ألهبت قصة تحرّر الأسرى الفلسطينيين الستة من سجن جلبوع الإسرائيلي مشاعر الشارع العربي المتعطِّش إلى أية حالة تحرّر، ولو كانت حالات تحرُّر على المستوى الفردي في ظلِّ غياب بصيص النور في نهاية النفق المظلم الذي دخلت فيه جميع دول الربيع العربي، هذا البصيص الذي احتضنَ الأسرى الفلسطينيين الستة.
قصة التحرّر من سجون الاحتلال الإسرائيلي تعيدُ إلى الذاكرة قصة مشابهة تحرّرَ أبطالها من أحد أقبية معتقلات نظام حافظ الأسد، في ظروف تتقاطع في بعض حيثياتها مع القصة الفلسطينية الجديدة، إلا أن القصة السورية سبقتها بـ 37 عامًا ولم تتحدث عنها وسائل الإعلام.
“الطليعة المقاتلة”.. لملمة الشتات ثم خيانة واعتقال جماعي
بعد مواجهاته المتعددة مع نظام حافظ الأسد نهاية السبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي، يتعرّض تنظيم “الطليعة المقاتلة” (تنظيم سوري مسلح معارض لنظام حافظ الأسد) لعدة هزائم وهزات أدّت إلى تشتُّت البقية الناجية من أفراده في البلدان المجاورة لسوريا، بعد مقتل واعتقال عدد من قيادييه وكوادره.
قيادة التنظيم تقرر العودة إلى “ميادين الجهاد في سوريا”، وتجمع 57 عضوًا من الجماعة، وتعطيهم أوامر التحرُّك إلى الداخل السوري، اخترقت مخابرات نظام الأسد التنظيم قبل ثلاث سنوات بواسطة أحد عملائها الذي أعطاها المعلومات الكافية عن المقاتلين العائدين، ما أدّى إلى اعتقالهم تباعًا، وكان من أواخر المعتقلين “محمود حماد” الذي اعتقل في سبتمبر/ أيلول 1983.
يتنقّل معتقلو الطليعة في رحلة اعتقالهم بين عدة مراكز أمنية، من أحد فروع الأمن العسكري في منطقة الجمارك في العاصمة دمشق، ثم إلى سجن مطار المزة العسكري، لتحطَّ رحالهم في المبنى الجديد التابع للأمن العسكري الذي بالكاد انتهى إنشاؤه خلف مبنى وزارة التعليم العالي في دمشق، مبنى الفرع 227 المسمّى “فرع المنطقة”، حيث ستبدأ إحدى القصص الفريدة التي لم تشهد مثلها سوريا في ظلّ حكم نظام آل الأسد.
“فرع المنطقة”.. المبنى الجديد
محمود حماد، أبو أحمد، وهو أحد 6 معتقلين نجحوا بانتزاع حريتهم من أفرع نظام الأسد الأمنية والنجاة، ويقيم حاليًّا في دولة أوروبية؛ يروي لـ”نون بوست” تفاصيل مثيرة وغريبة لرواية الانعتاق الجماعي من “فرع المنطقة” الأمني بالعاصمة السورية بدمشق، حيث ينقل جهاز الأمن العسكري ضبّاطَ وعناصرَ الفرع رقم 227 “فرع المنطقة” إلى مبناهم الجديد، وبالضرورة فإنه سينقل معهم معتقلي الفرع أيضًا إلى المبنى الجديد.
23 معتقلًا من مقاتلي الطليعة يتمَّ عزلهم في مهجع واحد في الطابق الأرضي يعلوه سقفان، يفصل السقف الأول عن الثاني 6 فتحات تهوية مفتوحة، ويفصل السقف الثاني عن العالم الخارجي جدار من القضبان الحديدية يؤدي من جهة إلى ممر داخلي في المبنى، ومن جهة أخرى إلى الساحة الخارجية التي يستعملها الفرع كمرآب للسيارات.
الصدفة والفضول يقودان لفكرة
يستغل المعتقلون فرصة دخولهم إلى الحمّامات للتواصل مع زملائهم المعتقلين في المهاجع الثانية من الفتحات فوق الحمّامات، أحد المعتقلين وأثناء حديثه مع أحد زملائه يلْمح بفضوله شيئاً يلمع في كومة بالقرب من إحدى هذه الفتحات، الكومة كانت من مخلفات مواد البناء في المبنى الذي لم تكن أعمال تشطيباته قد اكتملت، يسحب بهدوء الجسم اللامع ليكتشف أنه جزء صغير من منشار صدئ، أصبح خلال لحظات مفتاحاً لخطة الانعتاق من السجن.
إقناع رفاق الزنزانة بأن هشام اختيار كاذب
سرعان ما يتفق اثنان من المعتقلين على الهروب بقصّ قضبان حديدية اعتماداً على بقايا المنشار، إلا أن المهمة الأكثر صعوبة كانت إقناع 23 شخصًا بانتزاع حريتهم.
المشكلة تمثّلت في أن ضباطاً كباراً في الفرع أقنعوا بعض المعتقلين أن بقاءهم في الاعتقال لن يدوم سوى عدة أشهر، وأن “السيد الرئيس” راضٍ عنهم لأنهم “لم يقبلوا التجنيد من قبل دولٍ معاديةٍ”.
أبرز الضباط الذين لعبوا هذا الدور كان “هشام اختيار”، الذي يشغل آنذاك منصب نائب رئيس فرع المنطقة، والذي سيتدرج لاحقاً في الهرم الأمني للنظام ليصبح رئيساً لمكتب الأمن القومي، ويُقتَل في تفجير خلية الأزمة منتصف 2012.
بدأت مجموعة التخطيط للانعتاق تتوسع لتصبح خمسة أشخاص، كانوا ينشرون اثنين من قضبان الحديد بسرية عالية خوفاً من عناصر الفرع ومن زملائهم غير المقتنعين بالهرب، ليتناوبوا على نشر جزء بسيط من القضبان لا يتعدى يومياً ميلي مترين فقط بحسب ما تسمح ظروف.
تستمر المناقشات ثلاثة شهور لتنتهي بإقناع من خضعوا “لغسيل الدماغ” لانتزاع حريتهم، بالتوازي مع أعمال التحضير الجدي والاستعداد لساعة الصفر.
تحضيرات للمواجهة بملاعق ومقصّ وزجاجة دواء!
بعد عمليات رصد متعددة تتفق المجموعة على التوجه بعد قص القضبان إلى أحد جدران ساحة السيارات، والقفز من فوقه إلى خارج الفرع.
تحتاج الخطة إلى أسلحة في حال اضطرارهم لمواجهة عناصر الحراسة، لذلك بدأ المعتقلون بتصنيع أسلحتهم البدائية، التي كانت في النهاية: مسدساً خشبياً صنعوه من خشب صندوق عنب أحضره ضباط الفرع للمعتقلين في عيد الأضحى، إضافة إلى مقصٍّ وملاعق كبيرة تمّ تدبيب رؤوسها، وزجاجة دواء سكروها وربطوها بعصا.
عملية الانعتاق.. مفاجآت وخيبات
بُعيد عيد الأضحى وفي الساعة الواحدة من ليلة الخميس 13 أيلول/سبتمبر 1984، تنطلق المجموعة الأولى لخلع قضيبي الحديد المقصوصين وتوسيع محيطهما، وتبدأ عملية الخروج من المهجع إلى ساحة مرآب سيارات فرع المنطقة.
لم تكن عمليات الرصد السابقة مجدية، لأن الواقع خارج المهجع كان مختلفاً تماماً عن تصورات الراصدين الذين لم يحصلوا على زوايا رؤية جيدة من داخل السجن، ليتفاجأ الخارجون بأن الجدار الذي تقتضي الخطة القفز من فوقه كان يؤدي إلى حديقة داخل الفرع، لذلك وجدوا أن الحل الوحيد أمامهم مهاجمة البوابة الرئيسية لمرآب السيارات والخروج منه.
ما هي إلا لحظات حتى هاجمهم حارس عسكري اندفع نحوهم حاملاً بندقيّة روسيّة، فتشتبك معه مجموعة مؤلفة من ستة معتقلين، ما أتاح الفرصة لبقية الهاربين بالخروج من البوابة الرئيسية، ثم يتمكن الستة المشتبكون مع الحارس من سحب البندقية منه ويتركوه جريحاً ويقفزون فوق جدار لم يكن موجوداً في خطة الهرب أيضاً، ليكملوا طريقهم نحو المجهول.
مصائر مأساوية وارتجال غير محسوب
المجموعة الهاربة الأولى والمؤلفة من 17 شخصاً، لم يتمكن أفرادها من الفرار خارج المنطقة حيث تم اعتقالهم جميعاً عدا شخص واحد، استطاع لاحقاً الوصول إلى مدينة طرابلس اللبنانية، لينضم إلى حركة التوحيد الإسلامي ويُقتَل في إحدى معاركها في مواجهة جيش الأسد.
أما المجموعة الثانية فقد أصبحت بعد القفز من أول جدار داخل مبنى يتبع للجيش، تبيّن فيما بعد أنه مبنى القضاء العسكري، وقفز الستة فوق أربعة جدران متتابعة ليجدوا أنفسهم على أوتوستراد المزة، دون خطة واضحة للعبور خارج سوريا.
بعد القبض على أفراد المجموعة الأولى أعيدوا بدايةً إلى فرع المنطقة، ليتم ترحيلهم إلى سجن تدمر، حيث رووا قصتهم لزملائهم في مهاجع السجن، وروى بعض هؤلاء أن سبعة من مجموعة الهاربين كانوا في مهجعهم، وتمّ إعدامهم جميعاً داخل السجن، وضاعت قصص البقية بين قصص عشرات آلاف المعتقلين في تدمر.
وبالعودة إلى المجموعة الثانية، الستة الذين انتزعوا حريتهم، فقد تابعوا الارتجال وأوقفوا سيارة على أوتوستراد المزة تحت التهديد بالسلاح الذي سلبوه من العسكري، تبيّن أنها سيارة تابعة لمطار دمشق الدولي، فيها سائق موظف في المطار يُقِلُّ “كابتن” طائرة باتجاه رحلته.
جلسوا في السيارة، وأحدهم في صندوقها يحمل البندقية تحسباً لحواجز عسكرية قد تصادفهم في رحلة الانعتاق، لكنهم ارتكبوا خطأً كاد أن يكلفهم الكثير، حيث تركوا كابتن الطائرة يجلس عند باب السيارة، مما ساعده على رمي نفسه في الشارع والفرار منها.
بين الألغام وتحت الطائرات الحربية
تابعت السيارة مسيرها باتجاه محافظة درعا على الحدود السورية الأردنية، ووصلت إلى منطقة صخرية وعرة، فأكمل الهاربون طريقهم سيراً على الأقدام باتجاه الشريط الحدودي معتمدين على حدسهم في الاتجاهات، مصطحبين معهم سائق السيارة خشية عودته والإبلاغ عنهم.
ليتفاجؤوا قبل الحدود بقرابة خمسة كيلو مترات بسيارة “بيك آب” جبلية فيها شخصان تقترب منهم بشكلٍ مريبٍ، أحد الشباب الستة اختبأ خلف تلة صغيرة، وعندما توقفت السيارة بالقرب من زملائه لمح بندقية روسية يحملها أحد الشخصين، فأجبره على تسليم البندقية وركبوا السيارة الجبلية وتابعوا طريقهم بواسطتها إلى الحدود، وبصحبتهم سائق السيارة الأولى والرجلين الذين كانا في السيارة الثانية ولم يتمكنوا من تحديد هويتهما.
بالقرب من الشريط الحدودي عطّل الهاربون السيارة الجبلية وأفرغوا عجلاتها، وتركوا الأشخاص الثلاثة واعتذروا منهم على سوء سلوكهم معهم، وبدأوا يشقون طريقهم باستخدام حربتي البندقيتين لتجنب الألغام الأرضية حتى وصلوا الشريط الحدودي، حيث أوقفهم عسكري أردني وبعد التواصل مع قيادته طلب منهم تسليم البندقيتين، وإكمال الطريق برفقته.
بُعيدَ دخول الهاربين الستة الأراضي الأردنية شهدت الأجواء الحدودية طلعات طيران حربي مكثفة بحثاً عنهم، واستطلع الجانب الأردني تحركات عسكرية على الشريط الحدودي، وأبلغت سلطات نظام الأسد الحدودية نظيرتها الأردنية أن هناك ستة عناصر عسكريين فارين من خدمتهم العسكرية في سوريا، لكنّ الطرف الأردني نفى عثوره على أيِّ أحدٍ.
نقل الأردنيون الهاربين إلى إربد ثم الرمثا ثمّ عمّان أخيراً حيث احتفظوا بهم في أحد السجون قرابة ستة شهور، انتهت بترحيلهم إلى باكستان، حيث تفرقت مساراتهم لاحقاً بين من توجهوا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا حيث حصلوا على اللجوء السياسي، ومن بقي في باكستان وقاتل في أفغانستان وقُتِل فيها.