أثارت عملية موافقة الحكومة العراقية على مشروع قانون الخدمة الإلزامية وإحالته إلى مجلس النواب للتصويت عليه وإنفاذه، الكثير من ردود الفعل المتباينة بشأن مسببات إعادة العمل بهذا القانون، بعد أن تم إيقاف العمل به إبان الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، واعتمدت الحكومات العراقية فيما بعد على نظام التطوع في صفوف القوات الأمنية، بدلًا من الخدمة الإلزامية كسياق عمل في المؤسسة العسكرية العراقية.
ورغم أهمية هذا القانون ودوره في إعادة ضبط القوات المسلحة العراقية، التي تعاني من تحديات كبيرة على مستوى المأسسة والضبط العسكري، هناك الكثير من العقبات التي تقف في طريق هذا القانون قبل إقراره.
إشكالات عسكرية كبيرة
بعيدًا عن الحسابات السياسية المعقدة التي تواجه هذا القانون، يحتاج العراق اليوم إلى إستراتيجية جديدة لبناء قواته العسكرية، بشكل يجعلها أكثر قوةً وكفاءةً، بما يكفي لمواجهة التحديات الأمنية النابعة من تعرضات تنظيم داعش ومن عدم حصر السلاح بيد الدولة، ولتأمين حدوده مع دول الجوار الإقليمي.
ووفق التقديرات العسكرية الأمريكية تحتاج القوات العسكرية العراقية إلى عمليات إعادة تدريب وتأهيل لمدة تتراوح بين 3 إلى 5 سنوات على الأقل، لتكون قادرةً على أداء مهامها الأمنية، فضلًا عن أن العراق يحتاج إلى إعادة بناء منظومته التسليحية وإعادة تشغيل وصيانة العديد من القواعد العسكرية.
وإلى جانب ما تقدم أيضًا، فإن القوات الجوية العراقية لا تزال صغيرةً ومحدودة جدًا، كما أن العراق لا يمتلك أسلحة دفاع جوي أو منظومات صواريخ متطورة أو نظام إنذار ومراقبة جوي أو قدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية.
كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض توجد اليوم ثلاث قوات عسكرية رئيسة هي: الجيش العراقي والحشد الشعبي والبيشمركة الكردية، وحتى اللحظة لم تُظهر هذه القوات التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي.
تعاني المؤسسة العسكرية العراقية من عدم وجود عقيدة عسكرية، من الممكن أن تشكل ضابطًا قيميًا وعقديًا للجندي العراقي
ومن ثم فإن هذه الإشكالات تطرح تساؤلات مهمة عن أهمية ذهاب الحكومة العراقية باتجاه إقرار هذا القانون في ضوء التحديات الكبيرة التي تواجهها المؤسسة العسكرية العراقية، خصوصًا أن الجيش العراقي اليوم يمتلك أعدادًا بشرية كبيرة مقارنة ببعض جيوش دول الجوار.
في سلسلة تقارير عن ملف سلاح العراق، أشار موقع “نون بوست” إلى الرقم التقريبي لأعداد القوات الأمنية في العراق بمختلف صنوفها، فبحسب ضابط رفيع المستوى عمل في الجيش العراقي الحاليّ حتى وقت قريب، فإن تعداد الجيش عام 2020 بلغ 310 آلاف منتسب مدني وعسكري، وأن الجيش يضم 14 فرقةً عسكريةً منتشرةً في مختلف المحافظات باستثناء إقليم كردستان العراق، كما أن أعداد قوات النخبة العراقية أو ما يعرف بـ”جهاز مكافحة الإرهاب” تقارب 16 ألف عنصر أمني بين ضابط وجندي.
كما يخصص العراق مليارات الدولارات كل عام للإنفاق على التسليح والقوات المسلحة، وبلغت موازنة القوات المسلحة، ومن ضمنها الجيش وقوات وزارة الداخلية من موازنة عام 2021 نحو 18.7 مليار دولار، وهو ما قد يضفي أعباءً جديدةً على موازنة الدولة في ضوء الأزمة الإقتصادية التي يواجهها العراق اليوم.
ويضاف إلى ذلك، أن المؤسسة العسكرية العراقية تعاني من عدم وجود عقيدة عسكرية، من الممكن أن تشكل ضابطًا قيميًا وعقديًا للجندي العراقي، كما هو متعارف عليه في كل الجيوش العالمية، فمن شأن العقيدة العسكرية أن تساعد الجندي العراقي على معرفة من الصديق والعدو، ومن أجل ماذا يقاتل، وبالتالي من شأن دمج أعداد بشرية جديدة في صفوف الجيش أن تؤدي إلى نتيجة عكسية من شأنها أن تؤدي إلى ترهل كبير في القوات المسلحة العراقية.
فالنظام الحديث الذي تسير عليه الجيوش العالمية اليوم، هو تقليل الأعداد البشرية ورفع مستوى الكفاءة القتالية وزيادة الاعتماد على الجيوش والقدرات الذكية، وهي بذلك تحقق أعلى كفاءةً وأقل خسائر، في انقلاب واضح للمعادلة العسكرية التي كانت تسير عليها الجيوش التقليدية في السابق.
عقبات في طريق إقرار هذا القانون
من المتوقع أن يكون القانون الجديد مشابهًا لمسودة القانون التي أعدتها الحكومة العراقية عام 2012، التي عاد تداولها عام 2016، لكن مجلس النواب لم يمررها، فيقول منتقدو الفكرة إنها تعود دائمًا إلى العلن مع نهاية عمر كل حكومة، فهذا الملف يثار قبل كل انتخابات بشكل أو بآخر، وكان وجوده في انتخابات 2018 واضحا جدًا، إذ إن المؤسسة الأمنية بالحقيقة غير قادرة على استيعاب الأعداد التي ممكن أن تجند إلزاميًا، فضلًا عن قصر عمر البرلمان واستحالة إمكانية سنه مشروع القانون واعتماده.
هناك توجه حقيقي من أغلب الكتل السياسية لإفشال أي محاولة لتقوية وترصين المؤسسة العسكرية العراقية
يُنظر إلى قرار التجنيد على أنه أداة مهمة في بناء الدولة، لكن الأمر الذي لا يقل أهمية عن ذلك هو وضعه موضع التنفيذ، لأنه يخاطر بالتعارض مع مصالح الفصائل المسلحة التي قد تقف في طريقهُ، فيمكن للقانون الجديد أن يفتح الطريق أمام جميع الشباب للانضمام إلى الجيش العراقي والابتعاد عن الفصائل المسلحة التي يتم إنشاؤها على أساس طائفي، وترتكز على عقيدة عسكرية تختلف تمام الاختلاف عن الغرض من وجود جيش تابع للدولة العراقية، وبالتالي كما نجحت الطبقة السياسية في إسقاط العديد من القوانين التي لا تخدم مصالح الأحزاب السياسية أو الفصائل المسلحة، فإن هذا القانون ليس استثناءً من ذات النتيجة التي تعرضت لها القوانين الأخرى التي تم إفشال تمريرها.
مما لا شك فيه أن هناك مشكلة سياسية عميقة في العراق، وهذه المشكلة لعبت دورًا كبيرًا في تسييس الكثير من القوانين المهمة في دعم جهود الأمن والاستقرار في العراق، ومن أبرز هذه القوانين “قانون الخدمة الإلزامية في العراق”، فبعيدًا عن العقبات المالية والاقتصادية التي تقف في طريقه، فإن العقبة الكبرى سياسية بامتياز، إذ إن هناك توجهًا حقيقيًا من أغلب الكتل السياسية لإفشال أي محاولة لتقوية وترصين المؤسسة العسكرية العراقية والحفاظ على وضعها الهش في معادلة الحكم في العراق، فعادةً ما تربط هذه الكتل بين قاعدة الجيش القوي والانقلاب العسكري، إذ تعتبر هذه الكتل أن وجود جيش قوي إلى جانب نقمة شعبية متصاعدة، من الممكن أن يؤسس لواقع سياسي جديد في العراق، وهو ما لا ترغب به.
بل والأكثر من ذلك فهي تدعم جهود تقوية الجيوش الموازية في مقابل الجيش الرسمي، وهو ما يجعل أي محاولة جادة لتقوية الجيش العراقي تواجه بالرفض التام، رغم أن مشروع قانون الخدمة الإلزامية تم طرحه في أكثر من مناسبة سابقة، وهو ما يجعل مشروع القانون الجديد يواجه مصير الفشل بنسبة كبيرة جدًا.