منذ زمنٍ يتمّ الالتفاف حول الموسيقى كأحجية مجهولة، حتى لو تفككت على المستوى التقني، بحيث أصبحت لغة أكاديمية مفهومة ومدروسة، بيد أنها على المستوى الشاعري المجرَّد من القوة المادية الدافعة، والمتعرّي من الحركي الملموس، لغة نحتاج إلى استظهارها والتماهي مع كونها أسمى من مجرد تنغيمات جوفاء، أو تنويعات ذات آلية معيّنة، لغة تتعاطى مع الحالة المزاجية والموقف والفعل، وتنغمرُ في أقصى بقعة داخل الإنسان لترفعه إلى مرتبة روحية.
يصنِّف الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور الموسيقى على أنها أرقى الفنون، يحرِّرها من المادي ويفصّلها على أنها شيء كوني، ويقول عن الموسيقى في كتابه الأهم “العالم إرادة وتمثّلًا”:
“إن مسألة المقارنة بين الموسيقى والعالم، وهو الجانب الذي يبدو فيه موقف الموسيقى بالنسبة إلى العالم أشبه بصورة أو نسخة مكرَّرة، هي مسألة غامضة للغاية. لطالما مارسَ الناس الموسيقى دون أن يكونوا قادرين على تفسير هذا الأمر، ولأنهم ظلوا قانعين بفهمهم لها على نحو مباشر، فقد تخلّوا عن التفكير في أي تصور مجرد يمكن أن يفسِّر لنا هذا الفهم المباشر ذاته”.
فيلم المخرج ليوس كاراكس هو سؤال عن ماهية الموسيقى كشيء كوني، يحوي العالم بين نوتَتين، كممارَسة للمقدَّس، وتطويعه لتلك الهالة الخرافية من أجل تحفيز نوع من المكاشفة، وتعرية العالم وإدراكه في سوءاته ومثالبه.
إن الفيلم الغنائي في العموم ممارسةٌ للمقدَّس والروحي من قِبَل الجسدي والمادي، هو إخضاع الموسيقى وتشكيلها كلغة حكي، والمزج بينها وبين لغة ما بعد حداثية مكسَّرة ومحطَّمة ولكنها أليَق وأقرب إلى ذلك العالم المزيَّف من شِعر مرتَّب أو نثر متكلِّف. إنه محاولة للمكاشفة ولكن بطريقة تجلي مناطق مختلفة، غير معروفة، بطُرقٍ غريبة ولكنها قريبة من المتلقّي حتى لو كانت غريبة عنه، سيشعر بألفة الحكاية ولكنه لا يعرف آخرها، ولن يفكّ شيفراتها إلا في النهاية.
يَبرُم كاراكس عقدًا مع المشاهد في بداية الفيلم، يؤسِّس وفقًا لذلك العقد أو الاتفاق عالمَه داخل الفيلم، بما ينصُّ على أن كل ما يدور داخل الفيلم هو محض تخيُّل جامح، وهذا ينافي البنية الكلاسيكية المعهودة، لأنه يصنع نوعًا من المفارقة بحيث تناقض الافتتاحية كبنية تأسيسية لما يليها من الأحداث، ولكن هذا لا يؤثِّر على السرد بشكل ظاهري، لأنه يكسر الجدار الرابع الذي يفصل بينه وبين المتلقي على الجهة الأخرى.
ويتبدى المشهد الافتتاحي أشبه ببوابة فاصلة بين عالمَين، كأن كاراكس يغري المشاهدين بدعوة لخوض التجربة، من خلال الكشف عنها قبل بدايتها في صورة أغنية تبدأ بجملة استفهامية “هل يمكننا البدء؟”، يتبعها عدة جُمل مفتاحية مهمة ولكنها مبهَمة في بداية الفيلم، ويلفّها نوع من السخرية الذي يطول الفن والمشاهدين وكل العالم تقريبًا.
لا يكتفي كاراكس بكسر الحائط الرابع، بل يظهر في الافتتاحية كجزء من المشهد ليزيد الغموض، ويبثّ اضطرابًا في التفريق بين ما هو حقيقي وما هو تمثيل، بين ما هو فني وما هو واقعي.
يدور فيلم “آنيت” (Annette) حول علاقة مؤدّي العروض الكوميدية (Stand-Up Comedy) هنري مكهنري (الممثل آدم درايفر) بفنانة الأوبرا الشهيرة آن ديفرانو (الممثلة ماريون كوتيار)، وكيف تتطور تلك العلاقة من حبٍّ مطلق غير مشروط إلى غيرةٍ وضيعة، وقد استُلهم الفيلم من ألبوم فرقة Sparks الموسيقية، الذين كتبوا الأغاني وساهموا في جزء كبير من الفيلم.
كالعادة، يتعمّد كاراكس أن يصنع بُعدًا جديدًا، خارج الزمان والمكان، من خلال خلق منطقة رمادية، يدمج فيها ما هو واقعي بما هو خيالي، كابنٍ غير شرعي لما هو طبيعي وقابل للتصديق والتحقُّق، وما هو صناعي، خيالي، ميتافيزيقي، وهذا ليس بجديد على كاراكس الذي يُحبُّ صناعة أفلامه على هذه الشاكلة، والتي كان آخرها فيلم “محركات آلية” عام 2012، الذي أسّسَ بنيته على الوهم، معتمدًا على تغييب الوعي بما هو حقيقي أو معلوم، ليأتي هنا مرة أخرى ويعيد السؤال نفسه، هل يمكننا التفريق بين ما هو حقيقي وما هو مجرد كذبة؟
الجمهور
يظهر الجمهور كعنصر أساسي وفعّال في فيلم “آنيت”، ويتبدى كشخصية رئيسية واحدة متماسكة تخضع لتغيُّرات وتأثيرات العالم الموازي لها، وهو عالم الشهرة والفن الذي لا تستطيع أن تتواجد فيه ولكنها تخلقه بإرادتها ووعيها الجمعي، لضرورة وجوده كركن مهم في العالم، تستمتع به وتسير بمحاذاته دائمًا.
كما لا تكتفي بالوقوف على الجهة الأخرى، بل تشارك السؤال والصيحات وتُلقي الطماطم وتملأ القاعات وترفع اليافطات وتتعاطف وتكره، هكذا هو الجمهور في فيلم “آنيت”، يلوح مثل كتلة واحدة لها ضمير ووعي.
في الجهة الأخرى، على الفنان أن يذبح نفسه على المسرح قربانًا للجمهور، واهبًا نفسه ومقدِّمًا فروض الولاء والطاعة، مانحًا إياهم النشوة الذين يأتون من أجلها؛ لذا الجمهور كان رمزًا للأمّ التي تقتل أبناءها لأنهم لا يودّون السير على المنهجية التي ترضاها، أو لتأثُّرهم بظروف خارجية، أو حتى لأنهم ببساطة أطفال سيّئين وأخلاقهم فاسدة.
ولهذا السبب العلاقة بين الجمهور والفنان علاقة معقّدة، بيد أنها إسقاط حقيقي على هشاشة الفنان؛ فالجمهور يستطيع أن يصنع منك إلهًا أو شيطانًا، رغم وجود بعض اللحظات التي يتحول فيها الفنان حقًّا إلى نبي، وينسلخ فنّه عن العادي ليصبح مثل عبادة دينية (Cult)، يصير له مريدين متعصّبين من كل الأنحاء.
هذه هي حالة هنري مكهنري، الذي من شدة تعصُّب جمهوره له يرفضون قبوله كإنسان يقع تحت وطأة الضغوطات، وينبذون حقه في قول الحقيقية من وجهة نظره، ولا يقبلون المواجهة إلا عن طريق الصنعة اللفظية والقالب الكوميدي المتطرف والتكوينات الساخرة على المسرح، وبتلك الطريقة يستطيع هنري تفجير الحقيقة دون أن يصرِّح بأنه يعرفها في الأساس، وهذا شيء مريح للجمهور، لأن الكوميديا فنٌّ لا يؤخَذ على محمل الجد.
وعندما سأل الجمهور هنري وهو واقف على المسرح: “لماذا أصبحت مؤدي عروض كوميدية؟”، أجابهم: “لأجرِّد الناس، هذه هي الطريقة الوحيدة لكي أقول الحقيقة للناس دون أن أقتلهم”، وفي تلك اللحظة فقط خلعَ هنري عن نفسه كل الكوميديا والضحك، تجرّدَ منها، بل تحول إلى ضدٍّ لها، ينسلخ عن كونه كاذبًا محترفًا، ويظهر للعالم بطبيعته.
يؤسِّس كاراكس في فيلم “آنيت” سرديته على ثيمة الشهرة، ويصوّرها كبيئةٍ حاضنة لشخصياته الرئيسية؛ كأفراد يحظون بمواهب توفِّر لهم قدرًا هائلًا من الشهرة والجماهيرية، ليتحوّلوا لأدوات ترفيهية أو حتى لرموز فنيّة في أعين المشاهدين.
ويوضّح كاراكس ماهية العلاقة بين الفنان والجمهور، كميثاق يقوم في أساسه على اليومي، أشبه باتصال مؤقّت يتجدَّد باستمرارية عطاء الفنان، ويتوقف بالامتناع عن تقديم هذا العطاء بالشكل الذي يرضي الجماهير، لتلوح كعلاقة نفعية بحتة، كأنه يعيد للأذهان مقولة الفيلسوف الاقتصادي جون ستيوارت ميل، حينما كان يلخّص فلسفته النفعية في جملة “أعظم خير لأكبر عدد من الناس” (The greatest amount of good for the greatest number of people).
هكذا ينظر الجماهير في فيلم “آنيت” إلى أيقوناتهم الفنية، كأدوات نفعية تساعدهم على العيش، ولكنهم على النقيض لا يأبهون لأولئك الفنانين على المستوى النفسي أو الجسدي، كحيوان نهم يودّ المزيد من اللحم لكي يعيش، لا تحرّكه إلا غريزة البقاء.
آنيت
تسير العلاقة بين آن وهنري على نحو جيد، حتى تلدُ آن الطفلة آنيت، والتي على نحو مثير للسخرية تولد من بطن أمها دميةً، بيد أن والدَيها والعالم كله يتعامل معها كطفلة طبيعية من لحم ودم، وهذا يعيدنا لنقطة تغييب الوعي بالحقيقي والترسيخ لما هو غير منطقي، لأن الطفلة آنيت لا تمثِّل مجرد دمية، بل تمثِّل زيف الدوائر الاجتماعية التي تقوم على الشهرة، وتظهر الدمية أو الطفلة كنتاج لزواج طرفَين مختلفَين في منهجية العمل وطبيعة تقديم الفن.
إذ نرى أن هنري صدامي في تقديم فنه، يبتعد عن نمطية العروض الكوميدية المعهودة، ويفتح آفاق جديدة لتقديم الضحك، وهو الضحك على المأساة، وتطويع الحقائق كنكات يمكن الضحك عليها، ويتمثل كنموذج ذكوري من الدرجة الأولى، يظهر في عروضه في هيئة بطل ملاكمة يرتدي بذلة يفتحها في منتصف العرض ويظهر جسده الفتي، فيبدو مثل لاعب ملاكمة يستعرض مهارته على المسرح، موجِّهًا اللكمات يمينًا ويسارًا للحضور بينما يضحكون عليه، إنه كما يصف نفسه قاتل للجمهور.
بينما آن ديفرانو تبدو كبريق ملائكي، تمتازُ بصوت سماوي وجسد رقيق وابتسامة جذابة، لا تلقي بكلمة في غير مكانها، عندما تصعد على المسرح تسطع نورًا، إنها شيء شبه كامل، تصدح في عروض الأوبرا وتبذلُ نفسها كضحية من أجل الجمهور، وإذا كان هنري يقتلهم بكلماته، فإنها على حسب قولها تموت من أجلهم، صوتها يخفّف عنهم، ويردُّ لهم قيمتهم كبشر.
هذا الشعور بالنقص والتضاؤل الذي تسبِّبه آن لهنري، ليس لأنها تود أن تشعره بالنقص، بل لأنها كشيء مثالي في نظر هنري، لا بد أن ينمحي في عالم مدنَّس وبيئة آثمة مثل هذه البيئة، إنها تلوح من بعيد كنقيض له، كشيء يهدم وجوده الفني، وهذه الهالة الوضّاءة التي تلحق بها في كل مكان، جعلته يتساءل أمام الجميع على المسرح “هل أستحق أن أكون زوجًا لآن وأبًا لآنيت؟”.
وعلى إثر ذلك تنحلّ شخصية هنري، تثيره تلك المثالية وتستفزّ ذكوريته، ليخبو ضياء الحب من حياته، ويتحول إلى غيرة وكراهية للذات وحقد على النجاح، وتستمر الصراعات الفلسفية برتم سريع، تتصاعد ذروة ثم تخبو، لتظهر الحقيقة في النهاية، ويكتشف أنه كان يسير بإرادة عمياء ليست إرادته، بل تأثير هالة الشهرة والحياة الفنية على حياته هي ما أوصله إلى ذلك الجفاء، أنه أجوف من الداخل، لا يملك شيئًا.
وفي المشهد الأخير فقط، سيكتشف أنه لم يكن يرى الأشياء على الإطلاق، أعمته الأضواء واستحوذت عليه مشاعره الساخطة، والحقيقة أنه خسرَ كل شيء، حتى ابنته، ليبدو العمل الفني في النهاية كعمل ثوري، يجمع بين كل شيء، ويسخر من كل شيء، ويمحو ذلك الخط المادي الذي يضمن لنا وجودنا في العالم الحقيقي، ويلجُ بنا داخل عالم مرعب، لا توجد فيه حقيقة أو خيال، كل ما هو موجود هو تظاهرات بالحياة.