أرجات حركة طالبان الأفغانية إعلان تشكيل الحكومة الجديدة في البلاد، الذي كان مقررًا له الجمعة 3 من سبتمبر/أيلول 2021، دون إبداء أسباب، وسط حالة من الترقب الدولي والإقليمي تخيم على الأجواء، في انتظار هذا التشكيل الذي سيحدد بشكل كبير توجه الحركة في إدارة المشهد خلال الفترة المقبلة.
وبعد قرابة ثلاثة أسابيع على عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، تتصاعد المخاوف بشأن تكرار الحركة تجربة ولايتها الأولى (1996-2001)، الأمر الذي عزز حالة القلق بشأن ما يمكن أن تحمله التشكيلة الحكومية الجديدة من مفاجآت ربما تعيد البلاد عقودًا إلى الوراء بدلًا من الدفع بها إلى مستقبل أكثر استقرارًا، وهو ما تؤكده الحركة منذ فرض هيمنتها على المشهد.
يتزامن تأجيل الإعلان عن الحكومة مع تصاعد المواجهات العنيفة بين الحركة وما يسمى “جبهة المقاومة الوطنية” المعارضة في وادي بنجشير (80 شمال العاصمة كابل)، المعقل الأساسي لمعارضي طالبان، وسط تضارب في الأنباء بشأن ما أسفرت عنه تلك المواجهات التي تمثل المحطة الأخيرة نحو إتمام السيطرة على كامل الأراضي الأفغانية.
الحكومة الجديد.. تكهنات ومخاوف
إرجاء تشكيل الحكومة وسط التكتم الشديد من الحركة أنعش بورصة التكهنات وفتح الباب على مصراعيه أمام الخبراء والمحللين للحديث عن توقعاتهم الممزوجة أحيانًا بالآمال والأمنيات بعيدًا عن قراءة الواقع بصورة دقيقة، وسط صمت غير مبرر من السلطة الجديدة التي رفعت شعارات التشاركية مع ساعاتها الأولى للسيطرة على العاصمة.
حديث قادة الحركة عن أن الحكومة القادمة ستكون شاملة دفع الصحفي والمحلل السياسي الأفغاني نصرت حقبال، إلى توقع إشراك مسؤولين من الحكومات السابقة في الحكومة المرتقبة، في محاولة من طالبان لإرضاء المجتمع الدولي، لكنها لن تشرك أي شخص تثور الشكوك بشأن أدائه سابقًا.
حقبال خلال تصريحاته لبرنامج “ما وراء الخبر” السبت 4 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، توقع أن تتخذ الحركة بعض الإجراءات التي تستهدف بها مغازلة الجميع، الداخل والخارج، وتقديم أوراق اعتمادها كسلطة تشاركية تعلمت جيدًا من دروس الماضي الأليمة، مرجحًا أن تشرك شخصيات من الأقليات الإثينة بالبلاد، لكنها غير معروفة لدى كل أفراد المجتمع الأفغاني.
وعن احتمالية مشاركة عناصر من حكومة الرئيس الهارب أشرف غني، أوضح السياسي الأفغاني أن طالبان ليست مضطرة لذلك، كما أنها من المحتمل أن تضع بعض الشروط القاسية فيمن يتولى أي منصب رسمي خلال المرحلة المقبلة، كـ”ألا تدور حوله شبهات فساد في المال العام أو إساءة استغلال منصبه، ولا أن يكون معروفًا بالتعاون مع القوات الأجنبية التي غزت البلاد، ولا خاض قتالًا مباشرًا مع حركة طالبان”.
الرأي ذاته ذهب إليه مدير الأكاديمية القطرية الدولية لدراسات الأمن، ماجد الأنصاري، الذي لفت إلى أن الرسائل القادمة من زعماء طالبان مبشرة وإيجابية وتعكس حسن نوايا في تحسين الصورة وعبور المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد حاليًّا، متوقعًا إشراك عناصر من الحكومات السابقة، لديها قنوات اتصال مفتوحة مع طالبان، مثل عبد الله عبد الله وحامد كرزاي وغيرهما.
لا يعكس الانسحاب المفاجئ للقوات الأجنبية وهروب الرئيس وسقوط النظام دون مقاومة، فرض الحركة الإسلامية كامل سيطرتها على المشهد، فهناك الكثير من القنابل الموقوتة داخليًا، التي زرعها الاستعمار الأجنبي على مدار عقدين كاملين
وتمثل مشاركة المرأة أحد المعضلات الأساسية المرجح أن تواجه التشكيل الجديد، فرغم التصريحات الإيجابية الصادرة عن قادة الحركة بشأن رؤيتهم الجديدة للمرأة ومستقبلها في البلاد، لا تعدو كونها وعود وأحاديث لم تتعرض بعد لاختبارات التقييم الحقيقية، وربما يكون التشكيل الحكومي المنتظر الاختبار الأول لتلك التصريحات.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت عبد الله الشايجي، يتوقع ألا يكون هناك وجود للمرأة في حكومة طالبان الجديدة، لافتًا في تصريحات له إلى أن “هذا الأمر لن يزعج الغرب الذي سيتفهم بالتأكيد عقلية الحركة وطبيعة المجتمع الأفغاني، وسيكتفي بحصول المرأة الأفغانية على حقها في التعليم وبعض مجالات العمل”.
وأوضح أن التوازن المطلوب والتشاركية النسبية هو أكثر ما يهم الحركة في تشكيل حكومتها المنتظرة، لإقناع القوى الدولية التي تترقب الوضع حاليًّا، أن طالبان 2021 ليست طالبان 1996، في محاولة لكسب معركة الاعتراف الدولي لضمان الحصول على الدعم الخارجي الذي يبدو أنه سيكون عاملًا مؤثرًا في نجاح الحركة في إدارة السلطة سنوات حكمها الأولى على أقل تقدير.
يتسق ما ذهب إليه الشايجي مع ما قاله نائب رئيس المكتب السياسي للحركة محمد عباس ستانيكزاي، الأربعاء 1 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، لإذاعة “بي بي سي” الناطقة بلغة البشتون، حين أشار إلى تمكن النساء من التعليم ومواصلة العمل، لكن “قد لا يكون لهن مكان” في الحكومة المستقبلية أو في مناصب أخرى رفيعة، وهو التصريح الذي دفع بعشرات الناشطات الأفغانيات للنزول إلى شوارع مدينة هرات (غرب) للتظاهر والمطالبة بفتح قناة تشاور بين النساء والحركة، بما يمهد الطريق لأن يكون للمرأة دور ومكانة في مؤسسات الحكم.
بنجشير.. المحطة الأخيرة
الوضع المشتعل في بنجشير حيث المواجهات الساخنة بين الحركة والمعارضة ربما يفسر التأخير في الإعلان عن الحكومة الجديدة حتى الآن، وسط تباين التصريحات الخاصة بنتائج تلك المواجهات الغائبة بشكل كبير عن أعين التناول الإعلامي الموضوعي المبني على معلومات وليس تخمينات.
تعد بنجشير المعقل الأبرز حضورًا لمعارضي الحركة، وآخر الأقاليم العصية على السيطرة الطالبانية، ومن ثم تتسم المعارك الدائرة هناك بالقوة من الجانبين، وعليه تدافع الجبهة الوطنية الأفغانية، التي يقودها الزعيم المحلي أحمد مسعود، باستماتة دفاعًا عن هذا الإقليم الذي لو سقط في أيدي طالبان يسدل الستار تمامًا عن أي مقاومة مستقبلية.
هناك حالة من السجال بين الحركة والجبهة، فبينما أعلنت الأولى سيطرتها على منطقة “شتل” وعلى مديرية “بريان” في الولاية الشمالية يؤكد أنصار الثانية أنهم نجحوا في التصدي لهذا الهجوم، متعهدين بمواصلة القتال، وسط سقوط قتلى وجرحى من الجانبين.
المتحدث باسم جبهة المقاومة الأفغانية، فهيم داشتي، قال إن قوات طالبان وصلت إلى مرتفعات دربند على الحدود بين إقليمي كابيسا وبنجشير، لكن تم صدها، مضيفًا في تغريدة له على تويتر “الدفاع عن معقل أفغانستان لا ينكسر”، وهو التصريح ذاته الذي أكده نائب الرئيس الأفغاني وأحد قادة الجبهة، أمر الله صالح، وفي المقابل أكد مصدر بالحركة أن هناك تقدمًا ملحوظًا في مناطق تلك الولاية، لكنه تباطأ مؤخرًا بسبب الألغام الأرضية المزروعة على الطريق المؤدية إلى العاصمة بازارك ومجمع حاكم الإقليم.
وبحسب مراسل الجزيرة في كابل، أحمد فال ولد الدين، فإن هناك تضاربًا واضحًا في المعلومات الواردة من بنجشير، ما بين تأكيد على التقدم الطالباني والنفي المسعودي القاطع، مضيفًا أن تلك المنطقة تعد محمية جغرافيا لأنها منطقة وعرة جدًا تقع في منطقة سلسلة جبال هندوكش، ومن ثم فإن السيطرة العسكرية عليها مسألة شاقة للغاية، كما أن غالبية سكان الولاية من الطاجيك.
جدير بالذكر أن الاحتفالات التي أقامها أنصار طالبان في العاصمة كابل بعد توارد أنباء الانتصار والسيطرة على الإقليم – رغم نفي الجبهة المعارضة لها – أسفرت عن مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين، بحسب وسائل إعلام محلية، ما دفع المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، لإصدار تعليمات للأنصار بوقف إطلاق النار في الهواء والاكتفاء بشكر الله.
تصاعد المخاوف
في تقارير سابقة لـ”نون بوست” تمت الإشارة إلى أن الداخل سيكون التحدي الأبرز أمام طالبان في مرحلتها القادمة، رغم خطورة ما تحمله التحديات الخارجية ومعركة الاعتراف الدولي، وأن طمانة الشارع الأفغاني وتفعيل قيم التشاركية وتصحيح الصورة المشوهة قديمًا ستكون العوامل الأبرز في تحديد هوية المنتصر في تلك المعركة التي لم تنته بعد.
لا يعكس الانسحاب المفاجئ للقوات الأجنبية وهروب الرئيس وسقوط النظام دون مقاومة، فرض الحركة الإسلامية كامل سيطرتها على المشهد، فهناك الكثير من القنابل الموقوتة داخليًا، التي زرعها الاستعمار الأجنبي على مدار عقدين كاملين، هذا بخلاف تعدد الأيادي العابثة في الداخل التي لا تريد لهذا البلد إلا أن يظل غارقًا في وحل الاقتتال الأهلي والفوضى، خدمة لأجندات خارجية.
ومع اشتعال الوضع ميدانيًا، تصاعدت المخاوف من احتمالية الخروج عن السيطرة والولوج مرة أخرى في مستنقع الاحتراب المجتمعي المسلح، وهو ما عبر عنه رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال مارك ميلي، الذي أعرب عن تخوفه من أن تقود تطورات الأوضاع في أفغانستان إلى نشوب حرب أهلية، وتكون نواة جديدة لإعادة تشكل “مجموعات إرهابية” جديدة، مضيفًا “لا أعلم هل ستكون طالبان قادرة على توطيد سلطتها وإنشاء حكومة”.
ليس شرطًا أن ينتظر زعماء الحركة إنهاء معركة الشمال للإعلان عن الحكومة، إذ يمكن العمل من خلال مسارات متوازية، لكن يبقى التشكيل المقترح والأسماء المتوقع أن تتضمنها التوليفة الجديدة هي الاختبار الحقيقي
استمرار المعارك في بنجشير لفترات قادمة، دون الحسم من الحركة، سيعقد الوضع بصورة كبيرة، كونه يعطي كثيرًا من القوى المعارضة الوقت المطلوب لترتيب أوراقها مرة أخرى، وإعادة تموضعها في قالب مختلف، مع عدم استبعاد دعم خارجي محتمل قد يكون عاملا مؤثرًا.
وفي المقابل فإن الفشل في السيطرة الطالبانية على الإقليم الشمالي سيضعف من ثقلها داخليًا وخارجيًا، ويصيبها بالارتباك السياسي الذي من المتوقع أن يفرز تحركات عسكرية مسلحة عشوائية كـ”رد فعل” تلقائي، الأمر الذي يستدعي التجربة الأليمة الماضية، ويسرع من دخول النفق المظلم الذي يخشاه الجميع.
كما أن التأخير في الإعلان عن التشكيل الحكومي المقرر سيفتح الباب أكثر أمام العديد من التكهنات التي قد تضر بالحركة وقدرتها على قيادة البلاد، فضلًا عن تعزيز المخاوف والتشكيك في التصريحات الإيجابية التي أطلقها قادة طالبان بشأن الشمولية والتشاركية لطمأنة الجميع.
وفي الأخير.. ليس شرطًا أن ينتظر زعماء الحركة إنهاء معركة الشمال للإعلان عن الحكومة، إذ يمكن العمل من خلال مسارات متوازية، لكن يبقى التشكيل المقترح والأسماء المتوقع أن تتضمنها التوليفة الجديدة هي الاختبار الحقيقي الذي سيترتب على نتائجه الكثير من ملامح المستقبل، سواء للحركة أو البلاد بصفة عامة.