يصفها الخبراء بأنها قطعة من أوروبا، إن لم تتفوق عليها أحيانًا في بعض النقاط، مساحتها الصغيرة لم تحل بينها وبين التقدم والنهوض، استطاعت في وقت قصير أن تقدم أوراق اعتمادها كدولة راقية قادرة على اللعب مع الكبار في مضمار النمو والتطور.
موريشيوس.. تلك الجزر الواقعة بوسط المحيط الهندي (تبعد عن مدغشقر بنحو 860 كيلومترًا) التي لم تتجاوز مساحتها 2500 كيلومتر مربع، (محتلة المركز الـ169 من حيث الحجم بالنسبة لدول العالم، فيما لم يتجاوز سكانها الـ1.5 مليون في أقصى التقديرات)، استطاعت أن تقدم نموذجًا ديمقراطيًا من الطراز الأول جعلها على قمة الهرم الديمقراطي إفريقيًا.
ورغم أن تاريخها السياسي والاقتصادي والثقافي لا يساوي شيئًا بجوار الكيانات القارية العملاقة، فإنها خلال العقود الثلاث الماضية تحديدًا، استطاعت أن تغرد منفردة كأكثر الدول الديمقراطية في القارة وأسرعها في معدلات النمو وأثراها ثقافيًا ومجتمعيًا.
وفي الوقت الذي تعلق فيه كبرى عواصم إفريقيا تأخرها الاقتصادي وتراجع معدلات نموها على شماعة “العنصر البشري” كان لموريشيوس رأي آخر، إذ كان الإنسان لديها هو المورد الأكثر استثمارًا والسلعة الأغلى حضورًا، لذا كان المواطن هو قاطرة النمو التي لا تتوقف.. فماذا نعرف عن هذه الدولة الصغيرة حجمًا الكبيرة مكانةً؟
صنيعة الجغرافيا
إن جاز القول إن هناك دولة ولدت من رحم الجغرافيا فهذا هو الوصف الجيولوجي الأدق لموريشيوس، تلك البقعة التي لم تكن على خريطة العالم قبل 8 ملايين عام، لكنها نشأت بتراكم الحمم البركانية المنتشرة في المحيط الهندي التي مع مر الزمان أسفرت في النهاية عن مجموعة من الجزر تكونت منها ما تعرف اليوم بـ”جمهورية موريشيوس”.
العرب هم أول من اكتشفوا الجزيرة وأطلقوا عليها دنيا العروبة ثم أعاد البرتغاليون اكتشافها مرة أخرى في القرن السادس عشر الميلادي
تتميز تلك الجزر بانخفاض منسوبها، فأعلى قمة بها، وهي الجبل الأسود، لا يتجاوز ارتفاعها 827 مترًا عن سطح البحر، فيما تسير الدولة بمستوى ارتفاع متدرج، بدءًا بانخفاض في الشمال يستتبعه ارتفاع تدريجي في الوسط والجنوب.
ساعد هذا التموضع الجغرافي الجزري في تمتع الدولة التي عاصمتها بورث لويس وهي الميناء الأول بها والأكثر حيوية، بمناخ مداري معتدل، ما جعلها قبلة لسائحي العالم خلال السنوات الأخيرة تحديدًا بعد انتشار مناطق الغابات بشكل كثيف جذب أنظار عشاق الطبيعة في الداخل والخارج.
لا تمتلك موريشيوش هويةً ثقافيةً محددةً، إذ إنها مزيج من ثقافات متعددة، فتظل تحت سمائها عشرات العرقيات والجنسيات والديانات، فيها صينيون ومصريون ولبنانيُّون وإنجليز وأفارقة، يتحدثون العديد من اللغات أبرزها الإنجليزية والفرنسية، أما اللغة القومية فهي “الكريول” هذا بخلاف أن 50% من سكان الدولة يتبعون الهندوسية و30% مسيحيون و16% مسلمون، والبقية من مذاهب أخرى.
تاريخيًا.. العرب هم أول من اكتشفوا الجزيرة وأطلقوا عليها وقتها “دنيا العروبة”، ثم أعاد البرتغاليون اكتشافها مرة أخرى في القرن السادس عشر الميلادي، لكنهم لم يمكثوا فيها طويلًا في ظل التحديات التي كانت تواجههم هناك بسبب البيئة الجغرافية المعقدة.
تركها البرتغاليون عام 1710 لتبقى الجزيرة دون حماية أجنبية لفترة خمس سنوات كاملة، قبل أن تبسط فرنسا سلطتها عليها عام 1715، لتطلق عليها وقتها “جزيرة فرنسا”، فقد استغلوها كمركز لمهاجمة المستعمرات البريطانية في الهند، لكنها سقطت أخيرًا في أيدي الإنجليز.
خاض الشعب الموريشيوسي معارك سياسية واجتماعية وعسكرية ضارية ضد المستعمر البريطاني، لا سيما بعد تجريم بريطانيا الرق في مستعمراتها كافة، الأمر الذي أعطى قوة دافعة لأحرار الجزيرة بالانتفاضة للحصول على الاستقلال، وبالفعل نجحوا في انتزاع حريتهم السياسية عام 1968.
معجزة التمايز والتنوع
يذهب علماء الاجتماع السياسي أن غياب التجانس الثقافي وتعدد الجنسيات والعرقيات داخل البلد الواحد قد يكون معوقًا كبيرًا أمام مسيرة النهوض والنمو، هذا بخلاف الأزمات المحتمل استثارتها بين الحين والآخر جراء هذا التعدد الذي يصفه البعض بـ”الفوضى”، لكن الوضع في موريشيوس يتعارض تمامًا مع معتقدات الساسة وخبراء الاجتماع.
الباحث في جامعة هارفارد، جيفري فرانكل، يصف الوضع في موريشيوس بـ”المعجزة”، لافتًا إلى أن غالبية العرقيات والجنسيات والديانات داخل البلاد فضلوا مصلحة الدولة على مصالحهم الخاصة، وهو ما أدى في النهاية إلى تحويل محنة التعدد إلى منحة التوحد.
وذهب فرانكل إلى أن التعددية الدينية التي كانت في دول أخرى معول هدم لها تحولت في هذا البلد الإفريقي إلى مقوم بناء من الطراز الأول، ففي وقت الأزمات تناسى الجميع مشاكله الخاصة ليتحد الجميع على قلب رجل واحد في مواجهة التحديات القومية، وهو ما كان له أبلغ الأثر في تعافي البلاد من مأزقها عقب الاستقلال من الاحتلال الفرنسي.
قطع الاقتصاد الموريشيوسي قفزات كبيرة من النمو والتطور، وأصبحت الجزيرة مركزًا لوجستيًا للربط بين جنوب وشرق إفريقيا وبين الهند والصين
التقارير الحقوقية الدولية أنصفت موريشيوس فيما يتعلق بهذا التمايز الثقافي، فقد أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى أن هذا البلد صغير الحجم الذي يدين شعبه بعشرات المعتقدات، من أكثر دول العالم التي تتمتع بحرية التدين، وهو ما أثار اهتمام العديد من الباحثين الذي وضعوا الحالة الموريشيوشية تحت مجهر الاهتمام والدراسة.
الاقتصاد.. طفرة غير مسبوقة
مر اقتصاد موريشيوس بخمس مراحل أساسية، الأولى كانت خلال فترة الاستعمار، الفرنسي كان أو البريطاني، حينها كانت الدولة تعتمد في المقام الأول على إنتاج وتصدير السكر، ومع السنوات الأولى من الاستقلال بدأت تتخذ الدولة بعض الإجراءات التحفيزية التي شجعت العديد من الشركات التي تعتمد على التصدير من باب التنوع الاقتصادي.
ثم المرحلة الثانية التي بدأت أوائل الثمانينيات، حين أطلقت الحكومة برنامجًا تعديليًا يستهدف تنمية التطوير الاقتصادي عبر التصدير والتنشيط السياحي، استفادة من المؤهلات الجغرافية والبيئية للبلاد، ووضع موريشيوس في أولى خطواتها كمنطقة جذب للاستثمارات الأجنبية.
ثم انطلقت المرحلة الثانية مع منتصف التسعينيات، حيث طرق باب الصناعة، فتحولت العاصمة إلى منطقة تجهيزات للصادرات معتمدة بشكل كبير على الصناعات النسيجية، هذا بخلاف اقتحام مجالات أخرى كالصناعات الهندسية والمعدنية وقطاعات الموانئ والخطوط البحرية.
وخلال السنوات الخمسة الأولى من الألفية الجديدة (2000- 2005) دخلت البلاد عصر الرقمنة، فتم تأسيس مدينة إيبين الرقمية الجاذبة وبقوة للاستثمارات الأجنبية، هذا بجانب الانخراط في قطاعات جديدة للنمو، وبدأت الشركات الأجنبية في دخول البلاد بعدما بات الوصول إلى موريشيوس أمرًا سهلًا عبر الطيران الذي كان يواجه عقبات كبيرة قبل ذلك.
وخلال العقدين الأخيرين قطع الاقتصاد الموريشيوسي قفزات كبيرة من النمو والتطور، وأصبحت الجزيرة مركزًا لوجستيًا للربط بين جنوب وشرق إفريقيا وبين الهند والصين، فبلغ معدل النمو السنوي خلال الخمسة أعوام الماضية على سبيل المثال 5%، بنسبة نمو ربما تكون الكبرى بين دول القارة في ظل جائحة كورونا الأخيرة.
وانعكس هذا الانتعاش الاقتصادي على المستوى المعيشي للمواطنين، إذ تراجعت معدلات الفقر بصورة هائلة، ليقبع الغالبية العظمى من الشعب بين طبقتي الدخل المتوسطة والمرتفعة، فيما تضاعف متوسط دخل الفرد ليصل من 500 دولار عام 1970 إلى 9770 دولارًا عام 2016 وفق البيانات الرسمية.
في هذه المرحلة اتخذت الحكومة بعض الإجراءات الخاصة بتحرير الاقتصاد من أجل جذب المستثمرين من مختلف دول العالم، هذا بجانب حزمة من المحفزت كإلغاء الضرائب وتخفيض الرسوم على الصادرات والواردات بجانب المرونة الكبيرة التي أبدتها مع المستثمرين.
حامد المسلمي، الباحث بمعهد البحوث الإفريقية، بجامعة القاهرة، يرى أن اقتصاد الجزيرة واجه العديد من التحديات عقب الاستقلال، لكنه نجح في تخطيها بصورة مثيرة لإعجاب خبراء الاقتصاد العالميين، مشيرًا إلى أن توقعات التنمية السلمية في هذا البلد كانت ضعيفة، لكنه خالف كل التوقعات، محققًا معدلات نمو تخطت 5% منذ عام 1970 حتى عام 2009، فيما تضاعف متوسط دخل الفرد لأكثر من عشرة أضعاف في نفس ذات الفترة، ما جعل الاقتصاديين يطلقون عليه “النمر الإفريقي”.
الإنسان.. الاستثمار الأكثر أهمية
أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كولومبيا، جوزيف ستيجليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، يرى أن الاهتمام الذي أولته موريشيوس من أجل بناء الإنسان وتنميته وتعزيز قدراته ومؤهلاته يفوق ما تقوم به أوروبا والولايات المتحدة، حتى باتت تجربة يشار لها بالبنان عالميًا.
سجل الناتج المحلي الإجمالي في موريشيوس نموًا أسرع من 5% سنويًا طيلة 30 عامًا تقريبًا
ولفت خلال مقال له إلى أن المنح والرعاية التي توفرها الدولة لمواطنيها من تعليم مجاني إلى نهاية المرحلة الجامعية والنقل المجاني لتلاميذ المدارس والرعاية الصحية بما فيها كبريات الجراحات والعمليات، توحي لك أن هذه الدولة إما فاحشة الثراء وإما أنها تسلك طريقًا سريعًا نحو التهاوي الاقتصادي.
وأشار إلى أن دول أوروبا بكل ما لديها من إمكانات اقتصادية وقدرات مالية لا يمكنها توفير كل تلك الرعاية لمواطنيها بالمجان، موضحًا أن “موريشيوس، وهي دولة جزيرة صغيرة تقع قبالة الساحل الشرقي لقارة إفريقيا، ليست غنية بشكل خاص ولا تسير في اتجاه خراب الموازنة العامة، ورغم ذلك فقد أنفقت العقود الماضية بنجاح في بناء اقتصاد متنوع، ونظام سياسي ديمقراطي، وشبكة أمان اجتماعي قوية”.
الخبير الاقتصادي العالمي استعرض في شهادته خلال زيارة له للجزيرة بعض الملامح الواضحة للاستثمار الرسمي البشري الهائل في هذه الجزيرة، منها مسألة ملكية المسكن، إذ إن 78 من سكان موريشيوس يمتلكون مساكن لهم، دون أن يحدث ذلك فقاعة في سوق العقارات، “في حين يزعم المحافظون الأمريكيون أن محاولة الحكومة لتمديد ملكية المساكن إلى 70% من سكان الولايات المتحدة كانت مسؤولة عن الانهيار المالي”.
هذا بخلاف الأوضاع المعيشية المرتفعة التي تتجاوز بعض بلدان العالم المتقدم، حيث سجل الناتج المحلي الإجمالي في موريشيوس نموًا أسرع من 5% سنويًا طيلة 30 عامًا تقريبًا، مناشدًا بعض دول أوروبا والولايات المتحدة أن تتعلم من تلك التجربة في النمو والازدهار والاستثمار البشري غير المسبوق في أي مكان آخر في العالم.
وقد ساهمت كل تلك العوامل مجتمعة في تدشين نظام ديمقراطي قوي، راسخ ومستقر، يراعي التعددية ويؤمن بالحوار، ويعزز حقوق الإنسان، وهو ما يمكن قراءته من خلال التجارب السياسية التي مرت بها البلاد منذ الاستقلال، فتحولت إلى تجربة فريدة من نوعها قاريًا في مؤشرات الديمقراطية والعدالة والنزاهة.