ترجمة وتحرير: نون بوست
في الطابق الثاني من مبنى خرساني عادي في شمال شرق بكين، يعج مقهى الإنترنت “يويو” بالرواد. ويجلس عملاء المقهى، الذي يتسم بطابعه الهادئ والمظلم، على أرائك بنية اللون أمام الشاشات لساعات يمارسون الألعاب عبر الإنترنت.
لا يُسمح بدخول القاصرين إلى هذه المقاهي، وكُتب على ملصق وُضع على الباب الزجاجي: “يهتم المجتمع بأسره بالنمو الصحي للمراهقين القاصرين”. وبموجب اللوائح الجديدة الصادرة عن الحكومة الصينية، يُسمح للقاصرين بممارسة الألعاب لبضع ساعات فقط في الأسبوع، مع أمر منصات التكنولوجيا بإنفاذ هذه اللوائح. ويندرج هذا التدخل ضمن سلسلة من التوجيهات الأخيرة الصادرة عن بكين والتي تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع.
كانت سلسلة الإصلاحات التنظيمية سريعة ومذهلة. ففي الأشهر الأخيرة، لجأت السلطات الصينية إلى تعزيز التجارة الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي وقطاع التعليم الخاص الذي تقدر قيمته بمئة مليار دولار والفنانين والمشاهير وتليفزيون الواقع، مما أثر على الأفراد بدءا من رئيس شركة “علي بابا”، جاك ما، وصولا إلى الممثلة فيكي زاو.
في كل خطوة، بررت الجهات التنظيمية تحركاتها بأنها خطوة تخدم المصلحة الاجتماعية الكبرى. وقد تمحور التركيز في الأسابيع الأخيرة على ثقافة المشاهير والمعجبين، ولكن لم يقع تجاهل القطاعات الأخرى، حيث تقول هيئة تنظيم الإنترنت في الصين إنها أغلقت وحظرت 1793 حسابا من حسابات ما يسمى بوسائل الإعلام الذاتية منذ 27 آب/ أغسطس.
تأتي هذه الإجراءات في وقت يعبر فيه الكثير من المثقفين الصينيين عن خوفهم من نوع من الرقابة الصارمة التي تذكرنا بأيام ما قبل الإصلاح.
يوم الأربعاء، شددت الجهات التنظيمية قبضتها على شركات تقاسم الركوب، ودعت بشكل منفصل شركة “تينسنت” و”نت إيز” – وهما متخصصتان في مجال الإنترنت والألعاب في الصين – إلى “إجراء محادثات”. وتمحورت شروط المحادثة – التي نقلتها وكالة أنباء “شينخوا”، المنفذ الرسمي لوسائل الإعلام الحكومية – حول تسليط الضوء على السمات التي وقع التركيز عليها في مجالات أخرى من حملة ثقافة البوب، بما في ذلك ما وُصف بازدراء بأنه “تخنث”، والمثلية الجنسية.
تأتي هذه الإجراءات في وقت يعبر فيه الكثير من المثقفين الصينيين عن خوفهم من نوع من الرقابة الصارمة التي تذكرنا بأيام ما قبل الإصلاح. وقد وصفت هذه الإجراءات خارج الصين بأنها “عميقة”، أو “قفزة كبيرة إلى الوراء”، أو “ثورة ثقافية ثانية”، بينما ينظر البعض الآخر إلى المجموعة الواسعة من اللوائح الجديدة في المجتمع باعتبارها محاولة من جانب الرئيس الصيني شي جين بينغ لترك بصمته في عقول الشباب وتوطيد سيطرته.
علاوة على ذلك، كان لهذه الحملة تأثير عالمي، نظرا لأن الصين تعد حاليا واحدة من أكبر الأسواق في العالم. وفي ظل استهداف الصناعات والأفراد الذين يرتكبون مخالفات، أصبحت أسواق الأسهم متقلبة وغير مستقرة، وألغت العلامات التجارية الكبرى صفقاتها مع المشاهير، وسارعت شركات التكنولوجيا والألعاب إلى الإبحار في قوانين المحتوى والتوزيع الجديدة، كما كافح منتجو وممثلو الأفلام الأجانب من أجل الإبحار في السوق متزايدة الحساسية.
واستجابةً للمخاوف بشأن تحركات محددة ضد حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لفناني البوب الكوريين، وهو نوع موسيقي ناجح للغاية ويتمتع بقاعدة جماهيرية كبيرة للغاية، قالت سفارة الصين في كوريا الجنوبية إن الحملة لم تستهدف أي دولة معينة.
قالت السفارة يوم الخميس إن “تصرفات الصين تستهدف كل الأقوال والأفعال التي قد تؤثر على النظام العام – الجمارك وكذلك القوانين واللوائح – ولن تؤثر على التبادلات الطبيعية بين الصين وأي دولة”.
يذكر البعض أن هذه التحركات لم تكن مفاجئة وحتمية. وأوضح البروفيسور بيكسين كاو من جامعة الاتصالات الصينية أنه “وقع ارتكاب مخالفات عديدة في الآونة الأخيرة، حيث اتخذ المشاهير والفنانون خطوات غير قانونية أو خاطئة أو غير أخلاقية في المجالات الاقتصادية والسياسية والشخصية، مما جعلني أشعر أنه يتعيّن على الحكومة أن تضع أحكاما ومعاييرا جديدة”.
كما أشار إلى أنه لطالما وُجّهت دعوات من قبل أولياء الأمور وباحثي العلوم الاجتماعية للتدخل في “التأثير السلبي” للقطاع على الأطفال، لكن القطاع استخدم قوته الاقتصادية وتأثيره الإعلامي للتغاضي عن كل ذلك. وقال البروفيسور: “أعتقد أن الجمهور مستاءٌ أيضًا من الأخلاقيات السيئة لقطاع الترفيه، ولربما أحسّ والدوا المراهقين بذلك بعمق أكبر”.
كانت الجهات التنظيمية واضحةً أيضًا بشأن الإجراءات الجديدة التي تهدف إلى خلق جو من المحبة تجاه الحزب والبلاد، كما طلبوا من المنتجين تضمين السلوك السياسي والأخلاقي كمعايير أساسية عند اختيار الضيوف وفناني الأداء.
في الأسبوع الماضي، طلبت إدارة الإذاعة والتلفزيون الوطنية من وسائل الإعلام الصينية “التصدي بحزم لكل مظاهر التباهي بالثروات وأساليب الترفيه، ومنع إثارة القيل والقال والمواضيع المعنية بالخصوصيات والقضايا الساخنة السلبية، وعدم التحدث عن “مشاهير الإنترنت” المبتذلين والتقدير اللامتناهي للرداءة، وغيرها من الميول الترفيهية الشاملة”.
في المقابل، كانت الجهات التنظيمية واضحةً أيضًا بشأن الإجراءات الجديدة التي تهدف إلى خلق جو من المحبة تجاه الحزب والبلاد، فضلاً عن احترام الأخلاق والفنون، حيث طلبوا من المنتجين تضمين السلوك السياسي والأخلاقي كمعايير أساسية عند اختيار الضيوف وفناني الأداء.
في بعض النواحي، يعكس هذا الأمر علاقة الحزب الطويلة والمعقدة بالثقافة الشعبية. بخصوص ذلك، أوضح ميشيل هوكس، وهو مدير معهد ليو لآسيا والدراسات الآسيوية بجامعة نوتردام في إنديانا أنه “من الناحية الأولى، فإن الحزب يمثل الشعب ويريد أن تحظى الثقافة بشعبية واسعة. لكن، من ناحية أخرى لا يوافق على ما يبدو أن الناس يحبذونه، بل ويرى أن هناك نوعا من “الابتذال” في الثقافة الشعبية”.
تم توضيح كل من موقف الحزب إزاء الثقافة، ولمن ينبغي أن يُوجه ولاء الكتّاب والفنّانين في نهاية المطاف، في خطاب مهم ألقاه الرئيس شي في تشرين الأول/ أكتوبر 2014 على ندوة للفنّانين والكتّاب، حيث قال إنه ينبغي للفنانين “ألا يخسروا أنفسهم في تيار اقتصاد السوق وألّا يضلوا عند الإجابة على سؤال “من تخدمون. لا بد للفنون أن تخدم الشعب وتعمل لصالح الاشتراكية”.
في السياق ذاته، قال هوكس: “كان خطاب شي جينغ في سنة 2014 واضحا بشأن ضرورة الترويج لنوع من الثقافة من شأنه أن يمثل قدوة أخلاقية قوية، فضلاً عن النهوض بالروح الوطنية. ومنذ ذلك الحين، تحاول الإدارات الحكومية المختلفة تنفيذ هذه الأفكار بطرق متعددة”.
أضاف هوكس أن الموقف الأخلاقي الكامن وراء الحملات القمعية الأخيرة على الثقافة الشعبية “محافظ للغاية بشكل يشبه إلى حد ما ثقافة التلفزيون الأمريكي في الخمسينيات: والذي اقتضى توضيح أدوار الجنسين بشكل واضح [إلى جانب] حس وطنيّ قوي”.
الصين ضد الغرب
لاحظ الدكتور هونغواي باو من جامعة نوتنغهام أن التغييرات في طرق تعامل بكين مع هذه القضايا لها علاقة بكل من التغيرات الداخلية والخارجية في السنوات القليلة الماضية. على الصعيد المحلي، كانت الصين تمر بأزمة ديموغرافية، وكانت بكين قلقة من تداعياتها.
علاوة إلى ذلك، أشار إلى أنه في الوقت نفسه، أدى العداء المتزايد بين الصين والغرب إلى موجة جديدة من تصاعد القومية داخل الصين، قائلا إنه “على نحو متزايد، فإننا نشهد – داخل الصين وخارجها – تشكيلا لرواية (الصين ضد الغرب). وكلما طالت فترة المواجهة، زاد احتمال أن تعمل بكين على تأكيد تميّزها مقارنة بالغرب أو بالدول الآسيوية الأخرى”.
مع ذلك، فإن التغييرات التي ترغب السلطات في تنفيذها قد لا تكون سهلة في الصين على ما هي عليه اليوم، حيث أدى الانفتاح الاقتصادي والتغيير المجتمعي على مر العقود إلى قلب الأعراف التقليدية وإعادة كتابة أجزاء من العقد الاجتماعي غير المحكي الذي يربط الحكام بالمحكومين.
في حديثه عن التغيرات في المجتمع الصيني، أوضح باو: “في هذه العملية، يتم تحدي القواعد المفروضة والتفاوض بشأنها وقد ينتهي الأمر بتوطيدها في بعض الأحيان، لكنها في النهاية قابلة للتفسير بأكثر من معنى. لا يمكن للسلطات تحديد كل شيء في الصين اليوم. لقد تغيرت الأزمان، فلا تبقى الأشياء على حالها دائمًا ولا يتخلى الناس عن آمالهم أبدًا”.
المصدر: الغارديان