قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تصريحاته التي أدلى بها في أعقاب مقتل النائب العام السابق، هشام بركات، على أيدي مسلحين، في يونيو/حزيران 2015، إن المحاكم والقوانين العادية لا تكفي للتصدي للجماعات العنيفة، داعيًا إلى “العدالة الناجزة”.
كان التحرك سريعًا من البرلمان الذي بدأ على الفور مناقشة وإقرار حزمة من التعديلات الجوهرية على أربعة قوانين هي: اﻹجراءات الجنائية، وحالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض، ومكافحة اﻹرهاب، وقوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، استنادًا إلى توصية الرئيس الذي صادق على تلك التعديلات في 2017.
كان الهدف المعلن من تلك التعديلات هو تسريع إجراءات التقاضي لمواجهة الإرهاب، لكن مختصين أشاروا إلى أن الهدف الأبرز كان القفز على حقوق المتهمين في تحقيق العدالة الكاملة والتمتع بحقوقهم القانونية في الدفاع عن أنفسهم ومحاولة الزج بهم تحت مقصلة الإعدام في أقصر وقت ممكن، تحقيقًا لعدد من الأهداف السياسية والشعبوية.
يبدو أن صبر السلطات المصرية حيال إجراءات التقاضي القانونية التي تكفل للمتهم حقه في الزود عن نفسه، المقرة في كل القوانين والأعراف الدولية، قد نفد بصورة كاملة، ومن ثم كان البحث عن الخيار الأسهل والأسرع، حيث التخلص من المتهمين – وفي المقدمة منهم المعارضون السياسيون – بأي وسيلة، فيما يُعرف حقوقيًا باسم “القتل خارج إطار القانون”.
القتل خارج القانون هو “عمليات القتل التي ترتكبها سلطات الدولة خارج الإطار القضائي أو القانوني”
في تقرير لها أصدرته اليوم 7 من سبتمبر/أيلول 2021، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن عناصر الشرطة وقطاع الأمن الوطني التابعين لوزارة الداخلية المصرية قتلوا في السنوات الأخيرة عشرات “الإرهابيين” المزعومين في جميع أنحاء البلاد في إعدامات غير قانونية خارج نطاق القضاء.
المنظمة وثقت من خلال شهود عيان وأدلة مرئية موثقة أن المتهمين الذين قتلوا فيما يسمى “اشتباك مسلح” “لم يُشكّلوا، في حالات كثيرة، خطرًا وشيكًا على قوات الأمن أو غيرها عندما قُتلوا، وبعضهم كانوا أصلًا محتجزين” في دلالة تحمل إصرارًا ونيةً مبيتةً على الإطاحة بهم من سلطات الأمن بعيدًا عن أروقة المحاكم وساحات التقاضي طويلة الأمد.
ويُعرف “القتل خارج القانون” بأنه “عمليات القتل التي ترتكبها سلطات الدولة خارج الإطار القضائي أو القانوني”، ويعد انتهاكًا لحقوق الإنسان بموجب الحرمان التعسفي من الحق في الحياة حسب المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تجرم تلك الممارسات حتى في الظروف الاستثنائية بما في ذلك حالة الحرب أو التهديد بالحرب أو عدم الاستقرار السياسي داخل البلاد.
تحت ستار تبادل إطلاق النار
المنظمة في تقريرها الصادر في 80 صفحات بعنوان “تعاملت معهم القوات: عمليات قتل مشبوهة وإعدامات خارج القضاء على يد قوات الأمن المصرية”، كشفت أن حالات القتل بعيدًا عن ساحات التقاضي زادت بصورة كبيرة بعد تصريحات السيسي في 2015.
وقد استندت المنظمة الحقوقية في تقريرها على دراسة حالات 14 شخصًا كانوا من بين 75 رجلًا قُتلوا في تسع من تلك الحوادث في دلتا وصعيد مصر خلال السنوات الأخيرة، لافتة إلى أنه لم يُعتقل أي مشتبه به في تلك الحوادث التسعة، ولم تقع إصابات بين عناصر قوات الأمن.
وقابلت “هيومن رايتس ووتش” 13 شخصًا من أقارب ومعارف المقتولين في مواجهات مسلحة مع قوات الأمن، بجانب عدد من المحامين والنشطاء والإعلاميين الذين وثقوا تلك العمليات، فقد أشاروا إلى أن بعض الضحايا كان قد قبض عليهم بواسطة الأمن الوطني واحتجازهم قبل الإبلاغ عن مقتلهم، فيما قالت 8 عائلات إنها شهدت هي أو أصدقاؤها أو معارفها اعتقالهم، وأفاد الشهود أن أقاربهم تم إخفاؤهم قسرًا وإنهم استفسروا رسميًا عن مكانهم قبل مقتلهم.
فيما قالت 8 عائلات إنهم اكتشفوا علامات تعذيب على أجساد ذويهم بعد تسلمهم من المشرحة، مثل الحروق والجروج والعظام المكسورة والأسنان المخلوعة، فيما عرِفت عائلات جميع الضحايا عادة بوفاة أقاربها من وسائل الإعلام، باستثناء واحد، اضطرت عائلته أن تسعى حثيثًا لإيجاد معلومات عن الوفاة وموقع الجثة.
رصدت منظمة “هيومن رايتس مونيتور” في تقرير لها إزهاق أرواح 100 شخص خارج القانون في مصر خلال الأشهر الثلاث الأولى من عام 2020
وتقول المنظمة إنها راجعت واشتركت في تحليل جنائي مستقل لصور ومقاطع فيديو غير رسمية تُظهر جثث خمسة من القتلى، وكذلك عشرات الصور التي نشرتها وزارة الداخلية لحادثتَيْ إطلاق نار مزعومتَين، في ثلاث وقائع “اشتباكات” مزعومة، لم يتسق التحليل مع رواية إطلاق النار. تُظهر صور ثلاث رجال متوفين أن أياديهم كانت إما مُقيّدة وإما مكبّلة بالأصفاد خلف ظهورهم مباشرة قبل الوفاة”.
وذكرت بيانات وزارة الداخلية المصرية أن “نيابة أمن الدولة العليا تتولى التحقيق في تلك الحوادث”، إلا أن المنظمة أشارت إلى أنها لم تجد ما يشير إلى أن السلطات فتحت أي تحقيقات جادة أو ذات مغزى في أي من الحوادث، ولم يُستدع أي من أفراد العائلات لتقديم إفادته، مطالبة النائب العام المصري، حمادة الصاوي، باستبعاد نيابة أمن الدولة العليا من الإشراف على التحقيقات المتعلقة بسلوك قوات الأمن وانتهاكاتها، لما يثار حولها من شكوك وافتقاد للأدلة.
نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة، جو ستورك، علق على تلك الجرائم قائلًا: “منذ سنوات وقوات الأمن المصرية تُنفّذ إعدامات خارج القضاء، مدعية أن الرجال قُتلوا في تبادل لإطلاق النار. حان الوقت للدول التي تُقدم الأسلحة والمساعدة الأمنية لمصر أن توقف هذه المساعدة وتنأى بنفسها عن هذه الانتهاكات المروعة”.
وخلص التقرير إلى ضرورة فرض شركاء مصر الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، عقوبات محددة الهدف، تشمل تجميد الأصول ضد المسؤولين والأجهزة المصرية ذات المسؤولية الكبرى عن الانتهاكات الحقوقية الجسيمة، وكذلك ضد المسؤولين عن استمرار الإفلات من العقاب على هذه الانتهاكات، كما طالبت تلك الدول بوقف جميع المساعدات الأمنية والعسكرية ونقل وبيع الأسلحة إلى الحكومة المصرية، واشتراط استئنافها بوقف الانتهاكات الحقوقية الجسيمة، ومحاسبة من تثبت مسؤوليتهم.
100 ضحية في 90 يومًا
رصدت منظمة “هيومن رايتس مونيتور” في تقرير لها إزهاق أرواح 100 شخص خارج القانون في مصر خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020، داعية العالم إلى التضامن مع المعتقلين السياسيين داخل السجون المصرية لما يتعرضوا له من تعذيب ممنهج وقتل بالبطيء.
المنظمة أحصت خلال الـ90 يومًا الأولى من العام الماضي وفاة 29 من المعتقلين في السجون المصرية المختلفة وأقسام ومراكز الشرطة ومراكز تدريب الداخلية، من بينهم 3 حالات قتل نتيجة للتعذيب، و17 نتيجة للإهمال الطبي المتعمد، و9 حالات قتل بالإعدام.
كما رصدت كذلك 71 حالة قتل برصاص الجيش والداخلية، من بينهم 61 حالة قتل في شمال سيناء، ليصبح عدد من قُتلوا خارج إطار القانون خلال تلك الفترة هو 100 شخص، وهو العدد الأكبر قياسًا بمعدلات القتل من هذا النوع المجرم دوليًا في دول المنطقة.
التقرير أشار إلى وجود 66 سجنًا عموميًا في مصر حاليًا بعد بناء 26 سجنًا جديدًا خلال عهد عبد الفتاح السيسي، بالإضافة إلى وجود 320 مقر احتجاز داخل أقسام ومراكز للشرطة، هذا بخلاف مقرات الاحتجاز السرية التي في الغالب تكون بعيدة عن أعين الإعلام والمراقبين.
ظاهرة ممنهجة
عشرات الحالات للقتل خارج القانون نفذتها السلطات المصرية خلال السنوات السبعة الماضية، بعضها تحول إلى قضية رأي عام، منها مقتل المواطن عويس عبدالحميد الراوي (38 عامًا) الذي يعمل موظفًا في المستشفى الدولي بالأقصر (جنوب)، وأب لطفلين وثالث منتظر ولادته، أمام منزله، على يد ضابط في قوة أمنية من المباحث والأمن المركزي.
الجريمة هزت صعيد مصر بالكامل في ظل محاولات التستر على الضابط القاتل، فقد شددت قوات الأمن الحصار على القرية في محاولة لتجنب أي رد فعل عنيف، خاصة بعد إصرار شقيق ووالد الضحية على القصاص والحصول على حق ابنهم المغدور.
وفي نوفمبر/تشرين ثاني 2018، اتهم عضو مجلس نقابة المحامين، محمد عبد العظيم كركاب، رئيس مباحث بلبيس بمحافظة الشرقية، بـ”تصفية” المحامي أحمد السيد نعمة الله موسى حسن (33 عامًا)، مع اثنين من موكليه، وذلك بحسب تصريحاته لموقع “مدى مصر“.
لقد أدّى الاعتراض على عقوبة الإعدام في مصر إلى تراجع الإعدامات، لكنه دفع بالقوى الأمنية إلى اللجوء بصورة متزايدة إلى الإعدام خارج نطاق القضاء والإخفاء القسري
وكانت وزارة الداخلية قد أعلنت في أغسطس/آب من نفس العام، مقتل مُسلحين اثنين بعد تبادل لإطلاق النار داخل شقة سكنية بمنطقة الخصوص في محافظة القليوبية، كانت قوات الشرطة قد داهمتها، وبحسب البيان الرسمي للداخلية فإنها قد اشتبهت في وجود عناصر مسلحة منتمية لحركة “حسم” داخل الشقة السكنية، وعليه كان الهجوم بصرف النظر عن دقة المعلومات التي كانت بحوزتها عن الموجودين بالشقة.
الأمر تكرر بالكربون في يوليو/تموز 2017، حين صفت قوات الأمن أربعة أشخاص قالت إنهم متهمون بالتورط في حادث الهجوم على القوة اﻷمنية بالبدرشين في منتصف الشهر ، وأشارت الداخلية في بيانها أن القتل جاء نتيجة تبادل لإطلاق النار.
وفي الشهر ذاته أعلنت الوزارة مقتل 8 أشخاص في محافظة الفيوم لنفس السبب المعلن سابقًا (تبادل إطلاق النار) هذا بخلاف مقتل أحد عناصر حركة “حسم” خلال مداهمة لمسكنه في منطقة المرج شمال القاهرة، ويدعى” أحمد محمد عمر سويلم”، فقد أشارت الداخلية إلى أنه متهم بالمشاركة في عدة حوادث اعتداء، من بينها الهجوم على قوة أمنية في مدينة نصر في اﻷول من مايو/أيار الماضي.
الخيار السهل والأسرع
“لقد أدّى الاعتراض على عقوبة الإعدام في مصر إلى تراجع الإعدامات، لكنه دفع بالقوى الأمنية إلى اللجوء بصورة متزايدة إلى الإعدام خارج نطاق القضاء والإخفاء القسري”.. بهذه الكلمات استهل المحلل السياسي، ماجد مندور، تعليقه على حالات القتل خارج إطارق القانون التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة، وذلك في مقاله المنشور على موقع “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”.
الكاتب أشار إلى تصاعد الاستياء الدولي عقب تنفيذ حكم الإعدام في العشرين من فبراير/شباط 2019، بحق 9 متهمين باغتيال النائب العام هشام بركات، في ضوء الاتهامات الحقوقية بغياب العدالة في أثناء إجراءات التقاضي واللجوء إلى التعذيب لانتزاع الاعترافات، الأمر الذي مثل ضغطًا كبيرًا على السلطات المصرية، ووضعها في موقف حرج دوليًا.
وفي محاولة للهروب من هذا المأزق، لجأت السلطات إلى البحث عن وسائل أخرى – غير الإعدام بحكم قضائي – تحقق بها الهدف ذاته وهو التخلص من المعارضين، فاعتمدت بصورة متزايدة على التصفيات المنهجية والإهمال الطبي في مراكز الاحتجاز خلال فترات الحجز المطوّلة من دون محاكمة، بحسب مندور.
إن كانت المواثيق الدولية ترسخ لمبدأ أن الحق في الحياة هو حق إنساني متأصل غير قابل للمساومة، حتى في أوقات النزاع المسلح أو حالات الطوارئ، فإن الوضع في مصر يسير عكس عقارب الساعة
المقال كشف اعتماد النظام الحاكم في مصر على ممارسات الإخفاء القسري كإحدى أدوات التصفية والتخلص من المعارضين تحديدًا، مستشهدًا بالإحصاءات الواردة عن مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، الذي أشار إلى تسجيل 464 حالة اختفاء قسري في العام 2015، وارتفع العدد إلى 980 حالة في العام 2016.
كما لوحظ في الآونة الأخيرة تراجع وتيرة أحكام الإعدام المنفذة فعليًا رغم زيادة أعداد الأحكام، وهو ما يرجح فرضية اللجوء إلى التصفيات بطريقة ممنهجة بعيدًا عن الإعدام الرسمي، فمن أصل نحو 600 حكم بالإعدام صدر في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2018، لم يُنفَّذ إلا 32 حكمًا.
وفي المقابل زادت حالات القتل خارج إطار القانون بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية المصرية، التي كشفت أنه خلال الفترة من الأول من يوليو/تموز 2015 و31 من ديسمبر/كانون الأول 2018، تم قتل 465 “متشددًا” مشتبهًا بهم خلال تبادل إطلاق النار.
وقد فند بعض شهود العيان روايات الداخلية بشأن حدوث عمليات التصفية خلال تبادل لإطلاق النار، لافتين إلى أن تلك الرواية ملفقة، مؤكدين أن الصور والمقاطع المرئية التي تبثها السلطات المصرية لتفاصيل تلك العمليات لا تتطابق مع روايات الأجهزة الأمنية والحقوقية التي تؤكد أن القتل تم على مسافات قريبة ثم تم نقلهم بعد الوفاة إلى أماكن أخرى للتصوير.. بحسب المحلل السياسي المصري.
إن كانت المواثيق الدولية ترسخ لمبدأ أن الحق في الحياة هو حق إنساني متأصل غير قابل للمساومة، حتى في أوقات النزاع المسلح أو حالات الطوارئ، فإن الوضع في مصر يسير عكس عقارب الساعة، ليقبع الإنسان في ذيل قائمة الاهتمامات، في ظل انشغال المجتمع الدولي عن واجباته الإنسانية لحساب أجندات أخرى، الأمر الذي أعطى الأنظمة الديكتاتورية الضوء الأخضر لممارسة بطشها دون قلق من محاسبات أو مراجعات.