يحيا السودان الساعات الماضية حالة من السيولة السياسية في أعقاب الإعلان السياسي الذي وقع عليه عدد من الأحزاب والحركات والتحالفات السياسية المنضوية تحت لواء “قوى الحرية والتغيير”، في محاولة لتوحيد الكيان الذي عانى على مدار عامين كاملين من حزمة من الخلافات التي كانت تعصف بالفترة الانتقالية.
الإعلان الموقع من 40 حزبًا ومكونًا سياسيًا ومسلحًا أحدث انقسامًا في الآراء لدى الشارع السوداني، بين من يعتبره ترياقًا للخروج الآمن من المأزق السياسي الاقتصادي الذي يخنق البلاد منذ الإطاحة بنظام عمر البشير، أبريل/نيسان 2019، وآخرين يرونه تكريسًا للوضع المتأزم، وتنصلًا من مبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول، وتعبيرًا عن حالة الإفلاس السياسي التي تخيم على السلطة الانتقالية.
وكانت الخرطوم قد شهدت في الـ8 من سبتمبر/أيلول الحاليّ إعلانًا سياسيًا لقوى التحالف تضمن إنشاء هيكل تنظيمي لتوحيد قوى ثورة ديسمبر، وتأكيد إجراء الانتخابات العامة في موعدها، بجانب الالتزام بتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة عقب نهاية الفترة الانتقالية.
الأحزاب والقوى الموقعة على الإعلان: الأمة القومي والمؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي والتحالف السوداني والبعث والحركة الاتحادية وتجمع المهنيين ومنظمات مجتمع مدني
الإعلان شمل أيضًا دعم لجنة إزالة التمكين وإنهاء الدولة الموازية وبناء دولة القانون والعدالة والديمقراطية، بجانب العمل مع المكون العسكري لإحداث التحول الديمقراطي المنشود، وانتهاج سياسة خارجية متوازنة تخدم مصالح البلاد العليا، فضلًا عن بحث قضايا النازحين واللاجئين، وسرعة تكوين المجلس التشريعي الانتقالي، وبقية مؤسسات الانتقال بحسب الوثيقة الدستورية الموقعة بين المكونين العسكري والمدني في 17 من أغسطس/آب 2019.
وقع على الإعلان العديد من القوى أبرزها أحزاب: الأمة القومي والمؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي والتحالف السوداني والبعث والحركة الاتحادية وتجمع المهنيين ومنظمات مجتمع مدني، فضلًا عن فصائل للجبهة الثورية باستثناء حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة منى مناوي.
سياق الاتفاق
يأتي هذا الإعلان في وقت تعاني فيه الساحة السياسية في البلاد من فوضى عارمة، نتيجة الخلافات المستعرة بين أطياف قوى التحالف، الحاضنة السياسية للسلطة الانتقالية، حيال الكثير من الملفات والمسائل العالقة، ما انعكس بصورة أو بأخرى على عرقلة عمل الحكومة خلال تلك الفترة.
وقد شكلت تلك الخلافات وما نجم عنها من فجوة كبيرة بين القوى المنضوية تحت اللواء الكبير حجر عثرة أمام رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك ورفاقه، تفاقم الوضع سوءًا مع مخطط المكون العسكري الاستئثار بالسلطة مستغلًا حالة التخبط داخل المكون المدني.
وكانت الأشهر الماضية قد شهدت سجالًا بين القوى المنضوية تحت التحالف، أشبه بحرب البيانات، الأمر الذي أدى إلى تقديم بعض الأسماء البارز استقالتها اعتراضًا على الإستراتيجية الخاصة بعمل قوى الحرية والتغيير، أبرزهم عضو مجلس السيادة عائشة السعيد التي قدمت استقالتها، مايو/آيار الماضي، احتجاجًا على ما وصفته بتهميش المدنيين داخل المجلس.
غياب قوى سياسة مؤثرة عن مراسم التوقيع، أبرزها الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين السودانيين، سيمثل تحديًا كبيرًا للالتزام بما تم الاتفاق عليه، فضلًا عن تعزيزه لإشكالية الانقسام، الدافع الأول للإقدام على تلك الخطوة، وهو ما قد يصعب من الوضع مستقبلًا
عضو مجلس السيادة كشفت النقاب عن سر استقالتها، التي جاءت احتجاجًا على تحول “المكون المدني” في السيادي وفى كل مستويات الحكم إلى مجرد جهاز تنفيذي لوجستي لا يشارك في صنع القرار بل يختم بالقبول فقط لقرارات معدة مسبقًا، بحسب بيان أدلت به لوكالة الأنباء الرسمية، هذا بخلاف السجال الإعلامي والاتهامات المتبادلة بين المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير في السودان وحزب الأمة القومي التي وصلت إلى اتهام كل طرف للآخر بمحاولة إجهاض الفترة الانتقالية.
الوضع الاقتصادي والأمني المتردي كان هو الآخر حاضرًا بقوة، فالضغوط المتزايدة على السلطة الانتقالية بشأن عدم الوفاء بالعهود الخاصة بتحسين الأوضاع المعيشية المتفاقمة يومًا تلو الآخر، فضلًا عن الهشاشة الأمنية في بعض المناطق، كانت دافعًا قويًا للبحث عن مخرج سريع خشية تصاعد الأوضاع التي قد تعود بعقارب الساعة لما قبل ديسمبر/كانون الأول 2018.
أزمة أخرى ربما تطل برأسها حيال هذا الإعلان الجديد، فغياب قوى سياسة مؤثرة عن مراسم التوقيع، أبرزها الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين السودانيين – الذي قاد الثورة – بجانب الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، بعد رفضها لما تضمنه من بنود وآليات، سيمثل تحديًا كبيرًا للالتزام بما تم الاتفاق عليه، فضلًا عن تعزيزه لإشكالية الانقسام، الدافع الأول للإقدام على تلك الخطوة، وهو ما قد يصعب من الوضع مستقبلًا.
نقطة تحول
رئيس مجلس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك، اعتبر أن توقيع الإعلان السياسي لوحدة “قوى الحرية والتغيير”، خطوة في الاتجاه الصحيح، مشددًا على أن السودان يسع الجميع، مضيفًا في كلمته خلال حفل توقيع الإعلان الجديد “يجب أن نبذل كل الجهد لوحدة قوانا لأنها هي الأمان للمضي في انتقال ديمقراطي يمهد الطريق لخلق السودان الجديد”.
وأوضح حمدوك الذي يواجه انتقادات حادة جراء الفشل في تلبية طموحات ثوار ديسمبر/كانون الأول 2018 أن مبادرته الوطنية “الطريق إلى الأمام”، التي تقدم بها سابقًا كانت تهدف في الأساس إلى توحيد قوى الشعب الحية، لافتًا إلى أنه يلاحظ غياب بعض الوجوه من قوى الكفاح المسلح والسياسيين، متعهدًا بالتواصل معهم للتوقيع على الاتفاق.
وأثنى رئيس الحكومة الانتقالية على الثورة السودانية التي وصفها بـ”الفريدة” ونالت إعجاب العالم أجمع، لا سيما النموذج القائم على الشراكة بين العسكريين والمدنيين، رغم التحديات، وهو النموذج الذي دعا إلى تطويره والاحتفاء به والصبر عليه “باعتباره الطريق الوحيد للانتقال لوضع ديمقراطي مستدام”.
أوضح الفريق الداعم للإعلان من أعضاء قوى الحرية والتغيير أنّ غياب بعض القوى عن مراسم التوقيع ظاهرة صحية وطبيعية بالنسبة لكل الأنظمة الديمقراطية في العالم، فالاختلاف هنا لن يجهض التجربة السودانية الجديدة
الفريق الداعم للإعلان من أعضاء قوى الحرية والتغيير يرى أن الإعلان الجديد نقطة تحول كبيرة من شأنها قطع الطريق أمام الثورة المضادة ومخططات شق السف الوطني، لافتًا إلى أن إنجاز تلك الخطوة في ظل التحديات والظروف الراهنة يمثل خطوةً جديدةً باتجاه دعم التجربة الديمقراطية.
وعن غياب بعض القوى عن مراسم التوقيع، أوضح هؤلاء أن ما حدث ظاهرة صحية وطبيعية بالنسبة لكل الأنظمة الديمقراطية في العالم، فالاختلاف هنا لن يجهض التجربة السودانية الجديدة، وتباين الآراء سيصب في النهاية في صالح المشروع القومي للبلاد، لكن عقارب الساعة لن تعود للخلف مرة أخرى.
واتفق أنصار هذا الرأي على أن التشتت وغياب الوحدة كان السبب الأبرز وراء فشل الحكومة في تحقيق الإنجازات المطلوبة خلال المرحلة الماضية، مؤكدين أن هذا التوافق لا شك أنه سيشكل ضمانات لسير وإنجاح عملية الانتقال بالصورة المطلوبة ويمهد الطريق أمام الحكومة لتحقيق المهام والواجبات المنوطة بها.
تكريس للأزمة
وفي الجهة الأخرى هناك من يرى أن مثل هذا الاتفاق في هذا التوقيت، وبمعزل عن التشاور مع بقية القوى أعضاء التحالف، هو تكريس للأزمة، يوثق حالة الفصام السياسي والفوضى التي تعاني منها البلاد، وتعكس فجوة كبيرة بين شركاء الثورة.
تجمع المهنيين السودانيين، وهو أكبر الكيانات التي قادت الثورة قبل أكثر من عامين، أكد أنهم “في قوى الثورة الحية والاجسام المنضوية في ميثاق الشهداء والثوار من تنسيقيات ولجان مقاومة وتجمع الجرحى والمصابين وتحالفات الكتل الثورية وتجمع الأجسام المطلبية وأسر شهداء ديسمبر المجيدة لا تعنينا تلك الإعلانات الفجة التي تكرس لاستمرار سارقي السلطة الانتقالية وتحالفاتهم الهشة في مقاعد السلطة الانتقالية المأزومة”.
وأضاف التجمع في بيان عبر صفحته الرسمية على فيسبوك “تلك حيلة لا تنطلي على ثوار وهبوا أرواحهم الطاهرة فداءً للوطن ومهرًا للتغير، ولا تنطلي على رفاق لا يزالون على الطريق شاهرين هتافهم: سلمية سلمية ضد الحرامية ضد البكتلوا الروح بي طلقة نارية، ولا تنطلي على مصاب يتوكأ على الرفاق في صحبة شعب جبار يكملون في إصرار مسيرتهم الصامدة حتى تصل ثورة ديسمبر المجيدة سدرة منتهاها وترى مستحقاتها في الحرية والسلام والعدالة واقعًا تعيشه جماهير شعبنا العظيم”.
التجمع وصف مراسم الاحتفال بالتوقيع على الإعلان الجديد بـ”حفل عبثي يعيد للذاكرة مشاهد ما كان يسمى بالحوار الوطني على أيام وثبة البشير تداعت مجموعات من أحزاب التوالي الانتقالي، وأكَلَة الفتات، للتبشير بوحدة قوى الحرية والتغيير، وتوقيع إعلان سياسي جديد، في محاولة ساذجة لتكفين الحراك الثوري وتطبيع شراكة الخنوع والانهزام”.
إن التعويل على الإعلان الجديد لعبور المرحلة وقدرته على وأد أي عقبات أمام السلطة الحاكمة رهان قد يجانبه الصواب، لا سيما مع الفشل في التواصل لاتفاق بشأن الاتفاق، الأمر الذي يجعل من التفاؤل بشأن تداعيات تلك الخطوة مشوب بالترقب والحذر
وقد اختتم بيانه بالتأكيد على النأي بنفسه عما وصفه بـ”الولوغ في موائد محاصصات المتنكرين واللئام، فإنه ما زال على عهده مع قواعد وقوى الحراك الشعبي الحي والباسل من أجل استكمال مهام الثورة بعدما تخفف قطارها من الانتهازية والمتسلقين، وقد فعل ثوار ديسمبر خيرًا إذ أسمعوا المجتمعين الهتاف في قاعتهم الضرار: ثوار أحرار حنكمِّل المشوار”.
المتحدث باسم التجمع، وليد علي، وصف الإعلان الجديد بـ”أكبر عملية نهب لسرقة الثورة”، لافتًا في تصريحات له “ادعى الموقعون أن الإعلان يمثل تطويرًا لاعلان الحرية والتغيير، بينما هو لا يعدو أن يكون إعادة لإنتاج الأزمة”، مضيفًا “أي اتفاق لا يرسم خطًا واضحًا لتحقيق العدالة للشهداء والخروج بالبلاد والمواطن من الأزمة الاقتصادية، ولا يحدد خريطة طريق لتفكيك حقيقي لتمكين النظام القديم، لا يسوى الحبر الذي كتب به ولا يستحق الالتفاف حوله”.
منذ تولي الحكومة الحاليّة السلطة في سبتمبر/أيلول 2019 وهي تعاني من أزمات تلو الأخرى، بعضها يتعلق بالانقسامات داخل المكون المدني، وصراع النفوذ مع المكون العسكري، لكن التحدي الأكبر يتعلق برجل الشارع العادي، غير المؤدلج تنظيميًا ولا سياسيًا لأي من التنظيمات المتناحرة داخل ائتلاف قوى الحرية والتغيير، الذي رغم اعتباره الحاضنة السياسية للسلطة الانتقالية، ليس اللاعب الوحيد المؤثر داخل المستطيل السياسي الاقتصادي الأمني للبلاد.
ومن ثم فإن التعويل على الإعلان الجديد لعبور المرحلة وقدرته على وأد أي عقبات أمام السلطة الحاكمة رهان قد يجانبه الصواب، لا سيما مع الفشل في التواصل لاتفاق بشأن الاتفاق، الأمر الذي يجعل التفاؤل بشأن تداعيات تلك الخطوة مشوبًا بالترقب والحذر، إن لم يكن مشوبًا بالقلق، ما قد يدفع الحكومة ومجلس السيادة معًا، للبحث عن أدوات جديدة وإستراتيجيات أكثر واقعية، لطمأنة الشارع واستعادة الثقة المنقوصة يومًا تلو الآخر.