لم تكن العاصمة القطرية الدوحة، خلال الأيام الماضية، أقلّ حراكًا من العاصمة الأفغانية كابل، وإن كانت على أصعدة مختلفة، حيث كانت تشهد حراكًا مكثّفًا لاستكمال الإجلاء الأميركي من الأرض الأفغانية، باعتبارها الوجهة الأولى لكثير من القوات الأجنبية التي غادرت أفغانستان، ولعلّ العدد الأكبر كان من نصيب الأميركيين والمتعاونين معهم وقد تجاوزوا عشرات الآلاف، الأمر الذي أثار الامتنان لدى الدول.
إلى جانب حراك الإجلاء شهدت الدوحة حراكًا دبلوماسيًّا مكثّفًا، آخره زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن منذ أيام، حيث أعرب عن امتنان بلاده لقطر لإسهامها في إنقاذ آلاف الأرواح في أفغانستان، لافتًا إلى أنه “لم يكن ليتحقّق إنجاز الإجلاء دونها”، كما جدّد التأكيد على أن الولايات المتحدة “تتعاون مع قطر وتركيا من أجل إعادة تشغيل الطيران المدني في مطار كابل”.
وقال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إنه “ما كان بالإمكان تحقيق أي إنجاز من دون جهود القطريين”، مثنّيًا على دورهم الكبير في عملية إجلاء عشرات آلاف الرعايا الأجانب في ظروف صعبة وفي فترة زمنية قياسية.
لفتَ الدور القطري خلال الأشهر الأخيرة انتباه العديد من الصحف والمواقع العالمية، حيث قالت وكالة “رويترز”: “منذ الانسحاب الأميركي من أفغانستان وكبار الدبلوماسيين من مختلف أنحاء العالم يترددون على قطر، التي ظلت فترة طويلة بوابةً للتواصُل مع حركة طالبان، وأصبحت الآن وسيطًا أساسيًّا، في وقت يحاول فيه الغرب التعامل مع الحكومة الجديدة في كابل”.
مضيفةً: “إن كل ذلك لم يكن صدفة؛ فالمحلِّلون يصفون بروز دور قطر كوسيط في أفغانستان بأنه جزء من استراتيجية أولَتها الدولة الصغيرة الغنية اهتمامًا كبيرًا لدعم أمنها، من خلال التحول إلى موقع لا غنى عنه للوساطة الدولية”.
أفردت بدورها صحيفة “نيويورك تايمز” مقالًا سلّطت فيه الضوء على دور الدوحة الرئيسي خلال عمليات الإجلاء من أفغانستان، حيث استطاعت “الدولة الصغيرة الغنية أن تتفوق على حجمها في المسرح العالمي”، ويشير التقرير إلى أن البلد الغني بالغاز، الذي طالما استخدم ثروته في تحقيق هذا التفوق، يحظى في الوقت الحالي بلحظة مهمة في “دائرة الضوء العالمية”.
وقالت الصحيفة: “أثناء الفوضى التي حدثت وقت إجلاء نحو 120 ألف أميركي وجنسيات أخرى من أفغانستان وجدَت دولة صغيرة وغنية، كان كثير من الأميركيين يواجهون صعوبة في العثور عليها على الخريطة، نفسها فجأة في وضع فريد للمساعدة في ذلك”.
على أن الحدث الأفغاني هو حلقة ضمن سلسلة من الوساطات في الأزمات العالمية، التي تعمل الدوحة على أن تكون جزءًا من الحل فيها عبر التدخل كوسيط، ومن أجل ذلك تُعقَد اللقاءات والمؤتمرات والجلسات المطوَّلة في الدوحة التي باتت تمثّل قِبلة لحلِّ الخلافات والمشاكل، وفي هذا التقرير سنذكرُ أبرز الوساطات التي قامت بها الدوحة خلال العقدَين المنصرمَين.
“اتفاق الدوحة” الخاص بلبنان
بعد اتهام حكومة فؤاد السنيورة لحزب الله بإدارة شبكة اتصالات خاصة، والتجسُّس على مطار بيروت، ووعودها باتخاذ إجراء قانوني ضد الشبكة، قال حزب الله إن التحرك ضد شبكة اتصالاته بمنزلة إعلان حرب من الحكومة.
وبعد عدة معارك سيطرَ حزب الله على غرب بيروت، في أحداث كانت الأولى من نوعها منذ الحرب الأهلية، غير أن شبكة الاتصالات لم تكن السبب الوحيد في الاشتباكات، فقد كان البلد يعيش منذ أشهر عديدة معمعةً سياسية وأزمةً اقتصادية وفراغًا في بعض المناصب.
وبعد أيام من التوتر الكبير الذي عاشه لبنان، وقّعت الأطراف اللبنانية في العاصمة القطرية الدوحة في 21 مايو/ أيار 2008 على اتفاق رعته الحكومة القطرية حينها، ونصَّ الاتفاق على انتخاب قائد الجيش آنذاك ميشيل سليمان رئيسًا للجمهورية، وإقرار قانون الانتخابات وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
وتضمّن اتفاق الفرقاء اللبنانيين على حظر اللجوء إلى السلاح أو العنف لحلِّ الخلافات، ودعا إلى حصر السلطة الأمنية والعسكرية في الدولة، وإيقاف استخدام لغة التخوين بين القيادات والزعامات ووسائل الإعلام.
المصالحة بين جيبوتي وإريتريا
في عام 2008 وقعَ نزاع حدودي بين الجارتَين جيبوتي وإريتريا، اتهمت جيبوتي القوات المسلحة الإريترية حينها باختراق البلاد وحفر خنادق على جانبَي الحدود، وازدادت حدّة الأزمة بعد اندلاع اشتباكات مسلحة بين قوات البلدَين، مع دعم فرنسي استخباراني ولوجستي لجيبوتي، واستمرَّ النزاع حتى تدخلت قطر ونجحت في مارس/ آذار عام 2011 بتكليل مساعيها التصالحية بين البلدَين وتسوية النزاع الحدودي.
في سياق متّصل نجحت مساعي الدوحة بالإفراج عن أسرى من جيبوتي لدى إريتريا ضمن وساطة بين الطرفَين، ليعود الأسرى إلى بلدهم برفقة وزير الخارجية القطري على متن طائرة خاصة في مارس/ آذار 2015.
وثيقة سلام دارفور
وُقِّعت اتفاقية الدوحة للسلام في دارفور في يوليو/ تموز 2011، حيث أنشأت هذه الاتفاقية صندوقًا لتعويض ضحايا النزاع في درافور، كما أعطت الفرصة للرئيس السوداني بتعيين أحد نوّابه من دارفور، ونصّت المعاهدة على تقاسم السلطة على المستوى الوطني.
استضافت الدوحة مراسم توقيع ممثّلي الحكومة السودانية وحركة “التحرير والعدالة” الوثيقة النهائية للسلام في دارفور، وجرى التوقيع بعد وساطة قطرية ناجحة بين الطرفَين المتنازعَين، اللذين خاضا مفاوضات استمرّت عامَين ونصف العام.
بعد توقيع وثيقة السلام من أجل دارفور، خرق الطرفان الوثيقة الموقَّعة في الدوحة عام 2011، إلى ذلك استطاعت قطر جمع طرفَي النزاع حيث توصّلت الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة إلى اتفاق وقف إطلاق النار، في محاولة لإعادة إحياء عملية السلام المجمَّدة بينهما.
وفي عام ٢٠١٧ استضافت الدوحة اجتماعات لتوقيع اتفاق بين الحكومة السودانية وحركة جيش تحرير السودان، وذلك لاستكمال عملية السلام في دارفور اعتمادًا على وثيقة الدوحة الموقَّعة عام 2011.
المصالحة بين حركتَي فتح وحماس
يهدفُ إعلان الدوحة الذي وقّعته حركتَي فتح وحماس في فبراير/ شباط من عام 2012، إلى تسريع وتيرة المصالحة الوطنية الفلسطينية، وينصُّ الاتفاق الذي تمَّ برعاية أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ووقّعه خالد مشعل ومحمود عباس، على 4 نقاط أساسية، أوّلها “التأكيد على الاستمرار في خطوات تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني بشكل متزامن مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية”.
كما تمَّ الاتفاق على تشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطينية من كفاءات مهنية مستقلة برئاسة محمود عباس، تكون مهمتها تسهيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبدء في إعمار غزة، إضافة إلى “التأكيد على استمرار عمل اللجان التي تمَّ تشكيلها، وهي لجنة الحريات العامة المكلفة بمعالجة ملفات المعتقلين والمؤسسات وحرية السفر وعودة الكوادر إلى قطاع غزة”، كما اتفقَت الحركتان على “التأكيد على تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه في القاهرة لبدء عمل لجنة الانتخابات المركزية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس”.
اتفاق التبو والطوارق في ليبيا
وقّعت قبائل التبو والطوارق الليبية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015، في العاصمة القطرية الدوحة، على اتفاقية سلام نهائي لوقف إطلاق النار بين الجانبَين، ونصَّ الاتفاق على فتح الطُّرق وإنهاء المظاهر المسلحة، وبرعاية قطرية تمَّ توقيع الاتفاق من قبل الشيخ أبو بكر الفقي رئيس وفد قبائل الطوارق، وعلي سيدي آدم رئيس وفد قبائل التبو، بحضور وزير الخارجية لشؤون التعاون الدولي.
وأعربت الدوحة عن تطلُّعها إلى أن تدفع هذه المصالحة إلى مزيد من الوفاق والوحدة بين أبناء الشعب الليبي، والحفاظ على أمن واستقرار البلاد، ويأتي الاتفاق بعد محادثات استمرت لمدة عام استضافتها الدوحة، وأنهت المحادثات القتال المستمر لمدة عامَين.
الإفراج عن جنود لبنانيين مختطفين
عملت الدوحة على إطلاق سراح جنود لبنانيين كانت اختطفتهم جبهة النصرة عام 2014، عددهم 16 عنصرًا، ونجحت في إتمام مبادلة جرَت بين الحكومة اللبنانية وجبهة النصرة، حيث أفرجت الأولى عن 25 سجينًا طالبت بهم النصرة بينهم نساء.
الملف الأفغاني
استضافت الدوحة على مدار 5 سنوات متتالية عشرات جلسات المفاوضات بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية، ورعت عام 2015 جولة مفاوضات بين ممثّلين عن الحركة ومسؤولين أفغان بهدف إنهاء الحرب الدائرة، وفي سبتمبر/ أيلول 2016 جرت مفاوضات أخرى بين الطرفَين لم تُعلِنْ عنها قطر بشكل رسمي.
عام 2018 استضافت الدوحة بداية المفاوضات بين أميركا وحركة طالبان، وأسفرَت هذه المحادثات بعد شهور عن توقيع اتفاقية بين الحركة وواشنطن عن اتفاق فريد من نوعه، تضمّن انسحاب القوات الأميركية من البلاد بشكل كامل، وكان ذلك على عهد الرئيس السابق دونالد ترامب الذي وصفَ المفاوضات بالناجحة.
بدأ الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وبحلول نهاية أغسطس/ آب 2021 كانت طلائع القوات الأجنبية كاملةً خارج الأراضي الأفغانية، حيث ساهمت العاصمة القطرية الدوحة باستقبال عدة وفود، كما أنها كانت محطة أولية لعشرات آلاف المنسحبين من الجيوش والمدنيين الأفغان الفارّين من بلادهم على متن الطائرات الغربية.
ختامًا، لعبت الدوحة ولا تزال دورًا محوريًّا بإدارة أزمات كثيرة إقليميًّا وعالميًّا، كما أنها استطاعت من خلال خبرتها التفاوضية أن تحصلَ على أكبر مكاسب من المفاوضات التي أدّت إلى المصالحة بينها وبين الدول الخليجية الأخرى.