عام 2011 خرج التونسيون للمطالبة بإسقاط نظام بن علي، بعد أن ضاقوا ذرعًا من نظام الشخص الواحد والحزب الواحد، وكان لهم ما أردوا وهربَ بن علي، فقرروا بعدها التوجُّه إلى مجلس تأسيسي يصوغ دستورًا ينهي النظام الاستبدادي في البلاد، ويوزّع السلطة بين عدة مؤسسات حتى لا تكون حكرًا على أحد.
صِيغَ الدستور بتوافُق، وتمّت المصادقة عليه في مجلس نواب الشعب بأغلبية مطلَقة، وحضي بإجماع كبير في الداخل والخارج، وبتأييد تاريخي، فقد حملَ في طياته فصولًا ونصوصًا تقدُّمية تحفظُ كرامة الإنسان وتؤسِّس لدولة مدنية متقدِّمة، لكن يبدو أن الرئيس قيس سعيّد لم يستسغ دوره ولا الصلاحيات التي منحَها له الدستور، وقد كان الأمر جليًّا منذ أول يوم له في قرطاج.
تعليق العمل بالدستور
مستشار الرئيس التونسي، وليد الحجام، قال أمس الخميس إن الدستور الحالي أصبح عائقًا أساسيًّا ويُفترَض تعليقه ووضع نظام للسلطات المؤقتة، وأوضح أن هناك اتجاهًا لتغيير النظام السياسي في البلاد وربما يتمّ عبر استفتاء.
قال الحجام أيضًا -في حديث لوكالة “رويترز”- إن “برنامج الرئيس أصبح على بعد خطوات قليلة، ومن المتوقّع أن يجري إعلانه قريبًا”، وأضاف: “هناك ميل لتغيير النظام السياسي الذي لا يمكن أن يتواصل.. تغيير النظام يعني تغيير الدستور.. عبر الاستفتاء ربما.. الاستفتاء يستوجب وقتًا وإعدادًا لوجستيًّا”.
لمّا جاءت انتخابات 2014 بتوازنات جديدة، بدأ التفكير بإدخال تنقيح على الأحكام المتعلقة بالنظام السياسي، خاصة تلك المتعلقة بتوزيع السلطة التنفيذية بين كلٍّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
وسبق أن دعا الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى حوار وطني يقود إلى الاتفاق على نظام سياسي جديد وتعديل دستور 2014 الذي قال إنه “كله أقفال”، لكن هذه المرة الأولى التي يخرج فيها مستشار رئاسي ويقول إن هناك توجُّهًا لتعليق العمل بالدستور وليس مجرد تعديله.
هذا الأمر من شأنه أن يثير انقسامًا كبيرًا في البلاد، صحيح أن الدستور فيه بعض الأمور التي وجب إصلاحها، لكن ذلك لا يعني أن نرمي بكامل فصوله عرض الحائط، كما أن هذا الأمر سيؤسِّس لثقافة سيّئة، فكل رئيس أو حاكم جديد سيقوم بكتابة دستور جديد على مقاسه، وهو ما سبقَ أن ندّد به قيس سعيّد نفسه قبل توليه رئاسة البلاد.
ففي عام 2016، قال الخبير الدستوري قيس سعيّد إن دستور 2014 مثله مثل دستور 1959، وُضع على مقاس التوازنات السياسية التي أفرزتها الانتخابات؛ فلمّا جاءت انتخابات 2014 بتوازنات جديدة بدأ التفكير بإدخال تنقيح على الأحكام المتعلقة بالنظام السياسي، خاصة تلك المتعلقة بتوزيع السلطة التنفيذية بين كلٍّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فهل يجب كلّما تغيرت التوازنات أن تتغير أحكام الدستور؟
التوجُّه نحو نظام رئاسي
هدف الرئيس قيس سعيّد من تعليق الدستور وصياغة آخر جديد، التوجُّه نحو نظام رئاسي، ذلك أنه يرى أن النظام السياسي الحالي الذي أقرّه دستور فبراير/ شباط 2014، مسؤول عن الأزمات المتعددة التي تشهدها تونس، وله دور كبير في تأزُّم الوضع السياسي والحكومي والحياة العامة، فهو يقسم الصلاحيات بين عدة أطراف ولا يجمعها عند طرف واحد.
ينطلق قيس سعيّد من هذه المقاربة حتى يفرض على التونسيين -الذين انتخبوه بكثافة عام 2019، نكاية بمنافسه رجل الأعمال المتّهم بالفساد نبيل القوي- نظامًا رئاسيًّا، ما سيمكّنه من تحجيم دور الأحزاب وتغيير النظام الانتخابي، وهي تصورات لطالما عبّر عنها سعيّد منذ حملته الانتخابية، وحتى بعد توليه رئاسة الجمهورية.
من المتوقع أن يُرجع قيس سعيّد العمل بدستور 1959 الذي تمّت صياغته في بداية عهد الراحل الحبيب بورقيبة، مع إضافة بعض التنقيحات عليه ثم عرضه للاستفتاء الشعبي ومن ثم الذهاب إلى انتخابات مبكِّرة.
منذ تقلُّد منصب الرئاسة، ما فتئ قيس سعيّد يعمل على ترذيل عمل الأحزاب السياسية ودفع الناس لسحب ثقتهم منها، في سبيل فرض مشروعه الغامض الشبيه بنظام العقيد الليبي معمر القذافي، كما دخلَ في معركة مع منظومة الحكم ككُلّ، حيث سبق أن قال إنه معارض لكامل المنظومة القائمة بأحزابها ونظامها السياسي ونظامها الانتخابي.
حتى منظمات المجتمع المدني والجمعيات لم تسلم منه، فهو يراها مطية للتدخل الأجنبي، رغم أن سعيّد كان سبّاقًا لتدويل الأزمة الدستورية التونسية، فقصر قرطاج يستقبلُ يوميًّا وفودًا أجنبية للحديث في الشأن العام الداخلي وتبرير توجُّهه الانقلابي.
ومن المتوقع أن يُرجع قيس سعيّد العمل بدستور 1959 الذي تمّت صياغته في بداية عهد الراحل الحبيب بورقيبة، مع إضافة بعض التنقيحات عليه ثم عرضه للاستفتاء الشعبي ومن ثم الذهاب إلى انتخابات مبكِّرة، ذلك أن الدستور القديم يُكرِّس النظام الرئاسي على عكس النظام الحالي البرلماني المعدَّل، وهو يجمع السلطات الرئيسية بيد الرئيس.
نظام استبدادي جديد
بالنظر إلى هذه المؤشرات، يبدو أن تونس مقبلة على نظام استبدادي جديد، يكون على رأسه قيس سعيّد الساعي إلى احتكار كل السلطات بين يدَيه، حتى تلك التي تهمُّ الجهات المحلية والجهوية.
قبل شهر ونصف جمّدَ سعيّد نشاط البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب وأقال رئيس الحكومة هشام المشيشي وعديد الوزراء والمسؤولين، بحجّة منع الدولة من الانهيار ومكافحة الفساد، وهو ما اعتبرته أغلب الأحزاب السياسية “انقلابًا دستوريًّا”.
عقب تجميد نشاط البرلمان شهدت تونس انتكاسة حقوقية، شملت اعتقالات تعسُّفية وحظرًا للسفر وفرضًا للإقامة الجبرية على بعض الشخصيات، ما زاد من فرضية اعتبار ما حصل ليلة 25 يوليو/ تموز انقلابًا.
استعمل سعيّد القضاء العسكري للتنكيل ببعض معارضيه، بعد أن رفض القضاء المدني أن يكون العصا الغليظة للرئيس، كما لجأ إلى قوات الأمن للتضييق على الصحفيين -خاصة العاملين في المؤسسات الإعلامية الأجنبية- ونشطاء المجتمع المدني.
قبل ذلك احتكرَ قيس سعيّد تأويل الدستور وطوّعه وفق التوجه الذي يتبنّاه، إذ شدّدَ على أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية، وطوّع الفصل 80 وفق إرادته، رغم تأكيد خبراء وأساتذة القانون الدستوري أنه في الطريق الخطأ.
يمكن القول إن تونس ماضية في طريق مجهول يحمل مخاطر كبرى قد تقود البلاد إلى الفوضى، فما يسعى إليه سعيّد لا يحظى بإجماع التونسيين، ومن شأنه أيضًا أن يساهم في عدم استقرار المنطقة ككل.
كان التونسيون يأملون أن تكون هذه الإجراءات استثنائية وتنتهي بانتهاء سببها، لكن يبدو أنها ستكون دائمة في ظل الغموض الذي يكتنف تحركات الرئيس قيس سعيّد، وهي تحركات تستهدف وأد الديمقراطية.
يريد قيس سعيّد العودة إلى الوراء وتكريس نظام شبيه بنظامَي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، للسيطرة على كل شيء في تونس، فهو لا يأمن أحد، ويرى في نفسه المنقذ والمخلِّص لتونس من أزماتها العديدة.
لكن السؤال المطروح الآن: على ماذا سيعتمد قيس سعيّد لتركيز نظامه الاستبدادي المطلق؟ فلا حزب سياسي له يعتمد عليه (وهو أصلًا يرفض الأحزاب) ولا حليف قوي يرتكز عليه، حتى القوات الأمنية والعسكرية التي يعتمد عليها حاليًّا لا يبدو أنها تسانده في المطلق، ولا يتوقع أن تشاركه التوجه نحو تكريس النظام الاستبدادي الذي يريد.
هنا يمكن القول إن تونس ماضية في طريق مجهول يحملُ مخاطر كبرى قد تقود البلاد إلى الفوضى، فما يسعى إليه سعيّد لا يحظى بإجماع التونسيين، ومن شأنه أيضًا أن يساهم في عدم استقرار المنطقة ككُلّ.