الإفراج عن الساعدي القذافي وبعض رموز النظام الليبي السابق، إضافة إلى عودة ظهور سيف الإسلام إلى الواجهة بعد اختفائه عن الأضواء، من شأنهما أن يُعيدا خلط الأوراق في ليبيا ويُعقّدا المشهد السياسي المضطرب، في بلد يتهيّأ لانتخابات مقرَّرة في 24 ديسمبر/ كانون الأول بحسب الاتفاق السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة.
إطلالة النظام السابق في هذا التوقيت يُشير إلى أنّ الملف الليبي سيعرفُ تغيرات جوهرية على مستوى خارطة الفاعلين المحليين والدوليين، فعودة سيف الإسلام صاحب مشروع ليبيا الغد، قبل انهيار سلطة معمر القذافي بعد ثورة 17 فبراير/ شباط، تُدلِّل على إمكانية طرحه كخيار ثالث بين معسكرَين أحدهما غربي يمثّله شخصيات قادرة على خوض الاستحقاقات القادمة، كعبد الحميد الدبيبة رئيس الحكومة وفتحي باشاغا وزير الداخلية السابق، وآخر شرقي يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس برلمان طبرق عقيلة صالح.
عودة رموز القذافي
في الفترة السابقة، أُفرج بشكل متواتر عن شخصيات مقرَّبة وتابعة للرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، فقد أطلقَت السلطات الحالية الممثَّلة بحكومة الوحدة الوطنية سراح 3 شخصيات تُعتبر من أعمدة النظام السابق، وهو نجله الساعدي القذافي الذي كان قائدًا للقوات الخاصة الليبية قبل الثورة، ومدير مكتب معلوماته أحمد رمضان، إلى جانب ناجي حرير القذافي القيادي الأمني البارز فترة حكم معمر القذافي، وهي شخصيات لا تزال مهمة لدى أنصار النظام السابق والقبائل الموزَّعين على كافة المدن الليبية، وتحظى بالثقة والاحترام.
المرجّح أيضًا أن تشملَ الإفراجات كذلك مدير مخابرات القذافي عبد الله السنوسي، وعبد الله منصور الذي يعدّ أحد أبرز وجوه النظام السياسي في ليبيا وأكثرهم تأثيرًا وسلطة على القبائل، حيث تولّى خلال المرحلة الأخيرة من حكم العقيد منصب مدير الأمن الداخلي، وذلك في حال نجحت مساعي المصالحة بين القبائل الليبية الكبرى.
وقامت أيضًا حكومة الوفاق الليبية السابقة، برئاسة فائز السراج، بإطلاق سراح كل من البغدادي المحمودي آخر رئيس وزراء، ومدير الأمن الخارجي بوزيد دوردة، وكذلك مدير الأمن الوطني ميلاد دامان، لدواعٍ صحّية، ما يعني أن أغلب المسؤولين في نظام العقيد معمر القذافي باتوا خارج أسوار السجون، وعودتهم إلى الساحة مسألة وقت وإشارة خضراء من الداعمين.
أبواب العودة
تفتحُ إطلالة رموز النظام السابق وخروجهم من السجون المجال للتكهُّن بعودتهم القريبة إلى الأضواء، وإمكانية مشاركتهم في الحياة السياسية في الفترة المقبلة من أبواب متفرِّقة، فالاستحقاقات الانتخابية المقبلة قد تكون ساحات لنشاطهم استعدادًا لدخول البرلمان وسباق الرئاسة، وذلك في ظلِّ وجود إجماع لدى أنصار النظام السابق ورجالاته ومسؤوليه، بضرورة ترشيح سيف الإسلام القذافي ودعمه كواجهة تمثلهم جميعًا.
فإن التيار الموالي للنظام السابق سيكون له حضور لافت ووازن في المشهد السياسي القادم في ليبيا، في ظلِّ انفتاح جميع الأطراف الداخلية والدولية على فكرة عدم إقصائهم وإشراكهم في عملية المصالحة والتسوية السياسية، وآخرها مدينة مصراتة.
في السياق ذاته، فإن الانقسام الليبي الحالي وانعدام تيار التواصل بين الغرب والشرق، أفرزا صعود صوت ثالث ينادي ببديل قادر على توحيد الليبيين وجمعهم على كلمة سواء، يرجَّح أن تكون شيفرته المصالحة بين القبائل، وبالتالي إن عودة وجوه النظام السابق رسميًّا إلى السلطة عبر الانتخابات البرلمانية والبلدية القادمة، بمنظورهم، حاجة اقتضتها الضرورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفرضتها حصيلة 10 سنوات من فتنة أرهقَت المواطنين.
لذلك بات شبه مؤكّد أنّ نظام العقيد معمر القذافي سيجمع شتاته قريبًا، ويرتِّب بيته المتداعي ليُشارك في الانتخابات المقبلة بوجوه جديدة يُمثِّلون أعيان وممثّلي القبائل، الذين دفعوا مؤخّرًا المواطنين للتسجيل بكثافة في الانتخابات من أجل ضمان مشاركتهم في التصويت، فيما سيُناط بعهدة رفقاء العقيد دعم المرشحين من خلال شبكة علاقاتهم القَبَلية والدولية.
عملية التحشيد لدعم عودة النظام السابق بدأت منذ فترة عندما ظهر سيف الإسلام القذافي (48 عامًا)، الذي أُطلق سراحه في يونيو/ حزيران 2017، بعد اعتقاله لـ 6 سنوات على يد إحدى الميليشيات في مدينة الزنتان (جنوب غرب طرابلس)؛ في مقابلة مع صحيفة “نيورك تايمز” الأميركية، وتواتُر الأنباء عن اعتزامه الترشُّح لرئاسة ليبيا بعد أن صرّح بأن عودته ستكون تدريجية، ما يعني أن نجل العقيد أجرى مناوراته واتصالاته من خلف الكواليس.
في غضون ذلك، يعوِّل سيف الإسلام ورجالات النظام السابق على استمرار التنافر والاقتتال بين الغرب والشرق والانسداد السياسي لتمرير مشروعهم السياسي، لذلك سيعملون أولًا على تعزيز مكتسباتهم عبر البحث عن أفضل السُّبُل القانونية (منع الإقصاء) التي تضمن لهم الترشُّح للانتخابات القادمة، وإذا تمَّ منعهم سيعملون على استثمار ذلك بتبنّي خطاب الاضطهاد وفرض خطابهم الشعبوي.
أمّا الوسائل المادية واللوجستية، فهي متوفِّرة وتحت تصرُّفهم، فإلى جانب رجال الأعمال الفارّين، يسيطر أحمد قذاف الدم، ابن عم القذافي، على أموال طائلة قادرة على تمويل مشروعهم السياسي، فيما توفِّر قبائل بني وليد والأصابعة وسرت وبعض قبائل الجنوب والشرق الدعم البشري والقاعدي لخوض الانتخابات.
صفقة الدبيبة؟
بحسب المسار السياسي الحالي الذي أفرزَ المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية برعاية أُممية، من المقرَّر أن تشهد ليبيا انتخابات برلمانية ورئاسية في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، لكن العقبات التي تحول دون إنجاز الاستحقاق الديمقراطي كثيرة منها تنافر الغرب والشرق وتدخُّل القوى الإقليمية في الملف كل حسب أجندته، سواء كانت سياسية أو اقتصادية.
بالتالي، يُمكن اعتبار أن موجة إطلاق سراح بعض رجال العقيد معمر القذافي وظهورهم على ساحة الأحداث، مؤشِّر قوي لتغيُّر مجرى اتجاهات الرياح السياسية، وهي في مجملها حركة يُراد منها إعادة تموضع وترتيب الأوراق قصد التحكُّم في المسار برمّته قبل الخوض في سباق الانتخابات.
فبعيدًا عن التوصيف القانوني والتشريعي لعملية إخلاء سبيل السبتمبريين والخوض في مسار العدالة والتقاضي، فإن الإجراء يُعدّ سياسيًّا بامتياز، ويمكن تصنيفه على أساس الصفقة بعد قراءتها وتفكيك وتحليل أثر الإفراج عن رموز النظام السابق في هذا الوقت تحديدًا على المسار السياسي والانتخابات وخارطة الفاعلين، وهي كالآتي:
يأتي الإفراج عن الساعدي القذافي وبعض رموز نظام العقيد بعد ظهور سيف الإسلام القذافي، وأنباء عن اعتزام ترشُّحه للانتخابات القادمة، ما يعني أن السلطة في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، الذي لا يُخفي ترشُّحه هو الآخر، يلعب ورقة جديدة لكسر معسكر الشرق بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس برلمان طبرق عقيلة صالح.
يعتبر هذا ردًّا على اعتزام برلمان طبرق النظر في مشروع قانون ينظِّم الانتخابات الرئاسية المرتقبة نهاية العام الجاري يمنع ترشُّح سيف الإسلام القذافي، حيث شدّد رئيس المجلس عقيلة صالح على أنه لا يحقّ لأي شخص محكوم عليه من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية الترشُّح لرئاسة الدولة الليبية، فيما أعلن الدبيبة في وقت سابق أنه لا يعترض على ذلك.
يهدفُ رئيس حكومة الوحدة الوطنية من وراء هذه الحركة، كسب أنصار القذافي الذين سيعطونه قوة دفع كبيرة لتشكيل كتلة انتخابية داعمة له وربما عسكرية لمواجهة حفتر، خاصة بعد استطلاع رأي يُبيّن أن سيف الإسلام القذافي يحظى بدعم وثقة كبيرَين، حيث ذكرت “نيويورك تايمز” أنّ 57% في منطقة واحدة (لم تذكرها) عبّروا عن “ثقتهم” بسيف الإسلام.
من المرجّح أيضًا أنّ مشروع الدبيبة سيتمتّع بتأييد واسع من شأنه أن يزيد من ولاء أنصار القذافي وسيعزِّز الشراكة السياسية معه، بما يسمح بفتح باب التحالُف معهم في الجولة الثانية من الانتخابات إذا جرت في موعدها المحدَّد، وسيتخلّص من منافسة رجال فبراير الذين عجزوا عن إيجاد أرضية صلبة تمكّنهم من تشكيل كتلة سياسية وازنة في لبيبا، وكذلك قيادة الكرامة الممثَّلة في حفتر الذي ركّز على الاستقطاب الأمني لرجال النظام السابق، وأهمل الشخصيات السياسية الوازنة التي تمثِّل وفق منظوره تهديدًا لمشروعه.
دعم دولي
من المؤكد أن رجال النظام السابق سيلعبون، كما في البلدان التي عرفت ثورات شعبية، على العاملَين النفسي والاجتماعي للشعب وعلى ورقة الاقتصاد، وسيفرضون أنفسهم بديلًا سياسيًّا قادرًا على تغيير الوضع القائم، وسيعملون على تقديم أنفسهم للخارج على أساس أنّهم جزء هامّ وأساسي في عملية الاستقرار والبناء الجديد.
هذا الطرح تؤكّده مساعي موسكو لفرض سيف الإسلام القذافي كطرف سياسي فاعل، وكبديل منتظَر قادر على قيادة ليبيا، رغم أن المعروف عنها دعمها العسكري والسياسي المنقطع النظير للواء خليفة حفتر ولرئيس البرلمان عقيلة صالح، وقد بدأت فعليًّا في التسويق لجوادها الجديد في مضمار السياسة الدولي عبر ماكينتها الإعلامية.
فروسيا تعلم جيدًا أنّ عقيلة صالح وخليفة حفتر اسمان غير قادرَين على قيادة ليبيا نحو الوحدة والاستقرار ورعاية مصالحها الاستراتيجية، ودليل ذلك خسارتهما في سباق اختيار السلطة التنفيذية الجديدة، والتي أفرزت صعود محمد المنفي لترؤّس المجلس الرئاسي وعبد الحميد الدبيبة لرئاسة حكومة الوحدة المؤقتة، لذلك الروس ينزلون بكل ثقلهم.
بدورها، فإن القاهرة التي أبدت في وقت سابق عدم معارضتها لترشح سيف الإسلام القذافي في أية عملية انتخابية، ستجدُ نفسها مجبَرة على دعمه، فهي في كل الأحوال تعلمُ أن لا فرصة حقيقية أمام حفتر للنجاح في المسار السياسي المستقبلي لليبيا، وأنه ورقة محروقة استعملتها بعض القوى الدولية لصراعها الإقليمي.
مصر التي ترى دوائرها السياسية والدبلوماسية أن حفتر لن يكون رئيسًا لليبيا تحت أي مسمّى، وأنها استعملته لتُناكف به التغلغُل التركي في المنطقة، وأنه لا يحظى سوى بدعم إماراتي، ستعمل على توزيع دعمها بين سيف الإسلام مرشَّح دوائر النظام السابق، ووزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني، فتحي باشاغا، الذي توصّلت معه في وقت سابق إلى اتفاق بدعمه خلال ترشحه لانتخابات السلطة التنفيذية.
لن يبتعد الموقف المصري كثيرًا عن الموقف الروسي، حيث أكّدت وكالة “بلومبيرغ” في وقت سابق أن موسكو “متأكِّدة” من دعم القاهرة لخطّتها لإعادة حكم القذافي في ليبيا، رغم التلميحات المصرية بأنه من المبكِّر جدًّا أن تقرِّر موقفها النهائي، ما يعني وجود تنسيق ومباحثات بين الدولتَين في هذا الشأن، واتفاق على دعم النظام السابق في المرحلة القادمة.
الأتراك بدورهم يبدو أنهم لا يمانعون عودة نظام القذافي للحكم في ليبيا، لعدة أسباب أولها براغماتية أنقرة في التعامُل مع التغيرات السياسية والجيوستراتيجية، ومن المرجّح أن التنسيق بينهم وبين الروس كبير جدًّا وعلى أعلى مستوى، سواء في سوريا أو ليبيا، ما سيكون له دور كبير في بلوَرة الموقف التركي.
من جهة أخرى، لا ترى تركيا في سيف الإسلام أو النظام القديم عدوًّا أو تهديدًا لوجودها مثل اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والشاهد معارضتها لتدخُّل الناتو عام 2011، ما يعني أنّه بالإمكان التعامل معهم والتواصل بما يخدم مصالحهم الحيوية في ليبيا خاصة وفي إفريقيا عامة، وهي غير مستعدة لخسارة مجال جغرافي يمثِّل امتدادًا لمشروعها السياسي والاقتصادي.
عمليًا، الأتراك سيطوِّعون مساعي الروس لتحقيق بعض النقاط ضد خصومهم، فسيعملون على ربط قنوات التواصل مع سيف الإسلام وبعض رجالات النظام القديم لمناكفة مصر وإصابة قوة حفتر في مقتل، ودليل ذلك التقارير التي أفادت بمغادرة نجل القذافي الساعدي إلى تركيا بعد خروجه مباشرة من السجن.
أمّا فيما يتعلق بالقوى الغربية الأخرى، فمن المرجّح أن ترجع خطوة إلى الوراء في ظل التغيُّرات الإقليمية الحاصلة في المنطقة، خاصة بعد الانقلاب الدستوري في تونس بقيادة قيس سعيّد، وخسارة الإسلاميين في الانتخابات التشريعية في المغرب، ما يعني أنّ تخوفهم من نتائج الانتخابات القادمة في ليبيا سيحدِّد خيارهم.
ويتخوّف الغرب من صعود الإسلاميين في الانتخابات التشريعية والرئاسية في ليبيا، خاصة أنّهم يحظون بدعم قوي في العاصمة طرابلس ومدينة مصراتة ذات الثقل العسكري والاقتصادي، في المقابل لن يراهنوا على مشروع حفتر وصالح، ما يعني أنّهم سيبتعدون قدر الإمكان عن السقوط في جدلية العسكر والإخوان وسيختارون التعويل على النظام السابق.
نجاح سيف الإسلام في كسر حالة الحصار السياسي والإعلامي مرتبطٌ بمدى قدرته على استثمار المأساة الليبية والصراع السياسي وتشظي المشهد العام، الذي تسبّبت فيه انقسامات الشرق والغرب لمصلحته، والأهم من ذلك قدرته على إرضاء الفاعلين الدوليين بأن مصالحهم الحيوية والاقتصادية والاستراتيجية لن تتضرر بصعوده إلى حكم ليبيا.