لم تكن “جود” تدري أن صاروخًا غادرًا ينتظرها بعد دقائق من نشرها مناجاة رقيقة على صفحتها على فيسبوك، سألت الله النور في دروب العتمة وجمالًا للقادم في الحياة. استهدفت قوات الأسد بقصفها الهمجي مدينة إدلب لتقضي على حياة أربعة مدنيين من بينهم الشابة جود ياسر شريط ذات الـ21 عامًا.
لامست كلمات الشابة الشهيدة معارفها وأصدقائها الذين افتقدوها وجرى تداول كلماتها بصورة كبيرة على شبكات التواصل الاجتماعي. نعي أبيها لها ذاد الموقف تاثيرًا، ومنذ سنوات كان والدها أيضًا قد نعى ابنه الذي قُتل تحت التعذيب بأحد أفرع الأمن التابعة لنظام الأسد.
كانت كلمات جود استثنائية حيث انتشرت في أرجاء سوريا: “اللهُم خيرًا في كلّ اختيار، ونورًا في كل عتمة وتيسيرًا لِكل عسير، وواقعًا لِكل ما نتمنى، اللهم بحجم جمال جنتك أرني جمال القادم في حياتي وحقق لي ما أتمنى، واشرح لي صدري.. اللهم الرضا الذي يجعل قلوبنا هادئة وهمومنا عابرة ومصائبنا هيّنة”.
قصة جود ليست الأولى بحجم تأثيرها على الساحة السورية خلال عقد من الثورة، إذ كانت تطالعنا المواقف التي شغلت الرأي العام كل فترة، وكان غالب هذه الحكايا مما يدمي القلب ويثير العواطف.
سأخبر الله بكل شيء
يمكن اعتبار مقولة “سأخبر الله بكل شيء” واحدة من أكثر العبارات السائرة في الثورة السورية منذ طرقت المسامع لأول مرة، حيث استخدمت عالميًا على نطاق واسع، وتعود قصة هذه الكلمات لطفل سوري أصيب بقصف للنظام على منزله، وعلى سرير المشفى قال الطفل كلماته هذه ولفظ أنفاسه الأخيرة، لتصبح هذه الكلمات على لسان كل سوري.
الجدير بالذكر أن هذه المقولة تم تداولها مؤخرًا مع بداية انتشار فيروس كورونا، إذ ربط مغردون مقولة الطفل بما يحصل، وقال أحدهم: “الطفل الصغير ذو الـ3 أعوام، بينما كان وسط الدماء فوق السرير قال وهو يبكي جملته الأخيرة (سأخبر الله بكل شيء) نعم إنّه فعل ما قال”.
إيلان الكردي
عبرت صورة الطفل إيلان الكردي العالم وهو ممدد على الشاطئ وقد لقي حتفه بعد انقلاب القارب الذي كان يقله مع أهله وآخرين في محاولة للهروب إلى أوروبا من جحيم ما يحصل في سوريا، حاول أبو إيلان أن ينقذه وأخاه وزوجته لكنه لم يستطع، فقد كانت أمواج البحر أسرع، ويروي الأب أن أولاده كانوا يقولون له “بابا لا تمت”.
بعد ذلك دفعت أمواج البحر المتلاطمة جثة إيلان ذي الـ3 سنوات إلى شواطئ تركيا التي غادروا منها بالأصل، وأحدثت هذه الصورة ضجةً ليس على المستوى السوري فحسب وإنما على المستوى العالمي، وضغطت هذه الحادثة على بعض الحكومات التي تستضيف اللاجئين لتغيير سياساتها وتحسين آلية استقبال اللاجئين.
أنا عايشة
يوم أن ضربت صواريخ الأسد الكيماوية الغوطة الشرقية وقتلت مئات المدنيين أكثرهم من النساء والأطفال، نُشر مقطع مصور لطفلة أصيبت بغاز السارين وقد فتحت عينيها وهي في المستشفى تصرخ “أنا عايشة..أنا عايشة” بلهجة الخوف والاستغراب، تحاول أن تخبر المسعف -وربما تسمع نفسها- بأنها على قيد الحياة، وهي ترى من حولها عشرات الضحايا الذين قضوا اختناقًا.
يقول الطبيب الذي أشرف على الطفلة يُمنى إنها لم تكن واعية لما يجري بل ولم تستعد وعيها إلا بعد أيام. انتشر المقطع وأحدث ضجة في الرأي المحلي والعالمي وأصبح أحد اللحظات الفارقة التي لا ينساها السوري خلال الأعوام الماضية.
لا تقصلي البيجامة
أثار فيديو لطفلة ناجية من القصف في حلب يبلغ عمرها 12 عامًا الاهتمام، فقد تناست الطفلة آلام إصابتها جراء قصف لقوات الأسد والدماء التي تغطي وجهها، وبكت عندما جاء الطبيب ليعالجها ويرى الإصابة في قدمها وهو يحاول أن يقص بنطالها الجديد، لتقول له “عمو لا تقص البيجامة جديدة لأنو”، وكانت الطفلة تقول للطبيب “كنت بالمدرسة ورجعت عالبيت وبدي آكل فضربت القذيفة” لتنهمر دموعها في مشهد من أكثر المشاهد تأثيرًا خلال الثورة السورية.
حانن للحرية حانن
في حلب أيضًا، يذكر السوريون تلك الطفلة الصغيرة التي كانت تغني “حانن للحرية حانن يا شعب ببيتو مش آمن” لتأتي القذيفة وتقطع ذلك الصوت الجميل وتحيل الأجواء الهادئة إلى ركام ودمار وصراخ وبكاء، لا يكاد سوري يسمع هذه الأغنية التي صدرت بصوت الكثيرين إلا ويتذكر تلك الطفلة وصوتها وحنانها ووجهها الذي طُبع عليه علم الثورة السورية، وكان ذلك في عام 2013 في حي بستان القصر بحلب.
عمران
في أغسطس/آب 2016 كانت الحملة العسكرية التي تشنها قوات النظام إلى جانب طيران الجو الروسي على أشدها على مناطق سيطرة المعارضة في مدينة حلب، ضرب القصف منزل أسرة الطفل عمران دقنيش وانهار المنزل فوقهم، ظهر الطفل عمران في مقطع فيديو بعد أن أخرجه المنقذ ووضعه في سيارة إسعاف وقد أصابته الصدمة ولم يبدِ أي تأثر من هول الموقف. كان عمران مليئًا بالغبار والدماء ويمسح الدماء من على جبينه بيده. ومن ثم تتوافد عائلته على سيارة الإسعاف وقد كانوا مصابين أيضًا.
أثارت صورة الطفل عمران اهتمامًا عالميًا كبيرًا وتصدرت كبرى صفحات المجلات والجرائد العالمية، الجدير بالذكر أن الحملة على حلب في ذلك الوقت أدت لتهجير أهلها.
لا تصورني ماني محجبة
أظهر مقطع فيديو مشهدًا لإنقاذ فتاة سورية من تحت الأنقاض في حي جوبر الدمشقي بعد قصف للمباني بصواريخ النظام في يونيو/حزيران عام 2013، وكان اللافت في الفيديو أن الفتاة التي خرجت من تحت الركام والدمار ونجت من موت محقق قالت للمنقذين والناس من حولهم: “لا تصورني ماني محجبة”، ولم تخرج الفتاة من تحت الأنقاض إلا وهي تضع على رأسها ووجها غطاءً أبيض اللون، قبل أن يتم نقلها إلى مستشفى ميداني لتلقي العلاج.
لا تتركني لحالي
في مدينة داريا غربي العاصمة السورية دمشق، انتشر فيديو مؤثر لطفل جريح يطلب من أهله توديع أخيه الطفل الشهيد، وأخذ الطفل، المصاب من جراء غارات قوات بشار الأسد على المدينة، يصرخ، مخاطبًا شقيقه “تركتني لحالي مشان الله حاكيني، الله يرحمك يا أخي”، ثم بدأ بتقبيل رأسه.
اليرموك اشتقلك يا خيا
بعيدًا عن المعارك وليس بعيدًا عن أجواء الحرب، في مخيم اليرموك جنوبي دمشق في أثناء حصاره من قوات نظام الأسد وبعض قوات جبهة التحرير الشعبية التابعة للقائد الفلسطيني أحمد جبريل، ظهرت طفلتان صغيرتان تغنيان إلى جانب شاب يعزف على بيانو صغير في المخيم، لفتت قصة الأغنية اهتمام الكثيرين من السوريين والفلسطينين.
تقول كلمات الأغنية:
بكفي برا تتمرمر.. يلا عودوا يا أحباب.. بكفينا طال الغياب..
يا أمي والله اشتقنالك.. عودي وضمينا بحنانك..
يا أمي طالت غيبتكم.. والله اشتقنا لضحكتكم..
يلا نرجع على الدار.. ونتذكر كيف كنا صغار..
نلعب على سطح البيت.. ونتخبى خلف الجدران
يقول أحدهم: “اليرموك اشتقلك يا خيا ما بروح من بالي الأغنية التي كانت تأخذنا جميعًا نحو البلاد، نطوف بها، نسلم على الغائبين ثم نرحل من جديد”.
هذه القصص ليست وحيدة، فمع كل شهيد أو مصاب أو معتقل قصة تُروى، ومع كل كلمة يحكيها هؤلاء الضحايا حكمة ترسخ في ذهن الشعب وتصبح من ذاكرته الأبدية، وربما لم يكن الكلام الصادر عن الضحايا مقصودًا لكنه كان مفهومًا جدًا ممن رآه وسمعه، ليكون أكثر حكمة وتعبيرًا ورمزية أمام هول المشهد ومأساة القصة.