“نحن لا نهدد أحدًا ولكن لا يستطيع أحد أخذ نقطة مياه من مصر (..) وإلا ستشهد المنطقة حالة عدم استقرار لا يتخيلها أحد.. لا يتصور أحد أنه بعيد عن قدرتنا (..) مياه مصر لا مساس بها والمساس بها خط أحمر وسيكون رد فعلنا حال المساس بها أمر سيؤثر على استقرار المنطقة بالكامل”.. كان هذا تحذير الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال مؤتمر صحافي عقد بمركز تابع لهيئة قناة السويس بمحافظة الاسماعيلية، في 30 من مارس/آذار 2021.
“اكتمل الملء الثاني لسد النهضة والمياه تتدفق، وهذا يعني أن لدينا الآن كميات المياه الضرورية لتشغيل التوربينين وهو ما يكفي ليبدأ مشروع السد في توليد طاقة كهربائية”.. هكذا كان الرد الإثيوبي على لسان وزير المياه والري والطاقة، سيليشي بيكيلي، في 19 من يوليو/تموز 2021.
وكانت مصر – ومعها السودان – قد تلقت في يونيو/حزيران الماضي إخطارًا رسميًا من أديس أبابا بأنها بدأت ملء خزان السد للمرة الثانية، في خطوة رفضتها القاهرة بشكل قاطع، محذرة من أي إجراء أحادي من شأنه أن يهدد سلامة واستقرار المنطقة برمتها، فيما تم التلويح بالتصعيد في مسارات دولية عدة.
الشهور الثلاث ما بين التحذير المصري وتأكيد الملء الإثيوبي شهد خلالها ملف سد النهضة زخمًا إعلاميًا وسياسيًا وشعبيًا غير مسبوق، فقد تلقى الشارع المصري تصريحات السيسي بثنائية القوة والحذر، ففريق يرى في تلك التحذيرات رسالة تطمين للشعب المصري بالزود عن حقوقه المائية بشتى السبل، فيما اعتبرها آخرون تصريحات تخديرية للاستهلاك المحلي، لا سيما أن الجانب الإثيوبي لم يحرك لها ساكنًا.
ومنذ الإعلان الإثيوبي عن انتهاء عملية الملء الثاني، متجاهلًا التحذيرات القاهرية المستمرة، دخل ملف السد خندق التجاهل الإعلامي، الرسمي والخاص، وشهد الشارع حالة من التبريد التام لتلك القضية الساخنة التي تهدد حياة الملايين من المصريين.. فلماذا تراجع هذا الزخم بهذه الكيفية في هذا الوقت الضيق؟
بين التأكيد والتشكيك
ما إن أعلنت الخارجية الإثيوبية التزامها في عملية الملء الثاني بالكمية المحددة سلفًا وهي 13.5 مليار متر مكعب من المياه حتى بدأ التشكيك في قدرة البلاد على تخزين هذا الرقم الكبير، الذي بلا شك سيؤثر على حصة المصريين رغم تأكيد أديس أبابا على عدم الإضرار بدولتي المصب.
عدد من الخبراء المصريين استبعدوا احتمالية احتجاز هذه الكمية الكبيرة، خاصة أن الإعلام القاهري في ذلك الوقت كان يلعب على وتر عدم قدرة السد بإمكانياته الحاليّة على تخزين هذه الكميات نظرًا لوجود أخطاء ومشاكل فنية في عملية البناء تحول دون ذلك، وأن الحد الأقصى للمياه المخزنة لن يتجاوز ثلث هذا الرقم تقريبًا، وإلا سيتعرض السد برمته للانهيار.. هكذا كان يقول الإعلام المصري.
وزير الري الأسبق، محمد نصر الإعلان، خرج في تصريح له قبل شهرين ليؤكد أن “إثيوبيا قامت في الملء الأول بتخزين 4.9 مليار متر مكعب، وبالتالي لن تستطيع بأي حال من الأحوال تخزين أكثر من 3.6 مليار متر مكعب في الملء الثاني، حتى يتناسب مع الارتفاع الحاليّ للممر الأوسط من السد”.
وتعليقًا على بيان الخارجية الإثيوبية بشأن الـ13.5 مليار متر مكعب، قال: “إثيوبيا من حقها أن تقول ما تشاء، لكن الحقيقة التي نعلمها جيدًا وتتفق مع المنطق والواقع، تقول إن ارتفاع الممر الأوسط بالسد حاليًّا الذي يبلغ 574 مترًا وثبت بصور الأقمار الصناعية لن يستوعب أكثر من 8.5 مليار متر مكعب من المياه المخزنة”.
الوزير المصري فسر التصريحات الإثيوبية باكتمال الملء الثاني بالكمية المطلوبة على أنها محاولة للهروب من الغضب الشعبي، لا سيما بعد استخدام حكومة آبي أحمد خطابًا شعبويًا في مخاطبة الشارع هناك، الأمر الذي ربما يعرضهم لبركان غضب داخلي حال تراجعهم عن وعودهم السابقة.
الرأي ذاته أكده خبير المياه المصري، عباس شرقي، الذي شكك في الرقم المعلن بشأن كمية المياه المخزنة في عملية الملء الثاني، مشيرًا إلى أن أديس أبابا تدعي تخزين 13.5 مليار متر مكعب، فى 15 يومًا منذ بداية التخزين في 4 من يوليو/تموز وعند اكتماله في 18 من يوليو/تموز، رغم أن متوسط إيراد الشهر كله 7 مليارات متر مكعب فقط من مياه الفيضان، متسائلًا “كيف يقول المسؤولون الإثيوبيون إنهم نجحوا في الملء الثاني وبالكمية المقررة وهي 13.5 مليار متر مكعب؟”.
صمت إعلامي وشعبي
انتقل الإعلام المصري ومنصات السوشيال ميديا في تعاطيها مع ملف السد من نقطة ارتكاز خط الاستواء المشتعل إلى أجواء القطب الشمالي البارد، من الزخم والفوران المستمر على مدار الساعات الأربعة والعشرين يوميًا، إلى الخمول والتجاهل شبه التام، في تحول أثار الكثير من التساؤلات.
شاشات الفضائيات وصفحات المواقع والجرائد التي كانت تزج بتصريحات الخط الأحمر السيساوية، ورسائل الطمأنة القادمة من أحاديث قادة الجيش بين الحين والآخر، وكلام الخبراء عن فشل إتمام عملية الملء الثاني، أسقطت بين غمضة عين وانتباهتها هذا الملف برمته من خريطة برامجها، وكأن الأزمة قد أرخت ستائرها ورفعت إثيوبيا رايتها البيضاء رضوخًا للتهديدات المصرية.
ليس هناك دليل موثق عن تعليمات صدرت من هنا أو هناك لوقف التعاطي الإعلامي مع هذا الملف، لكن التجارب السابقة كفيلة باستقراء المشهد دون إجراءات رسمية، لا سيما بعد سقوط معظم الخريطة الإعلامية في قبضة المخابرات المصرية، ومن ثم هي من تحدد قائمة الأولويات، وترسم قبلة الاتجاهات ومسار المنظومة برمتها، كما أنها المخولة بوضع خريطة البرامج والسياسة التحريرية، الوضع كذلك إزاء منصات التواصل الاجتماعي التي تدار اليوم عبر منظومة من اللجان والجيوش الإلكترونية المؤدلجة.
كان التناول في السابق – استنادًا إلى التصريحات الشعبوية للرئيس وأنصاره – يصب في صالح النظام بلا شك، لكن بعد إصرار أديس أبابا على عملية الملء دون أدنى اعتبار للموقف المصري وتهديدات السيسي، فإن الوضع تغير بنسبة كبيرة، فقد وجدت السلطة الحاليّة نفسها في مأزق حقيقي، خاصة أمام الشارع الذي كان يتغنى بالخط الأحمر ليل نهار.
وأمام تلك الوضعية الحرجة كان التعتيم والتجاهل وضرب قائمة الأولويات في مقتل، هو الحل الأسرع والأنجز للخروج من تلك الشرنقة، وعليه أغلقت وسائل الإعلام أبوابها عن كل ما يخص ملف السد، اللهم إلا بعض الأخبار بين الحين والآخر عن التوترات في الداخل الإثيوبي، وهو التناول الذي ربما يعيد للسلطة جزءًا من مصداقيتها المشروخة كما سيأتي ذكره.
إلهاء الشارع
كتاب “الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة“، مجهول المؤلف، تناول عدد من الإستراتيجيات التي تلجأ إليها أنظمة الحكم الديكتاتورية لإحكام قبضتها على الشعوب وضمان عدم الخروج عن المسار المرسوم لها.
الكتاب تحدث عن 10 استراتيجيات للحكم الديكتاتوري أبرزها “إلهاء الشارع”، بجانب أخرى كخلق المشكلة لتوفير الحل واستخدام الخطاب العاطفي، ويضم الكتاب -وفق بعض المتابعين- خلاصة آراء ومقترحات بعض دوائر النفوذ العالمي التي تجمع كبار الرأسماليين والساسة والخبراء في عدد من مجالات السياسة والحكم.
وتعتمد تلك الإستراتيجية على إغراق النّاس بوابل متواصل من وسائل الترفيه، في مقابل شحّ المعلومات وندرتها، وهنا يقول الكتاب: “أبقوا الجمهور مشغولًا، مشغولًا، مشغولًا، لا وقت لديه للتفكير، وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات”.
ومن أشهر النظم التي تفننت في استخدام تلك الإستراتيجيات، النظام في العصر الروماني، الذي كان يهرب من أزماته الداخلية وفشله في التعاطي مع الملفات الحيوية للمواطنين بإلهائهم ببعض الأدوات منها عروض المصارعة والنزال بين الأقوياء، وكان يتم تضخيمها بصورة تسحب معها الأضواء، فيتناسى الشعب واقعه المرير، مكرسًا اهتمامه وشغفه بالمصارعة وأنواع الرياضات العنيفة الأخرى.
الوضع في مصر لا يختلف كثيرًا عما كان عليه الرومان قبل مئات السنين، وهو ما تترجمه الخريطة الإعلامية والمجتمعية المتغيرة بين الحين والآخر، وقد نجح نظام السيسي في توظيف إستراتيجية الإلهاء لعبور الكثير من الأزمات التي واجهها خلال سنوات حكمه السبعة.
ففي الوقت الذي كانت تصدح فيه إثيوبيا بانتهاء الملء الثاني كان الإعلام المصري يشهد معارك أخرى أكثر أهمية وشراسة، على غرار معركة حمو بيكا وعمر كمال، شاكوش والبحراوي، مى حلمي وأحمد صالح، عمرو دياب وبناته، الزمالك وأزمة الدوري، الأهلي والمظلومية، وكان آخرها أزمة اللاعب شيكابالا التي غطت على كل الملفات الحياتية الأخرى.
إستراتيجية الإلهاء التي أبدع فيها النظام الحاليّ، لم تكن مقصورة على غض الطرف عن الفشل الواضح في إدارة ملف سد النهضة وفقط، لكنها تحولت إلى أسلوب إدارة لدى السلطة تستهدف تحويل الأنظار عن الواقع المرير الذي يحياه المصريون، حيث الأوضاع المعيشية المتردية نتيجة السياسات المتبعة التي دفعت بالملايين من الشعب إلى زمرة الفقراء، هذا بجانب حالة السخط الشديد نتيجة موجات ارتفاع الأسعار المتتالية في السلع والخدمات كافة.
فشل مصري
نجاح أديس أبابا في إتمام الملء الثاني، وصمت القاهرة عن هذه الخطوة، اعتبره البعض فشلًا مصريًا ذريعًا أمام الجانب الإثيوبي الذي حقق ما أراد وما خطط له، بصرف النظر عن التحذيرات والتهديدات المستمرة، التي يبدو أن الإثيوبيين يتعاملون معها على أنها تصريحات لتسكين الرأي العام إزاء الفشل في إدارة هذا الملف.
وبعد غياب إعلامي ورسمي شبه تام لهذا الملف، من يوليو/تموز الماضي وحتى الأمس، طالب الرئيس السيسي وخلال مؤتمر صحفي له أمس مع نظيره القبرصي في قصر الاتحادية، بضرورة التوصل لحل يرضي أطراف الأزمة الثلاث، وهو التصريح الاستفزازي بالنسبة للشارع المصري بعد كل تلك الهزائم التي تعرضت لها القاهرة في تلك المعركة الممتدة لقرابة عشر سنوات كاملة، نجحت فيها أديس أبابا في توجيه ضربات موجعة للمصريين رغم الفارق الكبير في الإمكانات العسكرية بين البلدين.
تتزامن تلك التصريحات القادمة من بعيد مع اشتعال التوتر داخل إثيوبيا، حيث المواجهات بين جبهة “التيغراي” والحكومة الإثيوبية على حدود سد النهضة، وهو التزامن الذي التقط صقور النظام من الإعلاميين والساسة، خيطه، للإيحاء بوجود دور محتمل للمخابرات المصرية في إذكاء هذا القلق.
عدد من الخبراء اعتبروا تصريحات السيسي أمس بأنها محاولة لـ”ركوب الموجة” لاستعادة جزء من الثقة الشعبية المتراجعة، فقد أشار مدير مركز “تكامل مصر” مصطفى خضري، إلى وجود علاقة بين تصريحات السيسي ومحاولة “التيغراي” الأخيرة تجاه السد.
وأضاف “بعد فشل السيسي شخصيًا في التعامل مع قضية السد؛ أصبح القرار في يد جهاز المخابرات المصرية والقوات المسلحة” وفق حديثه لـ “عربي 21“، مرجحًا أن يكون للقاهرة دور محتمل في تصاعد الأحداث في الداخل الإثيوبي، خاصة بعد تقلص الخيارات أمام الجانب المصري.
وفي الجهة المقابلة استبعد آخرون وجود أي علاقة بين التصريحات وما يحدث في الداخل الإثيوبي، كما ذهب خبير العلاقات الدولية سيد أبو الخير، الذي أشار إلى أن كلمات السيسي لم تعد مفيدة في أي شيء، “وأنه يحاول تسجيل موقف أمام الشعب المصري والعالم أن القضية ما زالت في بؤرة الاهتمام، خاصة بعدما تراجع الاهتمام الدولي والإعلامي لها، بعد أن فرضت إثيوبيا أمرًا واقعًا بالملء الثاني”.
وعن احتمالية التعاطي الدولي مع تصريحات الرئيس المصري أكد خبراء أن إثيوبيا باتت صاحبة اليد العليا اليوم بعد الملء الثاني، وأن القاهرة أعطت الضوء الأخضر لأديس أبابا لبناء السد من خلال إعلان المبادئ 2015، الأمر الذي أضعف الموقف المصري عالميًا، وهو ما تترجمه المواقف الدولية الهزيلة إزاء هذا الملف الذي يهدد حياة الملايين من أبناء النيل.