جنين.. مدينة فلسطينية ولّادة للمناضلين المصرّين على الحياة، من يعطون أبناء بلدهم الأمل بالتحرير، في فترة هي الأكثر شراسة من ملاحقة الاحتلال، وملاحقة أجهزة السلطة.
ابتهج الناس نتيجة خبر لا يتكرر كثيرًا، مفاده: انتزاع 6 أسرى حريتهم من أكثر السجون حراسة: جلبوع؛ من خلال حفر نفق حول السجن، أطلق عليه مستخدمو السوشيال ميديا “نفق الحرية”. الأبطال الـ6 من مدينة جنين ومخيمها أبي النسيان، يسطرون أبرز معاني الشجاعة والأمل الحتمي، وفي هذا المقال سنتعرّف إلى دور جنين البطولي التاريخي في مقارعة الاحتلال.
نجح إذًا محمود العارضة ورفاقه الخمسة، وهم من جنين، من اختراق البوابات الحديدية الإسمنتية المحصّنة بالأسلاك الشائكة والقضبان الفولاذية، لم تكن هذه المرّة الأولى للأسير المحرَّر محمود العارضة في محاولة الانعتاق من السجن، فقد تمَّ عزله بتاريخ 11 يونيو/ حزيران 2014؛ على خلفية اكتشاف نفق في سجن شطة معدّ للانعتاق، وأمضى في العزل ما يزيد عن سنة.
من يعبد القسّام إلى محرَّري جلبوع
في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1935، أطلق الشيخ المجاهد عز الدين القسام الشرارة الأولى للثورة الفلسطينية الكبرى، فبعد أن اكتشفت القوات البريطانية أمرَهُ قامت بمحاصرته في منطقة يعبد في جنين، واندلعت معركة غير متكافئة بين قوات الاحتلال ورجال المقاومة قدّم فيها المجاهدون الفلسطينيون صورًا رائعةً من الكفاح والنضال.
سلّم المقاومون واحدًا تلو الآخر الراية دفاعًا عن فلسطين، وأصبح القسّام علمًا من أعلام الجهاد يتردّد اسمه في أراضي فلسطين جميعها، وعُرف هذا الاندلاع بـ”ثورة القسّام”، وأسفرت المواجهة عن استشهاد عز الدين القسّام ورفاقه.
تبنّى الفلسطينيون نهج القسّام في المقاومة في كافة أرجاء البلاد، وعُمِّمت فكرة “الشهادة في سبيل الله والوطن”. لم يسعَ عز الدين القسّام القادم من سوريا إلى السلطة بقدر ما كان يسعى إلى أن ينفّذ مشروعه العروبي في النضال ضد الاستعمار، وتنبيه الناس إلى الخطر من وجود الانتداب البريطاني، وما زال قبره شاهدًا على فكره وعقيدته اللذين ظلّا مستمرَّين إلى يومنا هذا.
من العراق إلى جنين.. مقاومة واحدة
في مطلع شهر يونيو/ حزيران، أغارت 3 طائرات إسرائيلية على جنين، وفي الليل بين الأول والثاني من يونيو/ حزيران انطلقت الكتيبة 13 لاحتلال الأهداف المحدَّدة، وهي قرى عرانة والمقيبلة والجلمة.
وبالفعل حقّقت الكتيبة أهدافها، خلال اليوم الثاني من يونيو/ حزيران، وليلة الثالث منه استطاعت القوات الإسرائيلية السيطرة على معظم التلال المحيطة بمدينة جنين، واقتحمت معظم الأحياء السكانية، بحيث لم يبقَ بيد القوات المدافعة سوى بعض الجيوب، ومبنى القيادة في القلعة، الذي اتخذه الضابط نوح الحلبي -قائد الجيش العراقي في جنين- مقرًّا له.
شارفت ذخيرة القوات العراقية على النفاذ، عندها طلب الحلبي -مواليد الموصل- من كافة القوات العراقية في فلسطين النجدة، فسارعت إليه كتيبة يقودها الضابط عمر علي -مواليد كركوك- ووصلت فجرًا عبر طريق فرعي قريب من قريتَي بروقين واليامون.
كتيبة عراقية أخرى لبّت النداء من نابلس، وكان يقودها الضابط العراقي ميخائيل شلمون -من أصوال آشورية-، وقد باءت بالفشل مساعي الطائرات الإسرائيلية لقطع طريق قوات النجدة العراقية، رغم أنها شنّت غارات لقطعه على طول امتداده من دير شرف وحتى جنين.
وقد كانت معركة جنين التي وقعت في 3 يونيو/ حزيران 1948 مفخرة للمقاتلين من أهل البلاد، الذين استشهد منهم العشرات بالإضافة إلى العدد الكبير من الجرحى، والتي أدّت في آخر المطاف إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من جنين في 4 يونيو/ حزيران 1948، وتكبيدها خسائر جسيمة بلغت 1241 قتيلًا ومفقودًا من أصل 4000 جندي إسرائيلي كانوا يحاصرون المدينة.
مخيم جنين.. عن أسطورة الصمود
في 3 أبريل/ نيسان 2002 قامت القوات الإسرائيلية باقتحام جنين ومخيمها في عملية استمرت 10 أيام متواصلة، ارتكبت فيها “إسرائيل” مجزرة راح ضحيتها 58 فلسطينيًّا، فيما تكبدت هي خسائر جسيمة بأعداد القتلى حيث ناهزت الـ 20 قتيلًا من الجنود الإسرائيليين الذين اشتبكوا في حرب شوارع مع فصائل المقاومة داخل مخيم المدينة، في ما أُطلق عليها لاحقًا معركة جنين.
سطّرت جنين ومخيمها القصّة الأبرز خلال الاجتياح الإسرائيلي على الضفة الغربية المحتلة، حيث سوّي المخيم الذي لا تزيد مساحته عن كيلومتر واحد على الأرض، دُمّرت المنشآت والبيوت والمدارس، اختلفت معالم المكان، ظلّ المخيم الكابوس الأكبر للإسرائيليين بسبب صمود وتضحية أهاليه الأسطوريَّين.
ولأن الاحتلال “مسكون بهاجس هزيمته” وللثمن الباهظ الذي دفعه في جنين خلال معركة المخيم الشهيرة، وقبلها عشرات العمليات الفدائية التي خرج منفّذوها من جنين، فهو يريد الانتقام، لا سيما أن “إسرائيل” أطلقت على جنين ومخيمها مسمّيات كـ”عش الدبابير وعاصمة الإرهاب”.
برع المخرج محمد البكري في فيلم “جنين – جنين” (54 دقيقة)، في تصوير حجم الدمار الذي حلَّ بالمخيم، وقد أثار عاصفة سياسية قوية في “إسرائيل”، إضافةً إلى الوثائق والأرقام وشهادات الناس.
يقدِّم الفيلم مشاهد حيّة لهول الصدمة التي حلّت بسكّان مخيم جنين بعد المعركة، حيث تقول إحدى شخصيات الفيلم بهذا السياق: “لو أنّ جنين عندها بحر، كان قصفونا من البحر”، دلالةً على حجم الدمار واستخدام “إسرائيل” لكافة القوات البرّية والجوّية في اجتياحها لمخيم جنين.
شبح جنين.. أحمد نصر جرار
لا يمكننا التحدث عن بطولات جنين من دون التطرُّق إلى الشهيد أحمد نصر جرار، الذي لُقِّب بالمطارد الشبح، والذي التحقَ بأبيه الشهيد نصر جرار خلال مواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في قرية اليامون قضاء جنين، بالضفة الغربية المحتلة، فجر السبت 6 فبراير/ شباط 2018.
نجح جرار بالتخفّي أكثر من أسبوعَين عن أعين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، التي تمتلكُ مقدرات أمنية وتكنولوجية متقدِّمة جدًّا في الرقابة والمتابعة، إضافة إلى تنسيقها الأمني المستمر مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بعد أن قام بتصفية الحاخام الإسرائيلي المتطرف رازيئيل شيفاح يوم 9 يناير/ كانون الثاني 2018.
تحوّل جرار إلى بطل ونموذج للشاب المقاوم، وأطلقَ عليه البعض ألقابًا منها “شبح جنين” و”أرطغرل فلسطين” وغيرها من الألقاب التي تعبِّر عن الاعتزاز والإكبار لابن جنين، الذي أعاد سيرة والده مقاومة واستشهاده.
عودة الأبطال إلى جنين
في سيناريو متخيَّل يعود الأبطال الستة إلى موطنهم، إلى مدينتهم جنين، فرغم التضييقات المفروضة عليهم من قوات الاحتلال، ورغم الاقتحامات الأشد شراسةً، يعلّمنا شبان جنين أن المقاومة جدوى مستمرة، وأن الدفاع عن أرضهم ثمنه الدماء.
خلال هذا العام قتلت إسرائيل 10 شبان أثناء اقتحام المخيّم، فيخرج الأبطال المقاومين للدفاع عن المخيم الصغير وعن مدينتهم الحبيبة.. ما زالت البوصلة تشير دومًا إلى جنين، التي تحتضن أبناءها من الأسرى المحرَّرين والشهداء، وهذا ليس بالأمر الغريب عن مدينة قدّمت وما زالت تقدِّم أبرز سطور الصمود والإقدام، منذ أن كانت مجرد قرية صغيرة.