في الأمثال الشعبية المصرية، اعتاد الأجداد استخدام تلك الصورة البيانية، صورة “الرقص على السلَّم” للدلالة والإشارة إلى التردد في اتخاذ القرارات، وعدم الحسم في التوجهات؛ ومن ثم إن هذا الراقص على السلَّم، لا على المسرح، لا يحصل على وقار العاديين، ولا يحصل على لفت الأنظار بالرقص.
وفي جذور أخرى لتفسير أصل هذه الصورة، فإن بعض المهتمين بحقل الأنثربولوجيا اللغوية، أو الآداب الشعبية كما تُسمّى في المقررات الدراسية الأكاديمية، يقولون إنها كناية عن الاهتزاز كمجازٍ لـ”الرقص”، إذ إن الاهتزاز فرعٌ من الرقص، والقصد أن الصورة تشي بالتردد أيضًا، وعدم القدرة على الحمل، حال صعود السلَّم، إذا كانت الحمولة ثقيلة.
تقديرنا الأول
بعد هذه المقدمة اللغوية عن جذور هذا التعبير الاصطلاحي، الذي يحمل مضمونًا بلاغيًّا يختلف عن المعنى المباشر لمفرداته؛ فإننا نعود إلى السياسة، إذ الفصل بين هذين الحقلَين ليس سوى لأغراض دراسية، وإنما في الواقع اللغة والخطابة والشعر كانوا دائمًا جزءًا لا ينفصل عن عالم السياسة.
قبل أشهر، حين بدأ الحديث عن احتمالات التقارب بين القاهرة وأنقرة، السيسي وأردوغان، والتي أجمع المحلِّلون على أن أسبابها الرئيسية خارجية لا ذاتية من هاتين العاصمتَين، كتفاعلٍ مع مساعي الإدارة الأميركية الجديدة إلى خفض التصعيد في المنطقة، والذي ظهرَ في تقارب كثير من الخصوم، وبالأخص في الخليج العربي، قلنا إن التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدَين مستبعَد.
من زاوية النظام المصري، فقد سعى السيسي منذ وصوله إلى الحكم ممثِّلًا للدولة العميقة ومصالح بعض ممالك الخليج، ونتاجًا لمخاوف اليمين الغربي وبعض طوائف الداخل المصري من خصوم الإسلام الحركي (الإخوان المسلمين)؛ إلى مأسسة العداء مع النظام التركي الحالي.
وإزاء الرفض التركي لما جرى في 3 يوليو/ تموز 2013، اتّخذَ السيسي سلسلة خطوات لهيكلة الخصومة مع النظام الذي يمثّل الشريحة الأكبر من الشعب التركي، وفقًا لنتائج الانتخابات، مثل: إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، الذي يعدّ تكتُّلًا للدول المعنية بثروات تلك المنطقة، سواء كانت واقعة فيها أم لا، باستثناء تركيا.
أبدت تركيا استعدادًا لمعاودة تقييم العلاقات مع النظام المصري، في ظلّ مساعيها إلى حلحلة التكتل المضادّ لها في شرق المتوسط، كي تسرِّع في التنقيب عن ثروات تلك المنطقة كما فعلت في البحر الأسود.
بالإضافة إلى المسارعة في ترسيم الحدود البحرية مع خصوم تركيا في تلك المنطقة، ولو كان ذلك على حساب المصالح المصرية، كما جرى مع اليونان وقبرص، واجتراح تكتلات سياسية جديدة تسعى إلى عزل أنقرة عن المنطقة، مثل التحالف الثلاثي مع أثينا ونيقوسيا، ونسخته الأحدث مع عمّان وبغداد، ثم المشروع الوليد مع عمّان والسلطة الفلسطينية “فتح”، والذي تمخّض عن قمةٍ ثلاثية منذ أيام.
في المقابل، فإن تركيا التي أفلتت من انقلاب عسكري في يوليو/ تموز 2016، ويحذّر بعض جنرالاتها بين الحين والآخر من ترصدهم بالتجربة الديمقراطية في البلاد؛ فإنه لم يدفعها إلى التقارب مع النظام المصري، الذي جاء بانقلاب عسكري، إلا بعض التغيرات والمستجدات الخارجية، وليس بدوافع ذاتية أبدًا.
فتركيا التي رفضت الانقلاب العسكري ضد خصومها في ميانمار وأرمينيا، أبدت استعدادًا لمعاودة تقييم العلاقات مع النظام المصري، في ظلّ مساعيها إلى حلحلة التكتل المضادّ لها في شرق المتوسط، كي تسرِّع في التنقيب عن ثروات تلك المنطقة كما فعلت في البحر الأسود، وبعد ما تبيّن لها أن المعارضة المصرية، التي تستضيف قسمًا كبيرًا منها على أراضيها، باتت عبئًا ثقيلًا، باستثناء جانبها الإعلامي الذي يزعج النظام المصري.
الرسائل الإيجابية من النظام المصري
بالإضافة إلى ما سبق إيضاحه عن طبقات الترتيبات التي استحدثها النظام المصري من أجل مأسسة العداء مع تركيا، فإنه أيضًا حرصَ بالمثل على إيواء المعارضة التركية، وبالأخص جماعة غولن، في أراضيه، ومحاولة دعم خصوم تركيا على حدودها من الجماعات الكردية، سياسيًّا وخطابيًّا على الأقل.
وتجمع بين النظام المصري وخصم تركيا الأكبر في أوروبا، فرنسا، مصالح عملاقة في مختلف المجالات، العسكرية والاقتصادية والسياسية والفكرية، فيما ترى باريس الحليف الأبرز للنظام المصري في أنقرة خطرًا كبيرًا على مصالحها، سواء كان ذلك في القارة السمراء أم في البيئات العربية الأخرى المضطربة، وبالأخص ليبيا والعراق ولبنان.
ما دفع تركيا إلى هذا التنازل، هو أن التيار الدولي بات يميل إلى ضرورة نزع فتيل التوترات، والجميع بدأ يقدِّم تنازلات، بما في ذلك النظام المصري الذي قبلَ بالتصالُح مع قطر، دون شروط.
ورغم كلّ ذلك، وعلى عكس الشائع، فإن النظام المصري هو من بادر فعليًّا بنوايا التقارب من تركيا، وذلك عندما أعلن عن طرح 3 مناطق بحرية شمالي البلاد للتنقيب الطاقوي، على نحو فنّي يتناسب مع تعريف تركيا لحدود جرفها القارّي، وهو ما أقلق اليونان، خصم تركيا وحليف النظام المصري، كثيرًا في هذا التوقيت.
ووفقًا لما انفرد به موقع “المنصة” المستقل، والذي يختصّ مع “مدى مصر” بالتنقيب عمّا تعجز الصحافة المؤيّدة للنظام أو تتجاهل كشفه مع مواقع أخرى؛ فقد بادر النظام المصري أيضًا بإعطاء تعليمات لإعلامييه، بعد أن سيطر على كلّ منافذ الإعلام، بوقف التصعيد الخطابي ضد تركيا مؤقتًا، قبل أن تقوم تركيا بهذه الخطوة.
حيث إذا كان النظام المصري نفسه هو من عملَ طوال السنوات الماضية على تأسيس تلك الحواجز المشار إليها بينه وبين نظيره التركي، فلماذا يأتي بعد كل هذا ليرمي برسائل إيجابية إلى النظام نفسه؟
الإجابة ببساطة: التغيرات الدولية نفسها التي دفعت تركيا إلى التراجُع عن عدائها الجذري للنظام المصري، إلى جانب رغبة النظام المصري في الانعتاق من الهيمنة الخليجية التي كثيرًا ما تضرّ بالمصالح المصرية، على نحو ما رأيناه في علاقة الإمارات بإثيوبيا مثلًا، مخالفةً الإجماع العربي الداعم لمصر في تلك القضية، إلى جانب سأم نظام السيسي من إزعاج الإعلام المعارض في تركيا.
الرسائل المتضاربة
بجدول زمني مضغوط، عملت تركيا على تلبية مطالب وتأمين هواجس وشواغل النظام المصري، فبعد أن طلبت من قنوات المعارضة التي تبث من أراضيها تخفيف الهجوم على النظام المصري، أخطرتهم بإمكان البثّ من أي دولة أخرى، أو البقاء في تركيا، دون الالتزام بالأجندة التحريرية المعتادة.
مجدَّدًا، إن ما دفع تركيا إلى هذا التنازل، كما يقول خبراء في الحكومة التركية، هو أن التيار الدولي بات يميل إلى ضرورة نزع فتيل التوترات، والجميع بدأ يقدِّم تنازلات، بما في ذلك النظام المصري الذي قبلَ بالتصالُح مع قطر، دون شروط.
بالإضافة إلى استمرار انقسام المعارضة المصرية في الخارج، وضغط المعارضة التركية في الداخل التركي على حزب العدالة والتنمية لإرسال رسائل إيجابية إلى القاهرة، باعتبارها قوة معتبَرة في المنطقة.
الملفّ الرئيسي والمقايضة الأهم بالنسبة إلى تركيا، أن يكون وقف استخدام أراضيها منصةً لخصوم النظام المصري، الحكّام الشرعيين للبلاد الذين أطاح بهم السيسي في الانقلاب، وأن يقدِّمَ النظام المصري بالمقابل تنازلات في ملف شرق المتوسط، بما يتيح لأنقرة هامشًا من الحرية للتفاوض والضغط على كل من قبرص الرومية واليونان.
الأخطر بالنسبة إلى تركيا هو المواقف المتلاحقة من النظام المصري مؤخرًا، والتي تقف بوضوح ضد المصالح التركية فضلًا عن تعارضها مع الرسائل الإيجابية الأخيرة بين الطرفَين.
ما الذي فعله النظام المصري؟ على التوالي، يمكن حصر عدة إجراءات وخطوات تتعارض مع الرسائل الإيجابية التي بادر في توجيهها إلى تركيا، وتتعارض مع الردّ الإيجابي من تركيا عليها، وذلك بدايةً من افتتاحه قاعدة جرجوب العسكرية شمال غرب البلاد قبل أسابيع، يوليو/ تموز الماضي، بالتزامن مع الذكرى السابعة للانقلاب العسكري.
ليس الأمر بالطبع في افتتاح قاعدة عسكرية، إذ يحقّ لكل دولة أن تدشّن في أراضيها ما تراه مناسبًا لحماية مواردها، ولكنّ الأمر فيما حدث خلال تلك المناسبة من رسائل سياسية أجمع محلِّلون مقرَّبون من النظام المصري أنها عدائية موجّهة إلى تركيا، بما في ذلك الحضور الإماراتي الرفيع، والتذكير بأنّ هذه القاعدة، وقاعدة محمد نجيب العملاقة، تهدف إلى توفير الدعم اللوجستي لقوات شرق ليبيا (حفتر) ضد “المتشددين” و”المرتزقة الأجانب”، كما يسمّيهم النظام المصري.
هذا بالإضافة إلى التوسُّع في استصدار أحكام إعدام جديدة ونهائية ضدّ قادة جماعة الإخوان المسلمين في الداخل المصري، بالتزامن مع عودة التقارب بين النظام المصري وقيادات الشرق الليبي الانقلابية، خليفة حفتر ورفاقه، على مستوى الدعم الاستخباراتي، بالتقاطع مع جهودٍ لمزاحمة أنقرة في الغرب الليبي بأدوات الاقتصاد والدبلوماسية.
ولكنّ الأخطر بالنسبة إلى تركيا هو المواقف المتلاحقة من النظام المصري مؤخرًا، والتي تقف بوضوح ضد المصالح التركية فضًلا عن تعارضها مع الرسائل الإيجابية الأخيرة بين الطرفَين، ومن ذلك إدانة بعض المواقف الميدانية التي اتخذتها تركيا لحماية مواطني ومصالح قبرص التركية بشكلٍ صريح، وتعميق التعاون العسكري بين مصر وقبرص الرومية، وصولًا إلى العمل على ضمّ اليونان إلى الجامعة العربية بصفة مراقب.
استبعاد التطور
إلى جانب تلك المواقف العدائية للمصالح التركية، فإنّ النظام المصري لا يعمل حتى على ما هو “ممكن” لإرسال رسائل إيجابية بالأفعال لا بالأقوال إلى نظيره التركي، كتقييد نشاط جماعة غولن في مصر أو توسيع التعاون الاقتصادي مع أنقرة، وإنما يعتمد على استراتيجية مختلفة أقلّ كلفةً.
تقوم تلك الاستراتيجية على أن يقدِّمَ رسائل “غامضة” إلى نظيره التركي، توحي بتحسُّن العلاقات والرغبة في التقارب، ولكنها خالية من أي مضامين حقيقية، وذلك خوفًا من أن يؤدّي التقارب المحتمَل مع تركيا إلى أضرار في المشهد الداخلي بالقاهرة تؤثِّر على استقرار النظام، أو غضب واسع لدى حلفائه في الخليج وشرق المتوسط.
من أمثلة ذلك ما بات معتادًا من رسائل التعزية الصادرة من النظام المصري إلى تركيا في الكوارث الوطنية، أو عرض تقديم مساعدات إنسانية، وصولًا إلى، في ذروة التطورات الإيجابية، إرسال وفود استكشافية لبحث إمكان تطوير العلاقات كلّ عدة أشهر، دون نتائج حقيقية، على غرار الوفد الأخير.
يعلمُ النظام المصري أن الشغل الشاغل لتركيا من التقارب معه، هو ملف شرق المتوسط، ثم بأهمية أقلّ التعاون الاقتصادي وتشذيب نشاط المعارضة التركية في مصر، ومع ذلك يصرّ إلى الآن على تبنّي خيارات أقلّ كلفة، وهو ما رجّحناه في تقديراتنا الأولية لهذا التقارب، فيما يقول عنه السيسي إنه سياسة خارجية “متوازنة” مع جميع الأطراف في المنطقة.
فضلًا عن كون هذه السياسة لا تساهمُ في بناء الثقة في النظام المصري كما يقول محلِّلون، فإنّ تركيا التي رفضت الخضوع إلى الولايات المتحدة، القوة العظمى في العالم، في ملفات كثيرة مثل مصير عملية نبع السلام وإس-400، قد تجد نفسها غير مضطرة إلى تقديم مزيد من التنازلات المجّانية للنظام المصري، وذلك بالأخصّ في مساعيه لتسليم معارضين أو فرض معادلات نوعية في خارطة المنطقة، ثم العدول عن أي تنازلات قُدِّمت، كما أشار ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي في مقال له قبل مدة.