “يا ليتني مت قبل هذا”، فيقول: “إنها السيدة المريم صاحبة أعظم معجزة في تاريخ البشر، لكنها في موقف تعاني فيه من اكتئاب شديد، إنها واحدة من أتقى النساء على وشك أن تلد واحدًا من أتقى الرجال في تاريخ البشرية، ومع ذلك تتعامل مع الاكتئاب، لا علاقة للإيمان بذلك”.
بالنسبة للناس مثل والديّ دينا، فأي شيء يقوله الإمام المحلي صحيح، تتذكر دينا أن هناك العديد من القضايا التي لم تستطع أن تقنع والديها بها، لكن عندما يذهبون إلى المسجد ويتحدث الإمام بشأنها، يقول والديها: “أتعلمين، إن الإمام على حق”.
تقول دينا إنها بانتظار اليوم الذي تختفي فيه الوصمة، ويقبل والديها بأن هناك علاجًا للمرض النفسي ويستطيع أصدقاؤها المسلمون الحصول على العلاج بحرية، بدلًا من الاعتماد على ما أسمته “العلاج بالتسرب”، فعندما يُصاب أحد أصدقائها بنوبة قلق، فإنها تخبره بكل ما قالته طبيبتها النفسية قدر الإمكان، لكن حتى يحين ذلك الوقت ستستمر دينا في الذهاب إلى الطبيب النفسي سرًا.
تقول دينا: “المرض النفسي ليس عارًا، وهو ما أحاول غرسه في أخي الأصغر، هذه هي الطريقة التي يمكن أن ننهي بها صمت الأجيال، فخطوة بخطوة يمكنك أن تعلم الناس أنه ليس هناك ما يخجلون منه”.
المصدر: ميدل إيست آي