مشهد الحفرة التي كانت مخرجًا لعودة 6 أسرى إلى الحياة، بعد سنوات طوال قضوها في زنزانات الاحتلال الإسرائيلي وهم يحملون أحكامًا من المؤبدات، أدهشت الجميع ليس لأن الحدث جديد بل لأن السجن ليس عاديًّا، فهو جلبوع الذي يُطلَق عليه “الخزنة الحديدية” لشدّة تحصينه وإجراءات الأمن المتّبعة داخله، لأنهم يحتجزون داخله الأسرى الخطرين وفق وصفهم.
وشهدت السجون الإسرائيلية العشرات من عمليات كسر القيد، منها ما نجح ومنها ما فشلَ في اللحظات الأخيرة، ودومًا كانت الأدوات بسيطة، إمّا ملعقة معدنية وإمّا علبة سردين فارغة وإمّا أي قطعة حديد يلتقطها الأسير في “الفورة” -الساحة التي يخرج إليها الأسرى لمدة ساعة يوميًّا-.
كثيرة هي الأسئلة التي دارت في العقول حول تلك العمليات التي نفّذها الأسرى للفرار من زنزانات الاحتلال، حتى كثرت السيناريوهات التي ترددت على ألسنة المتابعين عن آليات الهروب والأدوات المستخدمة، وكذلك مدى السرّية التي يحفظها منفِّذو عملية الانعتاق.
أنصت “نون بوست” لتجربة أسير محرَّر خطَّط ونجح في انتزاع حريته من سجنه وعايش عمليات أخرى، وآخر قضى أكثر من 11 عامًا في سجن جلبوع وشهدَ كثيرًا من محاولات كسر القيد، وآخر ينقل تجربته ويطلَق عليه لقب “مهندس عمليات الهروب”.
بالسرّية وقصّاصة الأظافر نالَ حريته
لم يفكر الأسير المحرَّر ياسر صالح (62 عامًا) طويلًا وهو يعود بذاكرته حين خطط للفرار من “سجن 7” عام 1995، فالتعذيب الذي تلقّاه خلال التحقيق حين أُلقي القبض عليه واتُّهم بأعمال المقاومة لم يكن هيّنًا، لذا بعد انتهاء التحقيقات بدأ يخطِّط لكسر شوكة السجّان الذي حاول مرارًا إهانته وإذلاله.
يقول صالح الذي قضى 15 عامًا داخل السجون الإسرائيلية لـ”نون بوست”، عن تجربته لحظة الفرار، إنه بعد أيام من انتهاء التحقيق معه بات يستغل الخروج إلى الفورة للتعرُّف إلى السجن أكثر، ثم راح يلحّ على إدارة مصلحة السجن العمل داخل المطبخ كونه المكان الأقرب للجدار الخارجي، وتحقّق له ذلك.
استغلَّ عمله داخل المطبخ وبدأ يبحث بسرّية تامة عن مخارج قريبة توصله إلى الخارج، فاليوم الذي حدَّد فيه تنفيذ خطته حاول قضاءه بشكل طبيعي رغم أن الخوف كان يسيطر عليه، لكنه كان يحمل داخله تحديًا كبيرًا لكسر إدارة السجن التي تتباهى بمنظومتها الأمنية التي يصعب اختراقها.
بشكل طبيعي أدى المحرَّر صلاة المغرب برفقة الأسرى، وذهب إلى المطبخ بحجّة إعداد طعام العشاء لرفاقه، لكنه تسلَّل إلى دورة المياه وبدأ بقصّ الشباك بـ”قصّاصة الأظافر” حتى وصل إلى السور، وبالأداة ذاتها قطع أسلاك السجن الشائكة وهرب إلى الحدود المصرية بعد 3 ساعات من فراره.
يقول صالح: “بطريقتي الخاصة كنت أسأل من حولي عن المسافة بين السجن والحدود المصرية وأخبروني أنها تبعد ساعة، لكن صدمت بالواقع واستغرقت 3 ساعات، وحين وصلت الحدود وجدت الجنود الإسرائيليين بانتظاري واقتادوني إلى السجن”.
تكون العقوبة بعد كشف عمليات الفرار التعذيب وإضافة سنوات على الحكم تصل إلى 6 سنوات، بالإضافة إلى توزيع الأسرى في المعتقل الذي تمّت فيه العملية على المعتقلات الأخرى، وتشديد الإجراءات العقابية وحرمانهم وجبات الطعام أو تأخيرها.
يصف الـ 3 ساعات التي نَعِمَ فيها بالحرية بأنها الأغلى على قلبه، كان يشعر بلذّة المنتصر رغم أنهم أعادوا اعتقاله وأضافوا إلى محكوميته 6 شهور أخرى، معلِّقًا: “ما أسعدني هو أن أثبت للسجّان أنه لا يمكن تقييد حريتي، وأني بمقصّ الأظافر نزعت منظومته الأمنية”.
وفي سؤال عن الزمن الذي تراودت فيه فكرة الفرار للأسير، يجيب: “تبدأ بعبارة “شو رأيك نهرب؟”، فطيلة الوقت والفكرة تلحُّ على كل الأسرى لكن هناك من يمتلك قوة ومخاطرة أكبر ويقرِّر لكن بصمت، وكثير يترددون”، مشيرًا إلى أن السرّية والكتمان من أُسُس نجاح عملية الانعتاق، وذلك لوجود “عصافير” -جواسيس يعملون لصالح مصلحة السجن-.
السنوات التي قضاها في الأسر جعلته يعلم تفاصيل العمليات التي كانت تقع في المعتقلات التي تنقّل بينها، فيذكر أنه في حال كانت الوسيلة هي الأنفاق يكون العمل بين مجموعة تتناوب ما بين الحفر ومراقبة السجّانين، مشيرًا إلى أن التخطيط يكون غالبًا بالاتفاق مع أحد معارف الأسير خارج المعتقل، وعملية التواصل عبر كبسولات مهرَّبة داخلها رسالة مشفّرة يفهمها الطرفَين لتحديد ساعة الصفر، ليسهل نقلهم إلى برّ الأمان.
أما العقوبة بعد كشف عمليات الفرار، فهي التعذيب وإضافة سنوات على الحكم تصل إلى 6 سنوات، بالإضافة إلى توزيع الأسرى في المعتقل الذي تمّت فيه العملية على المعتقلات الأخرى، وتشديد الإجراءات العقابية وحرمانهم وجبات الطعام أو تأخيرها، بالإضافة إلى سحب التلفاز والمذياع، والتفتيش غير الإنساني الذي يصل إلى إدخال الأسرى لدورة المياه ونزع ملابسهم لجعلهم عراة.
دراسة نفسية السجّان وسيلة للفرار
هنا حكاية أخرى يرويها الأسير المحرَّر محمد علي خلف، الذي قضى حوالي 11 عامًا ونصف في سجن جلبوع، بداية لم يكن يرغب بالحديث عن المكان الذي قضى فيه أسوأ أيام حياته، حيث الإجراءات الأمنية القاسية والتفتيشات غير الإنسانية في أية لحظة.
يقول لـ”نون بوست” إن كل أسير يطمح للخروج من السجن، خاصة أصحاب المحكوميات العالية الذين يقبعون في سجن جلبوع، مشيرًا إلى أن المعاناة التي يعيشها الأسير من عذاب السجّانين تدفعه للبحث عن أي سبيل لنيل حريته، حيث طيلة الوقت فكرة الفرار تراوده.
وعن الدافع الذي يجعل أسرى جلبوع تحديدًا يخطِّطوا لعمليات انتزاع حريتهم، أوضح خلف أن الهدف هو للانتصار على العدو وأجهزته الأمنية والتكنولوجية التي تصنَّف الأقوى على مستوى العالم، وبالتالي يشعر الأسير عند كسره لشوكه المحتلّ بالانتصار كونه اخترق سجنًا يفترض أنه الأكثر تحصينًا.
ورغم أن العقوبة المباشرة بعد محاولات الفرار تكون بالتفتيشات الليلية والنهارية، لقلق راحتهم ورشّهم بالغاز والتعدي عليهم بالهَرَاوى المطاطية والكهربائية، وتقييد بعضهم بالأسرّة التي ينامون عليها، إلا أن كل ذلك يزيد معنوياتهم، بحسب خلف.
ذكر خلف أن الأسير يحاول نسج علاقة شخصية مع أحد السجّانين ويجعله يفضفض له، خاصة لو كان يعيش في ظروف اقتصادية صعبة، وبالتالي تنشأ الثقة بين الطرفَين بعد تقديم النصيحة والدعم المعنوي والمادي له.
وحول الطرق التي يسلكها الأسير لتنفيذ مخطط الفرار، لفت إلى أنه في البداية يتمّ دراسة نفسية السجّانين والعاملين في مصلحة السجون، وغالبًا يتصفون بـ”الجشع”، فبعد إضعافهم وإغرائهم بالمال، يحصل الأسير بواسطة أحدهم مثلًا على هاتف محمول لكن بسعر أغلى من الخارج أو أي سلعة تخدمه في عملية الفرار.
وذكر خلف أن الأسير يحاولُ نسج علاقة شخصية مع أحد السجّانين، ويجعله يفضفض له خاصة لو كان يعيش في ظروف اقتصادية صعبة، وبالتالي تنشأ الثقة بين الطرفَين بعد تقديم النصيحة والدعم المعنوي والمادي له، وبعد ذلك يصبح من السهل معرفة ما يدور في السجن كموعد دوريات التفتيش والجنود المناوبين والحراسات الخارجية.
وأشار إلى أن كل قطعة صلبة هي بالنسبة إلى الأسير كنز، فملقط الحواجب والمسمار وحتى غطاء المعلّبات يحوِّلونه إلى سكين، فتلك الأدوات البدائية تساعدهم في عمليات الانعتاق.
ولم يتجاهل الحديث عن الأسرى الـ 6 الذين لاذوا بالفرار، ومنهم قائد العملية محمود العارضة، حيث وصفه أنه هادئ الطباع، قليل الكلام، عنيد لا يعرف لليأس طريقًا، كونه حاول انتزاع حريته 3 مرات فشل مرتَين ونال الأخيرة ليؤكّد المثل القائل: “الثالثة نابته”.
شفرات فولاذية داخل حذاء رياضي
أما المحرَّر حمزة يونس (79 عامًا) الذي أُطلق عليه عدة ألقاب لمراوغته للمحتل، منها “مهندس الهروب” و”الزئبق” لكثرة فراره، اليوم وبعد 3 محاولات للهرب يعيش في السويد بعيدًا عن أعين الاحتلال، الذي يعتبره من أخطر السجناء الذين تمّ اعتقالهم.
بدأت عمليات فرار يونس عام 1964 من سجن عسقلان، والمرة الثانية من المستشفى عام 1967، أما الثالثة فتعهّد لمدير السجن بعد اعتقاله والحكم عليه بقرابة 7 مؤبدات، بالخروج بعد عامَين.
وبالفعل خطّط يونس مع أسيرَين آخرَين لعملية الهروب، واستغلَّ ثغرة أمنية في ساحة السجن، ونفّذ عمليته ونجحَ فيها، وانتقلَ من سجن الرملة إلى الأردن عام 1971 ومنها إلى لبنان، للانضمام إلى المقاومة الفلسطينية في بيروت.
بدأت عملية التنفيذ بدهاء شديد، حين تراهنَ مع أحد السجّانين على سقوط المطر، فذاك اليوم كانت السماء ملبّدة بالغيوم فأخبرَ يونس السجّان بأنها لن تمطر، متعمّدًا الخسارة.
لن تكون عملية “نفق الحرية” الأخيرة بل ستبقى حافزًا لعمليات فرار نوعية خلال المرحلة المقبلة، فالتجربة أثبتت أن الأسرى الفلسطينيين مستمرّون في محاولة الهرب لتوقهم إلى الحرية ورغبتهم التخلُّص من ظروف الاعتقال الوحشية.
يقول: “كنت أدرك نفسيته الجشعة، وكان الرهان حال أمطرت السماء سأجلب له حذاءً رياضيًّا ذا ماركة عالمية، وأرسله لبيته مع أحد معارفي الذي كنت متّفق معه”.
ويضيف: “بكل عنجهية بعد وصول الحذاء إليه جاءني وهو يرتديه، هنّأته وكنت متّفق مع رفاقي بسكب القهوة على رجله وخلع الحذاء وإدخاله لدورة المياه، وبلمح البصر تمّ فتح الحذاء وأخذ “الشفرة الفولاذية” وتمّ إخفائها لاستخدامها في عملية الفرار”.
لن تكون عملية “نفق الحرية” الأخيرة بل ستبقى حافزًا لعمليات فرار نوعية خلال المرحلة المقبلة، فالتجربة أثبتت أن الأسرى الفلسطينيين مستمرون في محاولة الهرب لتوقهم إلى الحرية، ورغبتهم التخلُّص من ظروف الاعتقال الوحشية، ويعتبرون تحدي السجّان والفرار ضربًا من ضروب المقاومة التي لا يجب أن تتوقف، مع أن أغلبها يبوء بالفشل، ومع ذلك لم يثنِ الأسرى عن الاستمرار في المحاولة كما حدث مؤخّرًا في جلبوع.