إلى الآن، يُواصل الرئيس التونسي قيس سعيد، سلسلة قراراته وإجراءاته الدراماتيكية التي بدأها منذ الـ25 من يوليو/تموز الماضي، بإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميد البرلمان لمدة شهر، وأعقبها بتمديد الحالة الاستثنائية إلى إشعار آخر، وسط تساؤلات الداخل والخارج لما ستؤول إليه الأوضاع في تونس في ظل الغموض الذي يُحيط الخطوات التالية لساكن قرطاج.
حالة الاستثناء التي فرضها الرئيس التونسي وفق قراءته الأحادية للدستور التونسي أرجعها إلى الانهيار غير المسبوق للمؤشرات الاقتصادية وتدني الأوضاع المعيشية في البلاد، التي أثارت في وقت سابق احتجاجات متواصلة بين التونسيين وأعاقت العديد من الأنشطة الاقتصادية كان من أبرزها استخراج وتصدير النفط والفوسفات.
لكن سعيد الذي يُحمل الحكومات المتعاقبة بعد ثورة 14 يناير التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 2011، التي كانت حركة النهضة جزءًا من معظمها، مسؤولية التدهور المستمر في الاقتصاد، لم يقم بأي مبادرات تهدف لإصلاح الاقتصاد وتعزيز التنمية ولم يظهر أي استعداد لإعادة هيكلة المؤسسات الكبرى على اعتبار أنها روافع التطور، بل بالعكس فإن انقلابه الدستوري أعطى مؤشرات سياسية سلبية ستعقد في وقت لاحق مساعي النهوض والاستثمار المرتبطة بالاستقرار.
واقع الاقتصاد
تعرف تونس منذ عشر سنوات أزمة اقتصادية خانقة، عمقتها تداعيات جائحة كوفيد 19 وحالة الانسداد السياسي المتأتية أساسًا من فشل المنظومة الحاكمة (تكنوقراط) وعدم استقرار الأداء الحكومي طيلة الفترة التي أعقبت الثورة نتيجة المطالب الاجتماعية وتداعيات الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية.
فالناتج الإجمالي رغم نمائه بـ9% في سنوات 2010 و2011، عرف تباطؤًا اعتبارًا من 2012 ووصل إلى الانكماش إلى نسبة 0.15% عام 2014، ولم تتجاوز نسبة النمو في السنوات التالية الـ1.5%، فقد سجلت تونس 1.4% في 2017، و1.2% في 2018، و1.3% في 2019.
في 2020 تسببت جائحة كورونا في انتكاسة كبرى للاقتصاد التونسي، إذ انكمش بنسبة 8.8% وهي أعلى نسبة سجلتها البلاد منذ 1966، وذلك وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، فيما انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3% على أساس سنوي، خلال الربع الأول 2021، مع استمرار الضغوط الناتجة عن جائحة كورونا، واستمرار غلق مرافق حيوية كالسياحة.
أما فيما يخص التضخم، فقد عرف هذا المؤشر صعودًا من 3% في 2011 إلى 7.3% في 2018، ثم انخفض إلى 6.7% عام 2019 ليستقر في حدود 5.7% في 2020، وذلك وفق البنك المركزي التونسي الذي توقع بأن تُحافظ البلاد على نفس المستوى هذا العام.
تباطؤ #التضخم السنوي في #تونس إلى 6.2% في أغسطس من 6.4% في يوليوhttps://t.co/DRZ0DtTJhk pic.twitter.com/SkwvQTIk7R
— CNBC Arabia (@CNBCArabia) September 6, 2021
ويعد الارتفاع الكبير في أسعار المواد الأساسية الدافع الرئيسي للتضخم، إضافة إلى زيادة في الأجور طيلة السنوات العشرة دون أن يرافقها تطورًا في الاستثمار والتنمية واختلالات التجارة الخارجية وتدهور سعر صرف العملة المحلية.
في سياق ذي صلة، فإن معدل البطالة رغم تراجعه عن ذروته في 2011 (%18)، لم يقل في أي من السنوات بين 2012 و2019 عن 15%، ليستقر بنهاية 2020 عند مستوى 16.7%، وفي مايو/أيار الماضي، ليسجل حسب المعهد التونسي للإحصاء (حكومي) ارتفاعًا إلى 17.8% في الربع الأول 2021.
قيس والاقتصاد
يُظهر الرئيس قيس سعيد نفسه في كل المناسبات واعيًا محيطًا بالوضع الاقتصادي المتدهور وتداعياته الاجتماعية خاصة على الفئات الهشة والمسحوقة، والعوامل التي أثرت على موازنة الدولة مثل التضخم والاحتكار وتهريب الأموال، إلا أنه بعد أكثر من ستة أسابيع من استحواذه على السلطة التنفيذية لم تتجاوز أفعاله مرحلة الوعد والوعيد بمحاربة الفاسدين ومختلسي المال العام.
فحديثه المتكرر عن ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية والاحتكار دون سن تشريعات وقوانين أو تطويرها يعتبر ضربًا من ضروب الشعبوية التي يُمارسها سعيد خاصة أنه لم يُعين حتى الآن رئيس وزراء جديد أو يوضح البرنامج السياسي والاقتصادي في المرحلة القادمة.
من جانب آخر، فإن قرارات منع السفر التي طالت رجال الأعمال دون قرار قضائي قد تُعمق أزمة الاستثمار في تونس، فعملية تعميم الإجراءات الاحترازية على كل المستثمرين ورجال الأعمال ستبعث برسائل سلبية للخارج الذي يركز على الثقة والأمن لتعزيز علاقاته الاقتصادية.
وتأتي هذه الإجراءات في وقت تعرف فيه تونس هروبًا متكررًا للمستثمرين الأجانب إلى دول الجوار وخاصة المغرب ولرأس المال الوطني بسبب غياب مناخ الاستثمار وسوء الإدارة وانعدام التشجيعات وارتفاع الاحتقان الاجتماعي والاحتجاجات.
في غضون ذلك، بات من المؤكد أن الإرباك والغموض الذي يرافق أداء الرئيس التونسي في الملف الاقتصادي، يُدلل على عدم امتلاكه دراية بالشأن الاقتصادي وبديلًا تنمويًا قادرًا على إنقاذ تونس من أزمة مركبة شديدة التعقيد، فكل جهوده في الوقت الراهن تصب في مسار تصفية الحسابات مع خصومه (الأحزاب) تحضيرًا لمشروع تغيير النظام السياسي.
العقدة والمنشار
في ظل حالة الانسداد السياسي التي تعرفها تونس بعد 25 يوليو/تموز، من غير المرجح أن تنجح مهد الربيع العربي على الأقل في المدى القريب، في تجاوز الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تراجع كل مؤشرات التنمية والاستثمار والإنتاج التي تتطلب إصلاحات عميقة وموجعة كما اشترطتها مؤسسات التمويل الأجنبية.
من هذه الزاوية، فإنه دون العودة إلى المسار الديمقراطي واستكمال استحقاقات الانتقال السياسي في تونس، فإن قيس سعيد سيجد نفسه أمام معضلات حقيقية ستحول دون تنفيذ سقف وعوده العالي، وهذه العقبات يُمكن تلخيصها فيما يلي:
– سعيد مطالب باستكمال مفاوضات الحكومة السابقة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض هو الأكبر في تاريخ البلاد، بمقدار 4 مليارات دولار، والإسراع في تشكيل حكومة جديدة قادرة على مجابهة الضغوط المالية العامة التي يقدر عجزها بنحو 6.7 مليارات دولار، وهو مرشح للزيادة بسبب اعتماد الموازنة متوسط سعر يبلغ 45 دولارًا لبرميل النفط، في حين الأسعار السائدة في الأسواق العالمية (قاربت 80 دولارًا لمزيج برنت)
– كما تواجه المالية العامة لتونس عبئًا آخر، إذ عليها توفير نحو 15.5 مليار دينار (5.6 مليار دولار) لخدمة الدين، منها 10 مليارات دينار (3.6 مليار دولار) بالنقد الأجنبي.
– كيف سيتعامل قيس سعيد مع إجمالي الدين العام الذي ارتفع منذ 2010 من 16 مليار دولار أو ما يعادل 55% من إجمالي الناتج المحلي، إلى 20.6 مليار في 2017، ثم إلى 29 مليارًا بنهاية 2020، ويتوقع البنك المركزي ارتفاع الدين إلى 35 مليار دولار بنهاية 2021، أي ما يزيد على 100% من إجمالي الناتج المحلي.
– هل يمتلك سعيد برنامجًا متكاملًا لإعادة هيكلة الاقتصاد التونسي بما يسمح له التحول إلى منتج وممول لخزينة الدولة بدل أن يكون حملًا عليها، وكيف سيتعامل مع رؤوس الأموال والمؤسسات المالية التي تخلت عن أدوارها كرافعة من روافع تطوير المؤسسات الوطنية وأصبحت بنوكًا مقرضة للدولة.
– كيف سيتعامل الرئيس مع السياسات الفاشلة المعطلة للنمو والمشجعة على التداين والتوريد العشوائي، وهل سينجح في تفكيك منظومة الفساد المالي والبيروقراطية الإدارية الضاربة في القدم (نظام بورقيبة وبن علي).
– المعلوم أن سعيد يُعول على علاقاته مع دول الجوار كالجزائر وبعض الدول العربية التي ساندته في انقلابه كدول الخليج خاصة الإمارات وكذلك مصر، فهل سينجح في جلب الدعم المالي العربي لتنشيط الاقتصاد وتدوير عجلة التنمية والاستثمار على المدى القريب، مع العلم أن تونس لا ترتبط بمعاملات تجارية كبرى باستثناء الجارة الجزائر؟
– هل سيراجع سعيد الاتفاقات التجارية والاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي التي قوضت طموحات الشعب التونسي في تحقيق السيادة الوطنية اقتصاديًا والعدالة الاجتماعية، وهل سيصادق على اتفاق تبادل حر شامل ومعمق “أليكا” التي وُصفت بالمدمرة للجانب التونسي نظرًا لتداعياته الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة؟
يبدو أن سعيد لن يبحث عن طريقة ومنوال جديدين للتنمية ونهج أصلح للاقتصاد من أجل وضع البلاد على السكة نحو نهضة مستدامة ومنصفة، وأن خطواته المرتبكة والغامضة والشعبوية تُوحي بأن عقدة الحبل وصلت إلى سن المنشار وأنه لا يملك بين يديه إلا استنساخ خطط وتجارب سابقيه التي عززت امتيازات الأوليغارشية وأهملت إرادة الشعب.
تسير تونس في عهد سعيد على جسر متحرك في ظل غياب رؤى إصلاحية للاقتصاد تقطع مع المنوال التنموي الذي يراعي مصالح النخب التقليدية على حساب الطبقات الكادحة والأقل حظًا، وتُمهد لنهضة حقيقية قادرة على تكريس السيادة بأنواعها واقعًا وليس خطابًا كما يفعل الرئيس التونسي.