لم تتسع السماء قبل أيام فرحًا بعملية نفق الحرية التي نفذها ستة أسرى فلسطينيين حفروا عميقًا في سجن جلبوع أشد سجون الاحتلال الإسرائيلي تحصينًا، وتسارعت مخابز الحلويات إلى صناعة ما سيُحلي الشعب الفلسطيني نفسه ابتهاجًا بهذه العملية، ووحد التهليل بالنصر الفلسطينيين في الضفة الغربية والداخل المحتل وقطاع غزة كما وحدهم سابقًا نضال الدم ومقاومة الاحتلال.
في الطرف الآخر من الحكاية، كان الاحتلال بحكومته وجيشه واستخباراته يتخبط مع نفسه، في كيفية تنفيذ هذه العملية وسط تفتيش دائم لغرف الأسرى، ومراقبة دائمة لأي محاولة انتزاع حرية، وفي ذات الوقت، كان الاحتلال يراقب نفسه وقد أصبح مادة سخرية عالمية وتحطم وهمه في سجن جلبوع، ويحصي خيباته هذا العام، بهزيمته في معركة سيف القدس وما رافقها من وحدة الفلسطينيين في جميع أماكن وجوده، واشتعال الأحداث والمواجهات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وعودة مسيرات العودة في غزة وقد اهتز الاحتلال في أول أيامها بقنص الشاب الغزاوي لأحد جنوده من مسافة صفر.
بدأ الإعلام العبري مدفوعًا بمعلومات من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية ببث شائعات كان أبرزها “عائلة عربية من الناصرة أبلغت عن الأسيرين، بعدما توجهوا إليها لطلب الطعام”
وسط خيباته كلها، كان للاحتلال حساباته الخاصة كمحتل، فبعد الإعلان عن اعتقال أسيرين محررين في عملية نفق الحرية، محمود العارضة ويعقوب قادري، بدأ الإعلام العبري مدفوعًا بمعلومات من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية ببث شائعات كان أبرزها “عائلة عربية من الناصرة أبلغت عن الأسيرين، بعدما توجهوا إليها لطلب الطعام” أخذت مجدها في الشارع الفلسطيني المتناقل لها، وعملت عملها في تحقيق مُراد الاحتلال الصهيوني.
توحدتم سابقًا؟ سنفرقكم الآن
خلال مايو/أيار الماضي شهدت القضية الفلسطينية عودة للواجهة وقد عمت المظاهرات عواصم عربية وغربية مختلفة، إلا أن الحدث الأهم تجلى في استعادة الصف الفلسطيني الداخلي، فبينما كان المقاوم في غزة يطلق صواريخه لتدك المدن المحتلة، كان الفلسطينيون في الضفة الغربية يخوضون مواجهات على نقاط التماس، بينما التهب الداخل المحتل في مواجهات مع المستوطنين والشرطة الإسرائيلية.
كان دخول فلسطينيي الداخل المحتل بشكل مباشر في المواجهة أمرًا مهمًا في مسار الأحداث الفلسطينية، وزاد من التحام الأجيال الناشئة جديدًا مع القضية الفلسطينية، ودحض كل محاولات الأسرلة التي حاول الاحتلال ممارستها منذ عام 1948، الأمر الذي لطالما خشيته “إسرائيل”، فشنت حملات اعتقالات بالآلاف لشباب الداخل المحتل المنتفض.
بعد بث هذه الإشاعة تسللت الفتنة الإسرائيلية في خاصرة الدم الفلسطيني، فقد وجِّهت عبارات التخوين والانسلاخ عن القضية الفلسطينية للناصرة خصوصًا ولفلسطينيي الداخل عمومًا
في أعقاب الأحداث، لم يتسن للاحتلال الفرصة لتشويه صورة الشاب العربي الفلسطيني في الداخل المحتل، إلا أنه رأى الفرصة قد لاحت أمامه أمس بعد اعتقال الأسيرين، حينما دج إعلامه بمفردات “عائلة عربية” ومدينة “الناصرة” في خبر التبليغ عن الأسيرين، وقد حاول الاحتلال من خلال هذه المفردات تحديدًا أن يضرب الوحدة الفلسطينية التي أعيد التحامها سابقًا، وللأسف نجح في بعض المواضع في ذلك.
بعد بث هذه الإشاعة تسللت الفتنة الإسرائيلية في خاصرة الدم الفلسطيني، حين انقسم الفلسطينيون بين من وجه عبارات التخوين والانسلاخ عن القضية الفلسطينية للناصرة خصوصًا ولفلسطينيي الداخل عمومًا، بينما طالب البعض الآخر بالتعقل وعدم المسارعة لأخذ الرواية الإسرائيلية، وأن مبتغى هذه الرواية التفرقة بعد الوحدة والانقسام بعد الانصهار معًا في مواجهة الاحتلال.
انتزعت الملعقة حريتهم وقادتهم إلى السجن مجددًا
حفر النفق في أشد سجون الاحتلال تحصينًا ليس وحده المعجزة، المعجزة تكمن أن الأسرى الست انتزعوا حريتهم من خلال ملعقة طعام، حفروا بها طريقهم نحو الحرية، وهو ما شكل مادة دسمة أخرى للتهكم على الاحتلال والسخرية من “بيت العنكبوت الواهن”.
في سياق توالي رسومات الكاريكاتير، والمقاطع المصورة والنكات على مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص كسر هيبة الاحتلال بملعقة، لن يكون من الغريب أن يجوِّع الاحتلال الأسرى، وأن يصور الحكاية كما لو أن الملعقة اقتادهم إلى السجن مجددًا، وقد أورد في قنواته وإذاعته أن العائلة بلّغت عنهم وهم “يطلبون الطعام”، ولكن أنّى لأسيرٍ قد يخوض 3 أشهر من إضراب الكرامة عن الطعام لنيل حريته، أن يكبّله جوعه.
إلى جانب ذلك، قد يكون الاحتلال أراد من خلال إشاعته أن يضيق على الأسرى الأربع، وزراعة الشك في نفوسهم عن الفلسطيني الحُرّ الذي احتضنهم، ويدفعهم إلى إعادة تموضعهم في سبيل تسهيل عملية اعتقالهم، وقد يكون الاحتلال قد نال مبتغاه عندما أعلن اعتقال الأسيرين المحررين بالعملية زكريا الزبيدي ومحمد العارضة بعد ساعات من إعلان اعتقال رفاقهما.
من زاوية أخرى، سعى الاحتلال في هذه الإشاعة إلى إضعاف الأسرى المحررين بعملية نفق الحرية، وإظهار صورتهم كصورة المحتاج الفقير، خاصةً بعدما أصبحوا رمز الحرية والكرامة والإرادة التي لا تلين خلال الأيام السابقة، فكان للاحتلال أن يجد في هذه الإشاعة الفرصة لهالة العظمة التي أحاطت بالأسرى الست.
في الإطار ذاته، هدف الاحتلال من خلال هذه الإشاعة إلى تحطيم الروح المعنوية للأسرى في سجونه، بأن هذه حال من تراوده نفسه على انتزاع الحرية، “الجوع، وأن يسلمه شقيقه الفلسطيني”، وقد – يظن الاحتلال واهمًا – أن يكون سببًا في تثبيط روح النضال لدى الأسرى.
لعل المنفعلين بغضب من اعتقال الأسيرين لم يتريثوا كثيرًا ويبصروا حقيقة صور اعتقالهم، وقد تجملوا بملابس جديدة منعّمين أذقانهم، ولعل انفعالهم حينها غض أبصارهم عن التساؤل: أوَيجوعُ من وجد حمامًا ساخنًا معدًا له ليستحم؟ أوَتكذب النخوة الفلسطينية وتصدق رواية الاحتلال؟ الثابت الوحيد في كل الأحداث أن الاحتلال هُزم رغم إعادة اعتقال الأسرى، وأنه سيعمل كل جهده كي يخفف هزيمته.