يترقّب العالم كواليس محاكمة حميد نوري، نائب المدّعي العام الأسبق، والمسؤول الإيراني رفيع المستوى، الذي قُبض عليه من المطار في السويد عام 2019، بتُهم تتعلّق بارتكاب جرائم حرب وقتل وتعذيب آلاف السجناء في الثمانينيات، لتبدأ محاكمته بعد عامَين من التحقيقات وبعد أيام قليلة من تولّي إبراهيم رئيسي مهام الحكم في الجمهورية الإيرانية، في مصادفة لا تخلو من دلالات لا حصر لها.
ويعتبر الرأي العام الغربي أنَّ القبض على شخص بحجم حميد نوري، صيدٌ ثمين للعدالة الدولية، لا سيما أنها أول محاكمة لمسؤول إيراني منذ ثمانينيات القرن الماضي، في مذبحة تاريخية ما زالت تثير فضول العالم.. لكن كيف جرى القبض عليه، وبأي صيغة قانونية تُجرى محاكمته، وما المنتظَر الكشف عنه؟
مطلوب للتحقيق
عبر معلومات استخبارية عرفَت السلطات السويدية بقدوم حميد نوري إلى البلاد على متن طائرة قادمة من إيران، وعلى الفور جرى إبلاغ الشرطة ليتمَّ أخذه حميد إلى مقرّ احتجازه مباشرة، واستمرت التحقيقات معه نحو عامَين.
تبيّن منها أن نوري مستهدف حاليًّا بنحو 30 شكوى من جانب ضحايا أو شهود أو أقرباء ضحايا، في المذبحة التي ارتكبتها السلطة في إيران عام 1988 ضد المعارضين السياسيين من كل التوجُّهات، واتّهمَهُ مكتب المدعي العام السويدي بانتهاك القانون الدولي والقتل مع سبق الإصرار.
حميد نوري من مواليد عام 1961، وهو معروف بعلاقاته الوثيقة بنظام الخميني، وتكشف سيرته الذاتية ذلك، حيث تولّى عدة مناصب حساسة أهمها المدّعي العام بعد الثورة الإيرانية عام 1978، وشغلَ عضوية لجنة الإعدام بجوهاردشت، كما كان له اسم مستعار هو حميد عباسي، وخلال فترة حكمه جرى إعدام أكثر من 2700 شخص من معارضي جمهورية إيران الإسلامية من مختلف الفصائل، كما كان مقرّبًا من الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي.
ردّ فعل إيران
وفي أول ردٍّ رسمي من إيران، بدا واضحًا أنها استقلبت الرسالة جيدًا، وأصبحت تعرف أن هناك ربطًا لا يحتمل اللَّبس بين توقيت المحاكمة وتولية الرئيس الجديد، ما يعني أن الغرب سيستخدم هذه الورقة لممارسة ضغوط مكثَّفة على الإدارة الجديدة في ملفات معيّنة، منها ملف حقوق الإنسان لإجبار طهران على الرضوخ للشروط الغربية.
لكن الخارجية الإيرانية لم تستسلم ولجأت إلى سياسة تصدير الضغوط للسويد، واتهمتها بالمشاركة في حملة دعائية ضدها، وأدانت عملية القبض على نوري على لسان خطيب زاده متحدِّثها الرسمي، واتهمتها بالتآمر على الجمهورية الإسلامية مع منظمة مجاهدي خلق، المسؤولة بنظره عن سفك دماء 17 ألف مواطن إيراني، مشدِّدًا على أن دبلوماسية بلاده ستستخدم كل الوسائل المتاحة لحماية حقوق حميد نوري.
أرشيف عن إعدامات عام 1988
على مدار أكثر من 5 أشهر، وبفتوى موثَّقة من الخميني، بدأت السلطة الفتك بالمعارضين عام 1988 الذين اعتبرهم المرشد الأعلى للثورة الإيرانية أعداء الله ورسوله المرتدّين عن الإسلام.
لاحقت السلطة آلاف السياسيين من جميع أنحاء إيران، أغلبهم من مؤيّدي وأنصار منظمة مجاهدي خلق، التي صنّفها النظام على قائمة المنظمات الإرهابية، ومعها فصائل من اليسار، وأدّت هذه الإعدامات إلى اندلاع أعمال عنف شرسة سجّلها التاريخ الإنساني كواحدة من أكثر المذابح دموية.
حتى الآن لا يزال العدد الدقيق للسجناء الذين حُكم عليهم بالإعدام محلَّ خلاف في الأوساط الدولية المعنية بالقضايا الحقوقية، حيث سجّلت منظمة العفو الدولية على سبيل المثال أكثر من 4482 سجين اختفوا خلال ذلك الوقت، لكن المعارضة الإيرانية، وخاصة منظمة مجاهدي خلق، تشير إلى أن عدد السجناء الذين أُعدموا بين 8 آلاف و30 ألف سجين سياسي.
الولاية القضائية للسويد
الضجّة التي افتعلتها إيران بعد القبض على حميد نوري، حقّقت الهدف بإثارة الجدل حول قانونية محاكمة المسؤول السابق في السويد، والتي يُفترض أنها ستستمرّ حتى أبريل/ نيسان 2022، بحضور عشرات الشهود، وحتى تتنصّل إيران لاحقًا من أي اعترافات تكشف الكثير من خبايا القضية والمسؤول عنها، وعلى رأسهم الرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي، الذي تتّهمه عائلات الضحايا بلعب دور بارز في الإعدامات.
في المقابل، برهنت السويد على قانونية المحاكمة بلوائح “الولاية القضائية العالمية“، التي تجيز للمحاكم الوطنية محاكمة أفراد من دول أخرى حول الجرائم الخطيرة التي تُرتكَب ضدّ القانون الدولي، مثل جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية والتعذيب.
ومعروف أن إجازة الولاية القضائية العالمية تُبنى بالأساس على مبدأ أن مثل هذه الجرائم تضرُّ بالنظام الدولي نفسه، وخاصة عندما تغيب أُسُس العدالة التقليدية والولاية القضائية الجنائية في الدول التي وقعت فيها هذه الجرائم.
وبالتالي يمنحُ القانون الدولي البلدان المختلفة الأعضاء في الأسرة الدولية حقّ الفصل في القضايا التاريخية، وتسليط الضوء على الجرائم البشعة، ولا يشترط القانون وجود أي صلة بين الدولة التي تقوم بالمقاضاة والمكان الذي ارتكبت فيه الجرائم أو الضحايا المتضرّرين.
ومن المهم أن تكون المحاكم الوطنية التي تمارسُ هذه الولاية تتبنّى تشريعات تعترفُ بالجرائم ذات الصلة، وتسمح بمقاضاتها، فضلًا عن أن يكون سجلّ الدولة نفسه يتماشى مع الأدبيات الحقوقية العالمية والقانون الدولي.
دعا أكثر من 150 شخصية، بعضهم حائز على جائزة نوبل ورؤساء دول سابقون ومسؤولون سابقون في الأمم المتحدة، إلى إجراء تحقيق دولي في عمليات القتل الجماعي التي أمرَت بها الدولة الإيرانية عام 1988.
وهنا يتمّ تفويض التشريع الوطني بموجب العديد من الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، للتصدي للانتهاكات قانونيًّا.
ولهذا تلجأ البلدان الغربية إلى سلاح الولاية القضائية العالمية بشكل مكثّف، استنادًا على مطالبة محكمة العدل الدولية بضرورة التزام الدول إمّا بمقاضاة مرتكبي الجرائم البشعة وإمّا تسليمهم إلى دولة أخرى لديها اختصاص قضائي لمحاكمتهم، استجابة لضغوط المجتمع المدني والنشطاء، وهو ما يحدث الآن في محاكمة نوري.
فقد دعا أكثر من 150 شخصية، بعضهم حائز على جائزة نوبل ورؤساء دول سابقون ومسؤولون سابقون في الأمم المتحدة، إلى إجراء تحقيق دولي في عمليات القتل الجماعي التي أمرت بها الدولة الإيرانية عام 1988.
وفور القبض على حميد نوري، انطلقت الإشادات من كل المؤسسات المعنية بإنفاذ القانون الدولي، وبدا لافتًا منها بيان شبكة مراسلين بلا حدود، الذي أكّد أن بدء محاكمة نوري في ستوكهولم انتصار لضحايا الصحافة الذين قُتلوا في الإعدامات نفسها، لمجرّد نشاطهم الصحفي في تغطية الأحداث.
مستقبل رئيسي
رغم إلقاء القبض على حميد نوري عام 2019، إلا أن القضية أخذت أبعادًا تصعيدية بعد فوز إبراهيم رئيسي مباشرة، وانعقدت أولى جلسات المحاكمة بعد حوالي أسبوع فقط من تولّي رئيسي السلطة رسميًّا في 3 أغسطس/ آب الماضي، لتبدأ ملاحقات سُمعة الرجل بجرائم ضد الإنسانية والقتل الجماعي والتعذيب وغيرها من الأعمال الوحشية التي تنتقص من مكانة الناس، حيث تُعتبَر جرائم الإبادة الجماعية من أخطر الجرائم المعترَف بها دوليًّا.
تتهمُ منمظة مجاهدي خلق إبراهيم رئيسي بأداء دور بارز في لجنة الموت، التي أعطت الضوء الأخضر لقتل أعضاء المعارضة الذين تمسّكوا بأيدلوجياتهم وأفكارهم، ولم يوفِّر لهم إلا محاكمات صورية دامت دقائق، ثم دُفنوا في مقابر جماعية مجهولة المكان حتى الآن، في الوقت الذي حصل رئيسي وكل أعضاء لجنة الموت على مناصب كبرى، لكنهم تلطّخوا للأبد بهذه التهمة، وأصبح جائزًا لأي مكان في العالم اعتقالهم لدورهم في المجزرة.
استندت منظمة مجاهدي خلق في توثيق أدلتها على اتهامات حسن روحاني، الرئيس السابق لإيران، لإبراهيم رئيسي خلال التنافس بينهما عام 2017، بإنه رجل لا يعرف شيئًا سوى كيفية إعدام الناس، وبرّرَ روحاني رفض كل البلدان الغربية استضافة رئيسي في اجتماعات ثنائية متعلِّقة بالملفات التي كان يعمل عليها ممثِّلًا عن السلطة الإيرانية بسبب تاريخه الأسود.
وبحسب القانون الدولي، يتمتّع الرؤساء ورؤساء الوزراء والقادة والملوك والملكات تلقائيًّا بالحصانة السياسية والدبلوماسية، ما يعني أنه ليس ممكنًا اعتقالهم في دولة ثانية إلا بعد مغادرتهم مناصبهم، لكن هناك استثناءات لهذه القاعدة، إذا قررت محكمة دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، أن شخصًا ما مشتبه في ارتكابه جريمة ضد الإنسانية، يمكنها أن تأمر باعتقاله من قبل أي حكومة، وهو أمر منتظَر في نهاية محاكمة نوري وما سيعترفُ به ضد رموز السلطة الإيرانية، بما فيهم الرئيس الحالي نفسه.
تقول معطيات الأحداث، خاصة في ظل محاولات الغرب المستمرة لإيجاد مخرج للبرنامج النووي الإيراني، إن إبراهيم رئيسي لن يتعرّض للاعتقال أو لأي أذى أثناء رحلاته إلى الدول الغربية، لكنه سيواجه رئاسة مؤلمة ومضطربة، بجانب تطبيق المزيد من العقوبات على الدولة الإيرانية وأي دولة أخرى ستحاول إقامة علاقة معها بعيدًا عن أعين النظام الدولي وأعرافه، في ضوء ما سيسفر عن محاكمة حميد نوري عن جريمة ما زالت تهزّ العالم وتدمي قلوب عائلات الضحايا.