في الـ 7 من فبراير/شباط 2019 غادر المخرج المصري خالد يوسف بلاده، هاربًا إلى فرنسا، بعد تسريب مقطع إباحي مصور له مع فنانتين، ثم ألقي القبض عليهما واعترفا بأنه من طلب منهما ذلك، وأنهما خضعا لابتزازه مقابل العمل في السينما، حسبما نشرت صحيفة “الأهرام” القومية.
في الـ31 من أغسطس/آب 2021 عاد المخرج الهارب إلى أرض الوطن بعد غياب دام أكثر من عامين ونصف، فيما استقبله عدد كبير من الناصريين واليساريين وبعض أبواق الإعلام، انتصار الفاتحين، ليعلن استئناف نشاطه الفني مرة أخرى، مؤكدًا أنه لم يرتكب عارًا ولم يخالف أخلاقًا أو قانونًا.
يعد المخرج ابن الـ57 عامًا، الابن المدلل للسلطة الحاليّة، إذ كان أحد الأضلاع الرئيسية التي ساعدت في إخراج مشهد الـ30 من يونيو/حزيران 2013، بالصورة التي أوهمت العالم أن ما يقرب من ثلث الشعب خرج في تلك التظاهرات، وهو الجميل الذي ظل محفورًا لدى دولة ما بعد الـ3 من يوليو/تموز 2013، لترده إليه سريعًا بمنحه مقعدًا بمجلس النواب (البرلمان).
وشهدت العلاقة بين المخرج والسلطة موجات من المد والجزر، ليس في الأيديولوجيا المشتركة بينهما، لكن في طريقة التعبير عنها، وهو ما دفع الثانية لتقليم أظافره عبر “قرصة ودن” تعلم يوسف الدرس منها جيدًا، ليعود رافعًا الراية البيضاء، متخليًا عن طموحه السياسي القديم.
استقبال الأبطال الذي قوبل به الفنان رغم جرائمه الأخلاقية الموثقة بالصوت والصورة، التي راح ضحيتها العديد من الفتيات الحالمات بفرصة أمام شاشات السينما، أثار الكثير من الاستياء لا سيما أمام تلك الحالة الفجة من الازدواجية، بين طريقة التعامل معه وما يعامل به غيره من المعارضين المشتتين خارج أوطانهم دون فرصة للعودة، أو حتى المخطئين ممن تعرضوا للحبس والغرامة لأفعال أقل مما أقدم عليها الفنان الفاتح العظيم.
من هنا كانت البداية
كان يوسف أحد أبرز الأسماء المناهضة لتولي الإسلاميين الحكم في 2012، رغم ادعاءاته المستمرة بالميل نحو الديمقراطية التي جاءت بالإخوان للحكم عبر صناديق الاقتراع، لكن التيار اليساري الذي كان ينتمي إليه بزعامة المرشح الرئاسي الخاسر مرتين، حمدين صباحي، كان لهم رأي آخر.
انضم المخرج الشهير، تلميذ يوسف شاهين، إلى قافلة الثورة المضادة مبكرًا، وذلك عبر “جبهة الإنقاذ” التي كونها عدد من الساسة والمثقفين للتصدي لحكم الراحل محمد مرسي، فيما كان على صلة كبيرة بالمسؤولين في الإمارات، وأثير أكثر من مرة قيامه بدور الوساطة بين الجبهة والمرشح الخاسر أحمد شفيق، في الدولة الخليجية، للانضمام إليها والعمل على الإطاحة بحكم الإسلاميين.
وفي تظاهرات 30 من يونيو/حزيران 2013 التي دعت إليها الجبهة وممولو الثورة المضادة في الخارج، قدم يوسف خدمة هي الأكبر للتيار الذي يمثله، إذ وظف إمكاناته الفنية الكبيرة في إخراج مشهد سينمائي للتظاهرات، كان له تأثيره في إقناع الداخل والخارج أن الشعب المصري شارك عن بكرة أبيه في تلك الفعاليات.
كان المقابل لهذا الدور الكبير لمخرج الأفلام التي غالبًا ما يغلب عليها الطابع الإباحي وتقديم البلاد في صورة مشوهة خارجيًا، أن تم تصعيده للأضواء سياسيًا، فبات أحد الشخصيات التي يشار لها بالبنان، وتحظى بثقة السلطة الجديدة التي منحته مقعد البرلمان عن دائرة كفر شكر بمحافظة القليوبية (شمال).
وهم الديمقراطية
توهم المخرج أن حصانة البرلمان ستمنحه الحق في التغريد خارج السرب قليلًا، وأن المنصب الذي حصل عليه إنما كان بفضل جماهيريته وليس منحة من السلطة كنوع من “رد الجميل ” على دوره في صناعة المشهد المزيف، وعليه بدأ في العبث بما هو مرسوم له.
يبدو أن أحلام الديمقراطية داعبت مخيلات الفنان اليساري، معتقدًا أنه بعد التخلص من حكم مرسي وجماعة الإخوان، أن الدولة بدأت رسميًا في حصاد مكتسبات ثورة 25 يناير، حيث شعارات العيش والحرية والكرامة الاجتماعية، ومن هنا دخل في معارك داخل البرلمان وخارجها، بعضها لم ينل رضا من وضعوه في هذا المنصب.
ورغم أن الفنان كان من أشد الداعمين للرئيس عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية 2014 و2018، على حساب صديقه الأيديولوجي وزعيم تياره الناصري حمدين صباحي، حاول البحث عن حضور أكثر تأثيرًا داخل أروقة البرلمان من خلال العزف على وتر استقلالية الدولة وعدم التفريط في ترابها.
التزم يوسف بالمزاج السياسي لتياره اليساري في الموقف من التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، فكان من المعارضين لتلك الاتفاقية، كما عارض التعديلات الدستورية المقترحة وقتها التي تمهد الطريق نحو بقاء السيسي في الحكم لعام 2030.. وهنا كان لا بد من “قرصة ودن”.
فجأة ودون سابق إنذار خرجت صحيفة “الأهرام” القومية الممولة من الحكومة، في الـ7 من فبراير/شباط 2019، بخبر إلقاء القبض على فنانتين بسبب مقطع فيديو إباحي لهما مع المخرج الشهير، وعليه كان من المتوقع إرسال أمر ضبط وإحضار للفنان المتهم بابتزاز الفتاتين من أجل العمل في أحد أفلامه، لكنه استبق تلك الخطوة بالسفر إلى باريس، دون أن يكلف نفسه بتبرئة ساحة ضحيتاه أو الزود عنهما بعدما زُج بهما في السجن بسببه.
حزمة من التساؤلات فرضت نفسها حينها: من الذي سرب للفنان المقرب من السلطة تلك المقاطع الجنسية الفاضحة؟ ومن يملك القدرة على اختراق هاتفه الشخصي؟ ومن له مصلحة في ذلك؟ وما الدافع والهدف والرسالة من وراء تلك الخطوة؟ أسئلة كثيرة دون إجابات معلنة، لكن الأجواء كانت تشير إلى نية مبيتة لتقليم أظافر الفنان بعد شطحاته البعيدة عن الخط المرسوم له، حتى لو كانت من باب الشعبوية لكسب جماهيرية أكبر ومداعبة أنصاره من التيار اليساري.
وقتها التزم الجميع الصمت دفاعًا عن المخرج الهارب، حتى رفقاء دربه، فيما شن الإعلام حملاته الضارية ضده، في مشهد يشير إلى أصابع توجيهات عليا باستهدافه واغتياله سياسيًا لفترة محددة لحين قراءة المشهد بعين أخرى، وهو ما كان بالفعل، ليخرج خالد يوسف، السياسي المعارض، عن دائرة الأضواء على مدار أكثر من عامين.
التمهيد لاستقبال البطل
من الواضح أن المخرج السينمائي الهارب قد تعلم الدرس جيدًا، ومن هنا ارتأت السلطات أن عامين ونصف من العقاب كافيين لعودة خالد من فرنسا، على أمل الاستفادة منه في مجالات أخرى، غير سياسية بالطبع، خاصة أن الأجواء الفنية الحاليّة في حاجة إليه بعد الفوضى التي تعاني منها الساحة الفنية مؤخرًا.
ومن هنا بدأ الترويج لاستقبال البطل، وبدأت الآلة الإعلامية المدعومة من النظام في الترويج لعودة الفنان لأرض الوطن، فقد قاد الإعلامي عمرو أديب، الذي أجرى معه الحوار الأخير أول أمس، تلك الحملة الممنهجة، عازفًا على وتر أن رحيله كان لأسباب سياسية، في إشارة لمعارضته بيع تيران وصنافير ورفض التعديلات الدستورية الأخيرة.
حاول أديب توظيف مشهد العودة لخدمة النظام الذي يدين له بالولاء التام، لافتًا إلى أن “مصر على أعتاب انفتاح في المناخ السياسي، ليشمل المعارضة غير المتورطة في العنف، وأن المخرج المصري كان من أبرز رجال ثورة 30 من يونيو/حزيران 2013″، حسب وصفه.
قوبل التمهيد لعودة يوسف بسجال إعلامي عبر منصات التواصل الاجتماعي بين رافض ومؤيد، لتأتي واقعة وفاة شقيقه (صلاح) في مارس/آذار الماضي على طبق من فضة، كونها فرصة جيدة – ذات صبغة إنسانية مؤثرة في المصريين – لاختبار رد الفعل الشعبي حيال عودته مرة أخرى.
وما إن وصل المخرج الشهير إلى قريته بمحافظة القليوبية حتى وجد الكاميرات ووسائل الإعلام في استقباله، لتبدأ البث المباشر لمشاركته في جنازة شقيقه، وسط حضور جماهيري كثيف، ومن هنا استقر في يقين رجل الشارع العادي أن هناك نيةً سلطويةً لعودة الفنان مرة أخرى لمصر.
عودته لوطنه للمشاركة في جنازة شقيقه لا بد أن تسبقها رسائل طمأنة من السلطات حتى لا يتعرض للتوقيف والضبط، وهو ما أكدته مواقع مصرية أشارت إلى أن العودة جاءت بعد مفاوضات مع السلطات بعدم ملاحقته قضائيًا أو توقيفه من الأجهزة الأمنية المصرية، لا سيما أنه ليس هناك حكم نهائي ضده، في مقابل عدم المشاركة في أي نشاط سياسي، بل سيركز على عمله في السينما فقط.. وبالفعل شارك الرجل في العزاء ثم عاد لفرنسا مرة أخرى لإنهاء إجراءات العودة بصورة نهائية للوطن.
مخطط غسل السمعة
استيقظ المصريون في الـ30 من أغسطس/آب الحاليّ بصورة نشرها الفنان عبر صفحته على منصات السوشيال ميديا يشير فيها إلى عودته لأرض الوطن بصورة نهائية، لتشتعل الأجواء مجددًا بين مؤيد ورافض لتلك العودة المشوبة بالشك والريبة، التي تحمل الكثير من الرسائل والدلالات.
وتلقائيًا مُنحت قيادة مخطط “غسل السمعة” لخالد يوسف للإعلامي عمرو أديب، الذي حول برنامجه المذاع على قناة “إم بي سي” السعودية، في الآونة الأخيرة، إلى صالون حلاقة لتهذيب وتجميل أصحاب الصور الذهنية المشوهة، فكان الإعلان عن اللقاء المرتقب مع الفنان العائد بعد 30 شهرًا من الهروب.
وخلال دقائق الحلقة التي تجاوزت 70 دقيقة كان العزف مستمرًا على وتر تبرئة ساحة خالد من كل الاتهامات والانتقادات الموجهة إليه، حتى استنكار هروبه دون الدفاع عن الفنانتين اللتين ظهرتا في فيديو جنسي معه، لم يتم التطرق إليه، وعلى العكس من ذلك، وبمنتهى الجرأة وتجاهل المزاج الشعبي قال: “لم أرتكب عارًا ولم أخالف قانونًا أو أخلاقًا، بل دفعت ضريبة نتيجة مواقف أخذتها”.
وسرعان ما عاد خالد لسيرته الأولى، حيث مهاجمة الإخوان، كونه الطريق الأسرع والأقصر للحصول على الرضا السامي للنظام والشارع معًا، مؤكدًا: “أنا من يوم ما وعيت ضد الإخوان، ولغاية ما أفقد الوعي أنا ضد الإخوان، هم يعتقدون أنني حينما أختلف مع النظام يمكن أن أرتمي في أحضانهم وهذا لا يمكن أن يحصل…، وقلت للذين قابلتهم منهم أنه حتى لو حصل صدام بيني وبين النظام لا يمكن أن أقول أنني أخطأت في مناصرتي لـ30 يونيو، ولو حصلت مآلات كارثية على الوطن ككل، لن تكون واحد على مليون من الكارثية، التي كانت ستبقى مصر فيها لو استمر المشروع”.
وفي دقائق معدودة طوى أديب وخالد صفحة الاتهامات الأخلاقية والجنسية والخلافات السياسية لينطلق الحديث سريعًا عن خطة الأخير لاستئناف نشاطه الفني مرة أخرى، في محاولة سريعة لطي صفحة العامين والنصف وفتح صفحة جديدة، مستعرضًا مشروعاته القادمة التي كشفت بطريق غير مباشر عن الكثير من كواليس العودة.
اتصالاته مع النظام
لم تنقطع الاتصالات بين خالد وأجهزة الأمن المصرية طيلة فترة غيابه عن الوطن، وهو ما يعني اتفاق ضمني على قبوله بالعقوبة الموقعة عليه جراء خروجه عن النص أحيانًا، مرتضيًا بها دون أن تؤثر سلبًا على العلاقة الحميمية بينهما، وهو ما كشفه الكاتب الصحافي والقيادي السابق في حزب “الدستور” خالد داوود، الذي شارك في حفل استقبال المخرج العائد ضمن وفد يساري زاره في منزله.
داوود بعدما تعرض لحملة انتقادات كبيرة بسبب زيارته للمخرج صاحب السجل الأخلاقي المشوه، حسبما يصفه نشطاء التواصل الاجتماعي، قدم اعتذارًا لمتابعيه، لافتًا إلى أن زيارته كانت من أجل تسليمه قائمة بأسماء معتقلين من أجل الإفراج عنهم باستخدام اتصالاته مع الأمن.
وقال القيادي السابق في حزب “الدستور” في بيان على صفحته في فيسبوك: “انزعج الكثير من الصديقات والأصدقاء لمشاركتي في عشاء دعا له المخرج خالد يوسف بعد عودته من فرنسا. أنا بتقدم باعتذاري لهؤلاء، وأرجو توضيح النقاط التالية: ذهبت أساسًا لتسليم قائمة بأسماء المحبوسين احتياطيًا منذ عامين أو أكثر لعل وعسى أن يستطيع الأستاذ يوسف المساهمة في إطلاق سراحهم بما له من اتصالات سمحت له بالعودة من فرنسا”.
وأضاف: “شخصيًا، أنا على يقين أن فيديوهات خالد يوسف لم تكن لتنتشر وتتسرب بهذه الطريقة لولا مواقفه الرافضة للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وكذلك رفض تعديل الدستور لكي يتم السماح للرئيس السيسي بالبقاء في الحكم لفترة تبلغ ضعف ما نص عليه دستور 2014، وهو ما حدث أيضًا مع نائب آخر صديق من مجلس النواب بعد إعلانه رفض تعديل الدستور. وكل ذلك يؤكد أن الأمر لم يكن مصادفة بالطبع بالنسبة لخالد يوسف”.
وتابع “كنت أتمنى لو أعرب يوسف عن شعور بالندم أو حتى التعاطف مع السيدات اللاتي تعرضن للسجن وتشويه السمعة والاغتيال المعنوي، بينما هو عاش حياة رغدة في باريس كما قال، وعاد إلى مصر سليمًا معافى دون أن يمسه سوء، بل وتلقى عرضًا لإخراج فيلم ومسلسل تنتجه الشركة المتحدة”.
تلك الاتصالات المستمرة التي وصلت لأعلى المستويات في الدولة، كشف الإعلامي إبراهيم عيسى، في مارس /آذار الماضي، خلال تعليقه على عودة خالد يوسف للمشاركة في جنازة شقيقه، حينها وعبر برنامجه “حديث القاهرة” المذاع على فضائية “القاهرة والناس” قال: “هل مشروعات الدولة وقفت أو أتشلت لما الدولة أفرجت عن المختلفين معها أو المعارضين لسياساتها، مش عارف ليه الانزعاج من عودة خالد يوسف إلى مصر، مش عايز أقولكوا مين اللي اتصل بيه أول ما نزل” واستطرد “واخضكوا ليه، الرئيس السيسي اتصل بيه يعزيه في وفاة شقيقه، وقاله عايز أشوفك قريب، يعني الدولة مستعدة لحوار وقبول واختلاف، يعني الدولة لن تنهار لو شاب كتب تويتة أو عارض في حاجة”.
تتويج التواصل الدائم بين المخرج والجهات السيادية المصرية سيترجم إلى عدد من الأعمال الفنية، إذ أعلن خالد عن تعاون مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، المملوكة للمخابرات المصرية، من خلال مسلسل تاريخي عن الأندلس، بجانب فيلم سينمائي عن إحدى بطولات حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وفي نهاية الحلقة المثيرة للجدل، أعلن المخرج العائد من منفاه، رفع الراية البيضاء، وأنه قد تعلم الدرس، معلنًا اعتزاله العمل السياسي الذي قضى فيه عشر سنوات، وصفها بأنها كانت “مهمة وطنية”، منوهًا أن الفترة القادمة سيكون التركيز فيها على الفن والتعبير عن أفكاره عبر أدواته السينمائية.
تساؤلات دون إجابة
حالة من الاستنكار الشعبي قوبل بها الاستقبال الأسطوري للمخرج الهارب، وحملة غسل السمعة التي تبنتها العديد من وسائل الإعلام، بعضها ممول من الخارج، أثارت الكثير من التساؤلات بشأن الازدواجية التي تتعامل بها السلطة مع المختلفين معها، قد يقرأ البعض هذا التناقض في إطار أن “النظام لا يأكل أبناءه وإن أخطأوا” لكنها القراءة المعززة للقبح لا المطهرة له.
فبينما يسمح لخالد بالعودة رغم اتهامات الفسق وتشويه صورة الدولة وابتزاز الفتيات والزج بهم في أتون الفجور، يمنع آخرين دون إبداء أي سبب، بل إن من يتجرأ منهم ويفكر في العودة يتعرض للاعتقال والتوقيف داخل المطار، من بينهم الكاتب جمال الجمل وغيره، رغم عدم وجود حكم نهائي ضده.
من زاوية أخرى، فالدولة التي نصبت نفسها مؤخرًا المدافع الأبرز على منظومة الأخلاق المجتمعية، مهددة كل من يفكر في خدش حياء المجتمع، سواء بالكلام أم الصور أم الفيديو، بالحبس والغرامة، وهو ما ترجمته مع بعض فتيات التيك توك وغيرهن، إذ بها تفرش الورود أمام عودة المخرج المسرب له مقاطع خادشة للحياه صوت وصورة.
تساؤل طرحه نشطاء: ما الرسالة التي تبعث بها الدولة للأجيال الناشئة من خلال السماح بعودة خالد يوسف رغم علامات الاستفهام التي يواجهها؟! ما الرسالة من الاحتفاء بفنان هرب إلى الخارج وترك ضحاياه دون الدفاع عنه، بل حتى أنصاره من رافعي الشعارات الوطنية التزموا الصمت مع تلك الجريمة، في الوقت الذي ملأوا الحياة ضجيجًا بعد عودته.
حتى الإعلام الذي شن حملاته ضد محمد رمضان وحمو بيكا دفاعًا عن الذوق العام ومراعاة لأخلاقيات المجتمع، إذ به يرحب بمخرج كثيرًا ما قدّم مصر في صورة عشوائيات وخمور ورقص وعري، بل وهو بنفسه متهم بالفساد الأخلاقي! ازدواجية تثير تحفظات وقلق الكثير بخصوص مستقبل هذا البلد.
وبينما كان الناصريون ومعهم اللجان الإلكترونية وعدد كبير من الإعلاميين يرفعون شعارات “الإنسانية” تبريرًا للسماح للفنان بحضور جنازة شقيقه، كانوا يلتزمون صمت القبور حين تصاعدت بعض الأصوات التي تطالب بحضور اللاعب محمد أبو تريكة للمشاركة في جنازة والده، في ازدواجية تعكس برغماتية فجًة.
الصدمة التي تعرض لها البعض كانت في مشاركة بعض الشخصيات ذات الجماهيرية الكبيرة، والمحسوبة على تيار المعارضة، في مولد الاحتفاء بعودة الفنان، من بينهم النواب السابقون أحمد طنطاوي وهيثم الحريري وضياء داوود، ومعهم النائب الحاليّ هيثم الحريري، بجانب الوزير السابق كمال أبو عيطة والصحفي جمال فهمي، وفوقهم جميعًا حمدين صباحي.
منذ رحيل جمال عبد الناصر وتتعامل السلطة مع الناصريين بمبدأ برغماتي بحت، فرغم الأصوات المرتفعة أحيانًا فإنهم في النهاية ميكافيللين بصورة كبيرة، سهل استئناسهم، وليس هناك صعوبة في ضمان ولائهم عبر حفنة من المكاسب السياسية والمادية.
يتخذ أي نظام حاكم من الناصريين، بقاعدتهم السياسية والإعلامية الكبيرة، حائط صد قوي في مواجهة الإسلاميين، وهي السياسة التي كان يعتمد عليها الرئيس الراحل أنور السادات، واستمرت مع مبارك ثم السيسي، لا سيما أن التيار اليساري في مصر بصفة عامة ليس لديه أي غضاضة في التعامل مع أي سلطة بصرف النظر عن خلفيتها الأيديولجية، فتحالفوا مع الوطني والإخوان والجنرالات.
وفي الأخير.. يبقى خالد يوسف “أراجوزًا” في أيدي السلطة، توظفه في أي مكان يخدم أجندتها وتوجهاتها، يتساوى في ذلك الفنان والسياسي والناشط، الكل تحت إمرة النظام، طالما كان الثمن ضمان البقاء بمعزل عن الملاحقات القضائية والأمنية مهما كانت الجرائم المرتكبة، فيما يدفع المعارضون الشرفاء ثمن مواقفهم أرواحًا ودماءً وسنوات من العمر تقضى بين جدران السجون وفضاء الغربة الخانق.