بات التعليم الفني (التعليم الذي يركّز على تنمية المهارات الفنية في مجالات التجارة والزراعة والصناعة) قاطرة التنمية التي تقود المجتمعات الحديثة، كونه الأكثر اتِّساقًا وقراءة لسوق العمل الحقيقي، بعيدًا عن التعليم النظري الذي يقود في النهاية إلى زيادة طابور البطالة.
وقد شهدَ هذا النوع من التعليم تطورات محورية هائلة خلال العقود الثلاثة الماضية على وجه الخصوص، بعدما فرض نفسه كأحد المقومات الأساسية للنهوض بأضلاع المنظومة الاقتصادية، الأمر الذي عزّزَ من مكانته عالميًّا، فكان سببًا رئيسيًّا في ظهور إمبراطوريات صناعية هائلة كاليابان وألمانيا.
وفي مصر ربما الوضع مختلف نسبيًّا، إذ يدفع التعليم الفني ثمن النظرة المجتمعية الدونية له، والتي كانت سببًا رئيسيًّا في العزوف الجماهيري عنه، إلا أنه في الآونة الأخيرة بدأت الصورة بالتغيُّر نسبيًّا بعدما استقرَّ في يقين الجميع أن المستقبل لن يكون إلا لأصحاب المهن والصناعات والقدرات الفنية المتميزة.
ومع تراجُع حضور التعليم والدراسات النظرية التي تعجُّ بها الجامعات المصرية، بدأ التحول تدريجيًّا إلى قطاع التعليم الفني الذي يعاني من أزمات حادة تجهض كافة مخرجاته الإيجابية وتفقده هويته، الأمر الذي دفع بخبراء التعليم والتنمية في مصر لدقِّ ناقوس الخطر، مطالبين الدولة بإعادة النظر في هذا الملف، وأن يوضَع تحت مجهر الاهتمام الرسمي والشعبي.
مكرمة ملكية
أول من وضع اللبنة الأولى في بناء التعليم الفني في مصر، هو محمد علي باشا (1769-1849) حين افتتح مدرسة “الدرسخانة” وسط القاهرة لتعليم الطلاب “أصول الزراعة” عام 1829، لتصبح أول مدرسة مصرية للتعليم الفني، وكان المناخ حينها مؤهَّلًا لهذا النوع الجديد من التعليم غير المعروف في المحروسة.
ويحسَب للعهد الملكي بصفة عامة السبق في نقل التجارب العالمية المتطوِّرة في التعليم والصناعة للداخل المصري، حيث بدأ بالاستعانة بالخبراء والمتخصّصين في المجالات الفنية بصفة عامة، هذا بخلاف إيفاد البعثات المصرية للخارج كنواة لمجتمع الفنيين والباحثين والمؤهَّلين علميًّا وأكاديميًّا وفنيًّا.
كان الهدف الرئيسي لتلك المدرسة تحصيل فنّ الفلاحة وعلم الزراعة، حيث آمنَ محمد علي أن تقدُّم الدولة في كافة المجالات يعتمدُ بالأساس على النهوض بقطاعَي الزراعة والصناعة، وعليه تمّت ترجمة هذا التوجُّه إلى استراتيجيات وخطط مدروسة على أرض الواقع.
كان مقرّ “الدرسخانة” غير مناسِب لترجمة فكر الوالي، كونها في مكان غير زراعي، بالقرب من مجلس المشورة حينها، فلم تلبث إلا قليلًا حتى تحوّلت من تعليم الطلاب فنون الزراعة إلى إعدادهم كموظفين حكوميين للعمل في دواوين الدولة.
عامًا تلو الآخر خطت مصر بفضل النقلة الكبيرة في التعليم الفني خطوات كبيرة نحو إعادة التموضع على خارطة الاقتصاد العالمي، متقدمة بمسافات كبيرة على العديد من الدول التي كانت تسبقها بسنوات ضوئية بعيدة.
واستعاضةً عن ذلك أنشأ محمد علي مدرستَين زراعيتَين، الأولى مدرسة شبرا بمحافظة القليوبية عام 1833، والثانية في نبروه بالدقهلية عام 1836، وكانت الأخيرة مدرسة نموذجية من الطراز الأول، حيث أُلحقت بها مزرعة بلغت مساحتها 2001 فدان، ما أتاح للطلاب تعلُّم فنون الزراعة والمحاصيل بشتى أنواعها، صيفًا وشتاءً.
ومن رحم هاتين المدرستَين نشأ فرع جديد في منظومة الصناعة المصرية، يتعلق بالصناعات الزراعية التي كانت باكورة الإنتاج الصناعي الوطني، فكانت زراعات القمح والشعير والعدس ومعها صناعة الأجبان والألبان والمواد الغذائية المعلَّبة.
ونتاجًا لهذا الفكر المتطوِّر في إدارة العملية التعليمية، استحدثت مصر زراعة أصناف جديدة لمحاصيل تقليدية كالقطن، فتحوّلت إلى منافس قوي للهند والولايات المتحدة في زراعة القطن طويل التيلة الذي تحول إلى محصول قومي فيما بعد.
وعامًا تلو الآخر خطَت مصر بفضل النقلة الكبيرة في التعليم الفني -الذي بدأ يتّسع أفقيًّا ورأسيًّا بشكل مميز- خطوات كبيرة نحو إعادة التموضع على خارطة الاقتصاد العالمي، متقدمة بمسافات كبيرة على العديد من الدول التي كانت تسبقها بسنوات ضوئية بعيدة.
ثورة يوليو والتوسُّع الأفقي
مع ثورة يوليو/ تموز 1952 زادَ الإقبال على التعليم الفني، بعدما باتت هناك ضرورة ملحّة لتوفير الأيدي العاملة الماهرة لتلبية احتياجات الصناعات التي خرجت للنور، هذا بجانب المشاريع الأخرى التي ظهرت في ذلك الوقت وعلى رأسها مشروع السدّ العالي.
وخلال عقدَي الخمسينيات والستينيات تمَّ ترسيخ عُرف تعليمي جديد، ينطلق من قاعدة بناء مدرسة على الأقل لكلِّ مجال من مجالات التعليم الفني في كل محافظة (مدرسة زراعية وأخرى صناعية وثالثة تجارية)، الأمر الذي زاد من أعداد الخريجين العاملين في تلك المجالات.
الأمر لم يتوقف عند تلك المدارس وحسب، بل نهضت عدة وزارات بإنشاء مراكز للتعليم الفني التابعة لها، كوزارات الصحة والدفاع والكهرباء، بخلاف بعض الكيانات والمؤسسات الرسمية كهيئة قناة السويس وشركة المقاولين العرب، فظهرت مدارس التمريض والتلمذة الصناعية ومدارس البريد ومدارس وردان للسكك الحديدية ومراكز التدريب المهني.
بعد أن كان على رأس قائمة الأولويات، وتفوّقه على التعليم العام لفترة امتدّت إلى نصف قرن، سرعان ما تراجع التعليم الفني بصورة كبيرة خلال العقود الأخيرة حتى فقد قيمته وقامته معًا، وكأنه تعرّضَ لحملة تصفية ممنهَجة.
ومع منتصف الثمانينيات حدثت طفرة كبيرة في أعداد المقبلين على التعليم الفني، إذ تشير بعض التقديرات الرسمية إلى أن عدد المقبولين في التعليم الفني من الحاصلين على الشهادة الإعدادية خلال العام الدراسي 1974-1975 بلغ 115 ألف طالب، بما نسبته 42% من إجمالي طلاب المرحلة الإعدادية، ثم ارتفعت تلك النسبة لتصل إلى 54.1% خلال العام 1982-1983.
ووفق دراسة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (حكومي) حول قضايا التعليم في مصر، كشفت أن عدد الملتحقين بمدارس التعليم الفني خلال العام 2013-2014 بلغ مليونًا وأربعمئة وثلاثين ألف طالب، منهم 790 ألف طالب بالمدارس الصناعية فقط.
وعلى مدار ما يقارب نصف قرن تقريبًا كان التعليم الفني على رأس قائمة الأولويات، حتى أنه تفوق وبشكل كبير على التعليم العام، إذ استحوذ على 65% من إجمالي الطلاب مقابل 35% للتعليم الثانوي العام، لكن سرعان ما تبدّلت الأحوال ليتراجع التعليم الفني بصورة كبيرة خلال العقود الأخيرة حتى فقدَ قيمته وقامته معًا، وكأنه تعرّضَ لحملة تصفية ممنهَجة.
مسؤولية مشترَكة
لا تعكس لغة الأرقام حقيقة الوضع ميدانيًّا، فرغم الفارق الكبير في أعداد المنتسبين إلى المدارس الفنية مقارنة بغيرها من مدارس الثانوية العامة، إلا أن الفارق هنا لا يمثّل دلالة في موقع هذا النوع من التعليم على قائمة أولويات الدولة بصفة عامة.
أحدث الإحصاءات تشير إلى أن من يدرسون في مدارس التعليم الفني يتجاوز عددهم مليون و645 ألف طالب، نصفهم تقريبًا فى المدارس الصناعية، مقابل مليون ونصف تقريبًا في الثانوي العام، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا يدرس هؤلاء؟ وهل المناهج المخصَّصة لهم تؤهِّلهم لسوق العمل؟
الأرقام الصادرة بشأن قوة العمل طبقًا للحالة التعليمية تشير إلى تفوق التعليم الفني الذي يشكّل نحو 34.8% من حجم سوق العمل، مقابل 4.6% لحَمَلة المؤهّلات فوق المتوسطة وأقل من الجامعة، وتشير تلك الأرقام إلى صدارة التعليم الفني لقائمة احتياجات سوق العمل.
التجاهل الرسمي والنظرة الدونية المجتمعية انعكست بصورة كبيرة على جودة التعليم المقدَّم في المدارس الفنية بصفة عامة، وعلى نوعية البرامج التدريبية المقدَّمة للطلاب.
لم تُولي الدولة اهتمامًا كبيرًا بالتعليم الفني رغم اتِّساع رقعته، إذ إن الغالبية العظمى من الملتحقين به يكون نتيجة عدم حصولهم على الدرجات المؤهِّلة للثانوية العامة، ولم يعد أمامهم سوى المدارس الفنية، والقليل فقط من يلتحق بهذا النوع من التعليم كرغبة أولى له، هذا في الوقت الذي يحتلّ فيه التعليم الثانوي نصيب الأسد من الاهتمام الرسمي والشعبي، وهو ما يمكن أن تترجمه التغطيات الإعلامية لكل من النوعَين.
الكثير من الخبراء أرجعوا أزمة التعليم الفني في مصر إلى نظرة المجتمع الدونية له، فغالبًا ما ينظر إلى طلابه الذين لم يحالفهم الحظ في الالتحاق بالمدارس الثانوية العامة على أنهم من غير المتفوقين، وربما طلاب درجة ثانية، وعليه ارتبط هذا التعليم في مخيلة الكثير من المصريين بـ”الدونية والتهميش”.
التجاهل الرسمي والنظرة الدونية المجتمعية انعكست بصورة كبيرة على جودة التعليم المقدَّم في تلك المدارس بصفة عامة، وعلى نوعية البرامج التدريبية المقدَّمة للطلاب، ومن ثم باتَ من الصعب اكتشاف فنيٍّ ماهر من خريجي تلك المدارس، ليتصدّر المشهد أصحاب الحرف المتوارثة غير المتعلمين.
استفاقة متأخِّرة
أثبتت التجربة أن النسبة الأكبر من خريجي الجامعات من دارسي العلوم النظرية باتوا عبئًا على كاهل الدولة، التي تبحث وبمبدأ برغماتي بحت عمّن يدفع قاطرتها التنموية للأمام، هذا في الوقت الذي تعاني فيه المناهج الجامعية من فجوة كبيرة بينها وبين سوق العمل.
نظرة سريعة على المقاهي المصرية في شتى المحافظات، يلاحَظ أن معظم روادها من خريجي الجامعات، ممن ينتظرون التعيين الحكومي المجمَّد منذ سنوات، بينما زملاؤهم من خريجي المدارس الفنية ينخرطون في سوق العمل كل حسب تخصُّصه.
وانطلاقًا من تلك المعطيات، حاولت الحكومة المصرية من خلال وزارة التربية والتعليم أن تنقذ ما يمكن إنقاذه، خاصة بعد التوجُّه العالمي لتطوير التعليم الفني بصفته المجال الأبرز على قائمة اهتمامات حكومات العالم.
وعليه قدّمت وزارة التعليم عددًا من المبادرات التي تهدفُ لتحسين صورة التعليم الفنّي وتعزيز حضوره مجتمعيًّا، وحثّ الشباب على الانخراط فيه بدلًا من التعليم الجامعي غير المفيد، فكانت مبادرة “اشتغل فني” تهدف إلى تخريج فنيين في عدة قطاعات صناعية مهمة، على رأسها السياحة والغزل والنسيج، كذلك هناك مبادرتا “شيف المستقبل” و”صنّاع ملابس مصر”.
الكرة الآن باتت في ملعب الدولة، فإن كان لديها الرغبة في اللحاق بركب التقدم وفق أبجدياته المتطورة فعليها إعادة النظر في خارطة التعليم الفني، سواء من حيث المناهج أو ربطه بسوق العمل.
تهدف تلك المبادرات إلى خلق جيل جديد من الكوادر المهنية الاحترافية في المجالات سالفة الذكر، وبناء قاعدة كبيرة من المهارات تسمح برفع مستوى الإنتاجية بما يساعد على تصدير العمالة المصرية المؤهَّلة للخارج بأجور ورواتب مجزية.
البيئة في مصر مهيأة تمامًا لاستيعاب أكبر قدر من خريجي التعليم الفني، حيث وصلت مساحة الأراضي المزورعة عام 2016-2017 إلى 9.1 مليون فدان منها 59.2 ألف فدان فقط ما تمَّ استصلاحه، بينما وصل عدد المنشآت الصناعية في الربع الرابع من عام 2018 إلى 3163 منشأة، منها 314 منشأة بالقطاع العام مقابل 2849 منشأة قطاع خاص، وفق إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
الكرة الآن باتت في ملعب الدولة، فإن كان لديها الرغبة في اللحاق بركب التقدم وفق أبجدياته المتطورة فعليها إعادة النظر في خارطة التعليم الفني، سواء من حيث المناهج أو ربطه بسوق العمل، وإلا فالوضع من المحتمل أن يزداد سوءًا، وهو ما يمكن قراءته بصورة نسبية إزاء الهجرة الجماعية من التعليم العام إلى الأزهري رغم صعوبته، ما اعتبر ناقوس خطر يجب أن يستمع إليه القائمون على أمور البلد قبل فوات الأوان.