بعد يوم واحد من زيارة وفد الكونغرس الأميركي إلى تونس، والتي أثارت جدلًا واسعًا في الداخل، أصدرت مجموعة السبع للاقتصادات المتقدمة بيانًا مشتركًا دعت فيه الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى تعيين رئيس جديد للحكومة “على وجه السرعة”، والعودة إلى النظام الدستوري.
دعوة الدول الغربية تأتي في سياق الضغوط الدولية التي تُمارَس على الرئيس التونسي قيس سعيّد للعودة إلى المسار الديمقراطي، باعتباره المنجز الثوري الوحيد لما بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وهي دعوات تعبِّر بشكل واضح عن مواقف الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، التي عبّرت عن قلقها ممّا يحدث في تونس.
بيان الدول السبع
أصدرَ سفراء مجموعة الدول السبع في تونس بيانًا، طالبوا فيه الرئيس قيس سعيّد بالعودة إلى النظام الدستوري، واحترام الحقوق والحريات في البلاد، التي تشهد انقلابًا على الحكومة والبرلمان منذ 25 يوليو/ تموز الماضي.
وشدّد البيان الذي أوردته سفارة ألمانية بتونس على صفحتها الرسمية بموقع فيسبوك، على التزام الدول السبع الكبرى بدعم مساعي تحقيق مستوى معيشي أفضل في تونس، وإرساء حوكمة تتّسم بالنزاهة والفعالية والشفافية، مضيفًا: “نحثّ في هذا المضمار على سرعة العودة إلى نظام دستوري يضطلع فيه برلمان منتخَب بدور بارز”.
وجاء في نص البيان أيضًا: “كما نؤكد على الحاجة الماسّة لتعيين رئيس حكومة جديد؛ حتى يتسنّى تشكيل حكومة مقتدرة تستطيع معالجة الأزمات الراهنة التي تواجه تونس على الصعيد الاقتصادي والصحي، وهو ما من شأنه أن يفسح المجال لحوار شامل حول الإصلاحات الدستورية والانتخابية المقترحة”.
ودعا بيان مجموعة الدول السبع، التي تضمّ كل من ألمانيا وكندا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة، إلى الالتزام العام باحترام الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لجميع التونسيين، وباحترام سيادة القانون، كما ذيّلت مجموعة السبع بيانها بتأكيدها على أن “القيم الديمقراطية ستظلّ محورية في علاقات هذه الدول مع تونس”.
قراءة في البيان
البيان الذي نشرته السفارة البريطانية في تونس على وسائل التواصل الاجتماعي، يؤكد في صيغته ومحاوره أن الموقف يعدّ أهم تعبير علني عن عدم الارتياح من قبل الديمقراطيات الكبرى، لما يدور في الساحة التونسية منذ سيطرة الرئيس قيس سعيّد على سلطات الحكم في 25 يوليو/ تموز الماضي، في خطوات وصفها خصومه السياسيين بانقلاب.
وهي أيضًا تعبير صريح عن مخاوف الغرب من انحراف تونس عن المسار الديمقراطي والانتقال السياسي على بطئه وتعقيداته، ومن استئثار الرئيس التونسي بالسلطة وعودة الديكتاتورية من خلال إلغاء الأحزاب وأدوار منظّمات المجتمع المدني، على اعتبار أن وجودها صمّام أمان أمام عودة حكم الفرد.
في السياق ذاته، يكشف التحليل الكيفي والموضوعي للبيان أن الدول الغربية ضمنت بشكل غير مباشر خارطة الطريق التي يجب على قيس سعيّد طرحها في القريب العاجل، والتي يجب أن تتضمّن خطوات محدَّدة أهمها عودة البرلمان واحترام الدستور التونسي والحريات العامة، في إشارة إلى الإجراءات الاستثنائية كمنع السفر وفرض الإقامة الإجبارية على السياسيين ورجال أعمال دون حكم قضائي، وتشكيل حكومة بشكل عاجل لمعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
أدوار الحكومة بحسب بيان مجموعة الدول السبع لم يقتصر على معالجة أهم الملفات الاقتصادية والاجتماعية، بل سيُناط بعهدتها الإشراف على حوار شامل حول الإصلاحات الدستورية والانتخابية في حال اقترح ذلك رئيس الجمهورية، ما يعني أن الأحزاب والمنظمات سيكون لها دور فاعل مستقبلًا بخلاف ما يرنو إليه سعيّد.
الأهم ممّا سبق ذكره، إن البيان أشار إلى نقطة هامة وهي روح موقف الدول الغربية من الأزمة التونسية، فالقول إن “القيم الديمقراطية ستظل محورية في علاقات هذه الدول مع تونس”، يوحي بأن الديمقراطية وضمان الانتقال السياسي واحترام الدستور هي شروط أساسية في تعاملها مع تونس، وعلى سعيّد أن يعي ذلك جيدًا في حال أراد الحصول على ضمانات لدعم خطواته القادمة، فالديمقراطيات الغربية كانت من بين أهم المانحين الذين ساعدوا في دعم المالية العامة التونسية على مدى العقد الماضي، مع تراجع الاقتصاد منذ ثورة 2011.
وفد الكونغرس والضغوط الخارجية
قبل يومَين، التقى وفد من الكونغرس الأميركي يترأّسه رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي، بمجموعة من ممثّلي البرلمان التونسي المعلّق منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، ضمَّ كل من حزب النهضة وحزب قلب تونس وحزب تحيا تونس ونائب من المستقلين.
وجاءت زيارة الوفد الأميركي يومَي 4 و5 سبتمبر/ أيلول، في سياق ما وصفوه بـ”حماية للمسار الديمقراطي في البلاد”، بعد نحو 40 يومًا من الحالة الاستثنائية، والاستماع إلى الفاعلين السياسيين في تونس قصد بلورة موقف واضح ممّا يحدث على الأرض.
وقالت السفارة الأميركية في بيان لها إن “السيناتور ميرفي والسيناتور أوسوف شدّدا خلال هذه اللقاءات على أن واشنطن تشارك الشعب التونسي هدفه المتمثِّل في حكومة ديمقراطية تستجيب لاحتياجات البلاد، في الوقت الذي تكافح فيه أزمات اقتصادية وصحية، وحثّ الوفد على العودة إلى المسار الديمقراطي واعتماد أي إصلاحات من خلال عملية شاملة، بما في ذلك مشاركة ممثلي الطيف السياسي التونسي وأعضاء المجتمع المدني”.
في الجانب ذاته، رغم حرص الأميركيين على التعامل بحذر مع خطوات سعيّد وإجراءاته الاستثنائية، التي خرقت الدستور التونسي وفق تقديره وقراءته الشخصية للمادة 80، فإن تحركات واشنطن عبر قنواتها الدبلوماسية الناشطة تؤكّد أن الولايات المتحدة حريصة على وضع حدود لا يقدر الرئيس التونسي على تجاوزها.
فزيارة وفد الكونغرس هي الثانية بعد وفد أميركي ضمَّ كلًّا من النائب الأول لمستشار الأمن القومي، جوناثان فاينر، والقائم بأعمال مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، جوي هود، الذي اجتمع بسعيّد في وقت سابق وناقش معه الحاجة الملحّة إلى تعيين رئيس وزراء مكلّف، بهدف تشكيل حكومة قادرة على معالجة الأزمات الاقتصادية والصحية التي تواجه تونس.
كما بعث الرئيس الأميركي جو بايدن رسالةً لسعيّد مع الوفد الأميركي، أكّد فيها على دعمه الشخصي ودعم الإدارة الأميركية للشعب التونسي، وحثَّ على “العودة السريعة إلى مسار الديمقراطية البرلمانية في تونس”.
في غضون ذلك، ولئن كانت رسائل الولايات المتحدة لا تتضمن أي رفض أميركي صريح لخطوات سعيّد وقراراته، فإنها تعطي إشارات واضحة بأن على قيس التحرك سريعًا لإثبات حسن نيته فيما يخص المحافظة على المسار الديمقراطي التعددي في البلاد، واحترام الحريات وحقوق الإنسان.
تماهى الضغط الأميركي إلى حدٍّ بعيد مع الضغوط الفرنسية بشأن تعيين رئيس حكومة في أسرع الوقت، لكنه كان أقل كثافة وأكثر حذرًا قبل أن يرتقي إلى أعلى مستوى بعد الاتصال بين الرئيسَين الفرنسي والتونسي.
ففي 28 يوليو/ تموز، دعا وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، إلى “تعيين رئيس وزراء جديد على وجه السرعة، وتشكيل حكومة تلبّي تطلعات التونسيين”، مشدّدًا في اتصال مع نظيره التونسي عثمان الجرندي، على ضرورة “الحفاظ على الهدوء وسيادة القانون بالبلاد، من أجل عودة المؤسسات الديمقراطية (البرلمان) إلى عملها الطبيعي بشكل سريع”.
تضاعف هذا الضغط عندما اتّصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسعيّد، في 7 أغسطس/ آب الماضي، حيث أشار بيان الإليزيه إلى أن الرئيس التونسي تعهّد لماكرون “بتقديم خارطة طريق للمرحلة المقبلة وبأسرع وقت”.
أدوات الغرب
بعد إقدام الرئيس التونسي، الذي انتُخِبَ عام 2019، في 25 يوليو/ تموز الماضي على تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه وإقالة رئيس الوزراء، وإعلانه تولّي السلطة التنفيذية واعتزامه تعيين رئيس وزراء جديد بنفسه، وتعهّده بأن إجراءاته لن تمسَّ الحقوق والحريات، فشل سعيّد بعد 6 أسابيع في تسمية رئيس الوزراء ولم يطرح خارطة طريق، بل مدّد إجراءات الطوارئ لأجل غير مسمّى، ما عزّز مخاوف الغرب من أن سعيّد سيحيد عن المسار الديمقراطي.
في هذا الصدد، يُمكن القول إن الغرب ينظر إلى تونس مهد الربيع العربي على أساس الأنموذج الناجح نسبيًّا في المنطقة لذلك يجب دعمه، وهي استراتيجية تتحرك من خلالها الدول الأوروبية وأميركا التي ترجّح نظريًّا الحفاظ على استقرار المنطقة (شمال إفريقيا) على الالتزام بالخطاب التقليدي المؤيّد للديمقراطية.
أمّا فيما يتعلق بالأدوات التي يحوزها الغرب لفرض توصياته على الرئيس التونسي فهي كثيرة، وأهمها يكمن في ربط العودة للمسار الديمقراطي والالتزام بالقانون بتلقي تونس المساعدة من صندوق النقد الدولي، وهي الآن قيد التفاوض.
فعمليًّا الوضع في تونس هشّ إلى أبعد الحدود على جميع المستويات الاجتماعية والصحية والاقتصادية بسبب حجم الديون المترتِّبة عليها، والمقرر دفع جزء منها قبل نهاية عام 2021، ناهيك عن تعثُّر مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة جديدة من الديون.
منطقيًّا، سيجد الرئيس التونسي، في حال لعبت الدول الغربية بورقة الاقتصاد، هامشًا ضئيلًا جدًّا للمناورة، فهو لا يمتلك قوى داعمة قادرة على تمويل مغامرته السياسية كما فعل السيسي في مصر، الذي وجدَ في الخليج العربي بديلًا عن القوى الكبرى.
لذلك من غير المستبعد أن تكون الضغوط الأميركية والأوروبية على تونس مؤثرة جدًّا، إذ إن أكثر من 60% من التجارة الخارجية التونسية تتمّ مع دول الاتحاد الأوروبي فقط، في حين تقدِّم الولايات المتحدة الأميركية دعمًا ماليًّا وعسكريًّا ولوجستيًّا ليس بالهيّن.
من جهة أخرى، إن واشنطن هي الجهة الوحيدة القادرة على إنقاذ الاقتصاد التونسي في الوقت الراهن، ليس بفضل المبادلات التجارية كما يتصور البعض، ولكن بفضل ضمانات القروض التي تمنحها لها واشنطن، والتي تمكّنها من الحصول على قروض بنكية من الأسواق الدولية بفوائد مخفّضة.
وعليه إن رفع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية أيديهما عن تونس وتخفيض دعمهما المالي سيعمِّق أزمتها الاقتصادية، لذلك من المؤكد أن دائرة حبل انقلاب سعيّد بدأت تضيق شيئًا فشيئًا لتخنق أي أُفُق لإجراءاته وأي مشروع يقدم عليه لاحقًا، لذلك هو مدعو لعدم إضاعة الوقت وحسن إدارة الأزمة لإعادة الأمور إلى نصابها.
حل الأزمة في تونس معقّد إلى أبعد الحدود، نظرًا إلى تنافر القوى السياسية الوازنة وحرص الرئيس على المواصلة قدمًا في مشروعه المتمثّل في العودة إلى دستور 1959 القائم على النظام الرئاسي المطلق، ولن يكون إلّا بفتح حوار مباشر قد يفضي إلى قيام جمهورية ثالثة، وما الأطروحات الأخرى سوى شعبوية فجّة تنادي بسيادة جديدة على عتبات صندوق النقد الدولي، وهي في مجملها حرث في الماء.