رفعت الجزائر من سقف عملها للعودة بالبلاد إلى سابق عهدها أو أكثر دبلوماسيًّا على المستوى الإفريقي والعربي، وذلك بتضمين هذا الهدف ضمن مخطط عمل الحكومة الذي سيُعرَض على البرلمان الجديد الاثنين المقبل، وكذا استحداث مناصب جديدة من قبل الرئيس عبد المجيد تبون التي عيّن على رأسها دبلوماسيين مقتدرين يُشهَد لهم بالكفاءة من جميع الأطراف، وذلك لتبليغ رسالة واضحة للجميع أن الجزائر قد عادت للقيام بدورها الإقليمي الذي تركته يضيع منها خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وفي ظل تعقيد وصعوبة مختلف القضايا عربيًّا وإفريقيًّا، خاصة بالنسبة إلى تلك التي تشكّل أولوية للدبلوماسية الجزائرية كفلسطين المحتلة والصحراء الغربية والأمن في ليبيا والساحل، والحوار المتوسطي، تتبادر الأسئلة إلى المتابعين حول مدى إمكانية تحقيق هذه الأهداف، حتى لو كان على رأس المهمة دبلوماسية محنّك بقيمة رمطان لعمامرة.
استباق
قد تكون المرة الأولى، أو من الحالات النادرة التي يتضمّن مخطط عمل الحكومة في قسمه المتعلق بوزارة الخارجية اهتمامًا واضحًا بالعمل الدبلوماسي، ورسمًا علنيًّا لأهداف الجزائر في هذه السنة، فغالبًا ما كانت تكتفي مخططات الحكومة بالتذكير بمواقف الجزائر من بعض القضايا ودورها في التكتُّلات الدولية التي تنتمي إليها، إضافة إلى جوانب تتعلق بالاهتمام بالجالية الجزائرية المقيمة في مختلف دول العالم.
غير أن هذه المرة رسم مخطط الحكومة مهام وزارة الخارجية بأهداف محدَّدة، فقد جاء فيه أن الحكومة “ستعمل على تكريس سياسة خارجية نشطة واستباقية تهدف إلى إعطاء الجزائر المكانة والدور اللائقَين بها في المحافل الدولية، بشكل يتناسب مع مركزها كقوة إقليمية والالتزام بعقيدتها ومبادئها الأساسية”.
وفي السنوات الأخيرة، كان تعاطي الحكومة مع عدة قضايا دولية مجرد ردود أفعال، دون خطوات مسبقة، وهو ما تسعى وزارة الخارجية إلى التخلي عنه، وذلك بإظهار أنها عادت إلى المشهد الدولي، وقد ظهرت هذه السياسة الاستباقية الخارجية على سبيل المثال في مبادرتها لحلِّ أزمة سد النهضة، واتخاذ قرار قطع العلاقات مع المغرب.
ويحدِّد مخطط الحكومة المبادئ التي سيرتكز عليها النشاط الدبلوماسي، والمتمثلة في “احترام سيادة الدول واستقلالها وسلامتها الترابية، وعدم التدخُّل في شؤونها الداخلية واحترام قواعد حسن الجوار والتسوية السلمية للنزاعات ودعم القضايا العادلة”.
يكشف مخطط الحكومة بصراحة أن الأولوية ستكون “لإفريقيا وتركيز وجودنا وتأثيرنا في دول الجوار في منطقتَي الساحل والمغرب الكبير”.
وتظهر هذه الخطوط التي ترسم الدبلوماسية الجزائرية، في رفضها للتدخُّل الأجنبي والحفاظ على سيادة الدول، ولعلّ أبرز دليل كانت جملة الرئيس تبون الشهيرة بشأن ليبيا عندما حاولت قوات حفتر المدعومة وقتها من قِبل مصر، السيطرة على عاصمة البلاد بالقول إن “طرابلس خط أحمر”.
ويبيّن مخطط الحكومة أن الجزائر ستبني تعاونها الدولي ضمن أبعاد “ثلاثية السيادة والأمن والتنمية، وذلك من أجل الدفاع عن المصالح العليا للأمة والحفاظ على الأمن الوطني واستقلالية القرار وتعبئة الشراكة الأجنبية والتعاون خدمةً لتنمية البلاد”.
ويكشف مخطط الحكومة بصراحة أن الأولوية ستكون “لإفريقيا وتركيز وجودنا وتأثيرنا في دول الجوار في منطقتَي الساحل والمغرب الكبير”، وذلك بترقية التعاون في كل التجمُّعات التي تنتمي إليها الجزائر، والمتمثلة في المغرب الكبير والساحل وإفريقيا والعالم العربي والأمة الإسلامية والفضاء المتوسطي، إضافة إلى تطبيق استراتيجية لدعم حضور الجزائر في الهياكل التنفيذية للمنظمات الجهوية والدولية التي هي عضو فيها لجعلها قوة توازن.
وحتى إن كان هذا التوجه قد تمَّ الفصل فيه في مخطط الحكومة الجديد، إلا أنه كان جليًّا منذ البداية أن الرئيس تبون حريص على توجيه رسالة للعالم، رغم ثقل المشاكل الداخلية التي تعيشها البلاد، أن نظرة الجزائر إلى حلّ القضايا الدولية ستكون وفق رؤيتها الشخصية حتى إن تعارض ذلك مع ما يشهده العالم، وهو ما تمثَّل في موقفها من التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتدخل الأجنبي في ليبيا، وعدم التراجُع عن دعم قضية الصحراء الغربية.
استعانة
لتحقيق هذه الأهداف الكبيرة في ظروف تعرفُ فيها المنطقة العربية والمغاربية والإفريقية تحولات متسارعة، كان على الرئيس تبون الاستعانة بأصحاب الخبرة الطويلة في هذا المجال، وفي مقدّمتهم وزير الخارجية الجديد رمطان لعمامرة، الذي وُضع تحت تصرُّفه 7 مبعوثين خاصين مكلّفين بالنشاط الدولي، وهو التكليف الذي يحدث لأول مرة بشكل محدَّد في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية، والذي أُرفق بإجراء حركة واسعة في السلك الدبلوماسي مسّت أكثر من 70 منصبًا دبلوماسيًّا وقنصليًّا.
وبما أن منطقة المغرب العربي ذات أولوية كبرى، وتعقيداتها تزداد كل يوم، خاصة بعد قطع العلاقات مع المغرب، تمَّ تكليف السفير عمار بلاني بقضية الصحراء الغربية ودول المغرب العربي، وهو الذي شغلَ عدة مناصب منها الناطق الرسمي باسم وزارة الشؤون الخارجية، وكانت آخر مهمة له منصب سفير لدى بلجيكا والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، حيث استطاع أن يقوم بإحراج كبير للمغرب في العاصمة الأوروبية بشأن قضية الصحراء الغربية، واستطاع أن يفنِّد الاتهامات التي كانت توجَّه للمهاجرين الجزائريين ببلجيكا.
وتعرّض بلاني في منصبه ببروكسل لحملات متكرِّرة من طرف نظام المخزن، جرّاء موقفه الداعم لتقرير مصير الشعب الصحراوي، مع العلم أن المعني باشر مهمته الجديدة منذ أيام، حيث لفت حضوره في قمة دول جوار ليبيا أنظار الصحافة.
وتمَّ تكليف أحمد بن يمينة بصفته مسؤولًا عن قضايا الأمن الدولي، وهو الذي شغل منصب سفير للجزائر في كل من باكستان وبريطانيا واليونان والمغرب.
كُلِّفت ليلى زروقي بالإشراف على الشراكات الدولية الكبرى، كونها تتمتّع بخبرة طويلة كموظفة دولية توِّجت بتعيينها نائبة الأمين العام للأمم المتحدة ورئيسة لبعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وأسندت لبوجمعة ديلمي القضايا الإفريقية، خصوصًا المسائل الجيواستراتيجية في منطقة الساحل والصحراء، إضافة إلى رئاسة لجنة متابعة اتفاق السِّلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر، وهو الذي اشتغلَ في عدة عواصم دبلوماسية متعددة الأطراف ومهمة، لا سيما أديس أبابا وجنيف وطوكيو.
وتعمل الجزائر على أن يكون بيدها حل الأزمة في مالي، إضافة إلى قيادتها وساطة لقضية سد النهضة، وسيستغل ديلمي عمله بأديس أبابا لتقريب وجهات النظر بين إثيوبيا ومصر والسودان.
وتمّ أيضًا تكليف طاوس حدادي جلولي بملف الجالية الوطنية المقيمة في الخارج، ووزير المالية السابق عبد الكريم حرشاوي بالدبلوماسية الاقتصادية، ونور الدين عوام بملف الدول العربية، وليلى زروقي ستشرف على الشراكات الدولية الكبرى، وهي التي تتمتّع بخبرة طويلة كموظفة دولية توِّجت بتعيينها نائبة الأمين العام للأمم المتحدة ورئيسة لبعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ويظهر من السيرة الذاتية لهؤلاء السبعة أنه حتى إن تمَّ تكليفهم بمهمات مختلفة، إلا أنهم يشتركون في أن أغلبهم كانت لهم مهام في الدول الإفريقية وفي دول صنع القرار، ما يعني أنه ولو اختلفت التكليفات إلا أنه سيتمّ العمل على تحقيق الأهداف ذاتها من مواطن متباينة، بالنظر إلى أن العمل الدبلوماسي يتطلّبُ حضورًا في كل الهيئات ولو كان لتحقيق غاية واحدة.
الاقتصاد أيضًا
لم تعطِ الجزائر على الدوام، حتى في الفترة الذهبية لدبلوماسيتها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أهميةً للجانب الاقتصادي، فقد شكّلت عائداتها النفطية مبعث راحة واطمئنان، إلا أن التهاوي المتكرر لسعر برميل النفط في السنوات الأخيرة جعلها تبحث عن مورد دخل خارج هذا النطاق، لذلك تسعى للاستثمار في موقعها الاستراتيجي بدخول اتفاق منطقة التبادل الحر الإفريقية حيّز التنفيذ هذا العام، وذلك بتسويق منتجاتها قارّيًّا.
ولتحقيق ذلك، تضمّن مخطط عمل الحكومة إعادة بناء الجهاز الدبلوماسي ليضطلع بمهامه العادية وكذا بالدبلوماسية الاقتصادية، وذلك إدخال تعديلات “مدروسة بدقّة” تسمح بمراجعة الخريطة الدبلوماسية وطرق العمل، قصد جعل الشبكة الدبلوماسية والقنصلية للجزائر تساهم في بناء اقتصاد وطني قوي ومتنوِّع ومُنتِج، لنمو شامل مُنشِئ لمناصب العمل والقيمة المضافة.
ويظهر هذا الاهتمام بتكليف عبد الكريم حرشاوي بهذا الملف، والذي سيتابع مدى استفادة الجزائر من الفضاءات الاقتصادية التي تنتمي إليها، لا سيما منها منطقة التبادل الحرّ القارّية الإفريقية، ومنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، حيث سيعمل السفراء والقناصلة بشكل دائم ومستمرّ على جلب الاستثمارات الأجنبية والترويج للسوق الجزائرية وترقية الجزائر كوجهة سياحية، والذي سيرفَق بمراجعة إجراءات منح التأشيرات خصوصًا لرجال الأعمال والسيّاح، فكثيرًا ما وُجِّهت انتقادات للجزائر بشأن شروطها الصعبة في منح تأشيرة الدخول إلى ترابها.
تريد الجزائر تدارُك تأخُّر وجودها التجاري في القارة الإفريقية، الذي خسرته لصالح الجار الغريم المغرب الذي استطاع أن يقوّي شبكته الاقتصادية.
وحسب وزير التجارة كمال رزيق، فإن الحكومة تراهنُ على اختراق السوق الإفريقية تجاريًّا من خلال المعابر الحدودية، ومن بينها المعبر الحدودي مع موريتانيا مصطفى بن بولعيد بولاية تندوف، الذي مكّن من رفع مستوى التعاون مع نواكشوط حتى لو أنها لا تزال دون المستوى المأمول، كما يمثّل طريقًا لتعزيز التجارة مع دول غرب إفريقيا.
ووسعت الحكومة فتح المعابر الحدودية لتشمل باقي الولايات الجنوبية الحدودية مع مالي والنيجر، وكذا معبر الدبداب مع ليبيا، دون نسيان المعابر الحدودية مع تونس التي تعمل بشكل عادي وأُغلقت من الجانبَين فقط، بسبب تدابير الوقاية من فيروس كورونا.
وقبل أسبوع، احتضنت ولاية تندوف المعرض الاقتصادي “الموقار”، حيث أعلن رزيق أن الحكومة تراهن على أن تكون تندوف نقطة انطلاقة لترقية الصادرات نحو بلدان غرب إفريقيا.
وتريد الجزائر تدارُك تأخُّر وجودها التجاري في القارة الإفريقية، الذي خسرته لصالح الجار الغريم المغرب الذي استطاع أن يقوّي شبكته الاقتصادية، خاصة في قطاع الخدمات والبنوك، لكن ذلك يتطلب إضافة إلى الحضور الدبلوماسي والتجاري إعادة النظر في قوانين الاستثمار والبنوك، وهو ما تسعى لحله بتضمينه في مخطط الحكومة.
جولة جديدة
عقب الجولة الإفريقية التي قادته نهاية يوليو/ حزايران وبداية أغسطس/ آب الماضيَين، إلى كل من تونس وإثيوبيا والسودان ومصر، وجرى خلالها الإعلان الرسمي للوساطة الجزائرية في ملف سد النهضة، استأنف وزير الخارجية رمطان لعمامرة يوم الاثنين جولة جديدة لدول إفريقية استهلّها بزيارة ليومَين إلى الجارة الجنوبية النيجر، حيث تمّ الاتفاق على تعزيز التعاون الأمني والدفاعي، وهو ما كان يتم خلال السنوات الماضية، غير أن هذا البيان الختامي المشترَك حمل اتفاق الجانبَين على تسريع المباحثات في ملفَّين هامَّين هما الطاقة والهجرة.
بالنسبة إلى ملف الطاقة، اتفق الجانبان على دراسة مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء، والذي سيكون محور المحادثات التقنية للزيارة التي سيقوم بها وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب إلى النيجر قبل نهاية أيلول/ سبتمبر الجاري.
ومشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء المعروف باسم “نيغال”، سيربط لاقوس بنيجيريا بالجزائر مرورًا بالنيجر وصولًا إلى إسبانيا، والذي يمتدُّ على طول يقارب 4128 كيلومترًا، ويستهدف نقل 30 مليار متر مكعّب من الغاز النيجري سنويًّا نحو أوروبا.
ويزور هذه الأيام أيضًا خبراء من نيجيريا، جرى معهم بحث ملف هذا المشروع، حيث تحاول الجزائر إقناع البلدَين بأهمية تنفيذ هذا المشروع كون تكلفته ستكون أقل لأنه يمرُّ بـ 3 دول، وذلك رغم المنافسة من المغرب التي تحاول إقناع أبوجا بجدوى مقترحها لمشروع أنبوب الغاز الذي سيمرُّ بـ 7 دول إفريقية.
يظهر أن طموح الحكومة الجزائرية لإعادة بريق البلاد الدبلوماسي كبير، غير أن ذلك لن يكون بالأمر السهل، بالنظر إلى دخول لاعبين جدد في رسم التوازنات الإقليمية يتعدّى الغريم المغربي.
واتّفق البلدان أيضًا على تسريع دراسة مشروع الحقل النفطي بمنطقة كفرا الحدودية، التي اكتشفته شركة سوناطراك الجزائرية.
أما بالنسبة إلى ملف الهجرة، فقد اتفق الجانبان على دراسة ملف العمّال النيجريين الذين يعملون بالجزائر بطريقة غير قانونية، وفي حال تمّ حل هذا الملف ستتخلّص الجزائر من معضلة تشكّل لها اليوم صداعًا حقوقيًّا دوليًّا.
وتشمل الجولة الإفريقية الجديدة للعمامرة موريتانيا التي حلَّ بها الأربعاء بصفته مبعوثا خاصًّا للرئيس عبد المجيد تبون، حيث سيعقد لقاءات مع السلطات العليا في البلاد وفي مقدِّمتها الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، ليكملها بزيارة كل من الكونغو ومصر، وذلك بهدف كسب دعم إفريقي لمخرجات اجتماع الجزائر لدول جوار ليبيا، وكذا للحصول على تأييد أكبر لإلغاء قرار منح الاحتلال الإسرائيلي صفة مراقب داخل منظمة الاتحاد الإفريقي.
يظهر أن طموح الحكومة الجزائرية لإعادة بريق البلاد الدبلوماسي كبير، غير أن ذلك لن يكون بالأمر السهل، بالنظر إلى دخول لاعبين جدد في رسم التوازنات الإقليمية يتعدّى الغريم المغربي، لذلك لن تكون مهمة مجاراة هؤلاء اللاعبين الدوليين ممكنةً إلا بتقوية الجبهة الداخلية، وحلّ الأزمات التي جعلت البلاد تفقد ثقلها في المنطقة من عام إلى آخر.