في خضم أحداث الحرب المستمرة منذ سنوات، يواجه اليمنيون حربًا اقتصاديةً ونقديةً يدفع ثمنها المواطن اليمني، إذ تشكل أزمة الانقسام النقدي بين بنك صنعاء التابع لسلطات الحوثيين غير المعترف بها، وبنك عدن التابع للحكومة المعترف بها دوليًا واحدة من أخطر الأزمات التي انعكست سلبًا على حياة المواطنين وفاقمت من معاناتهم اليومية.
ومنذ أن أعلنت الحكومة اليمنية في سبتمبر/أيلول 2016، قرار نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن بدأت أولى ملامح الانقسام النقدي والمصرفي، فقد رفض الحوثيون الاعتراف بالقرار وتوقفت الرواتب الحكومية وانقسمت إدارة البنك المركزي العليا إلى ثلاثة أقسام: الأولى في صنعاء وهي تابعة للحوثيين، والثانية في عدن وتابعة للحكومة، وإدارة ثالثة تابعة للحكومة في محافظة مأرب، ما تسبب بغياب إدارة واحدة لاتخاذ القرارات في التعاملات النقدية وساهم في توسيع دائرة الانقسام النقدي في البلاد.
وخلال الأعوام القليلة الماضية توسعت دائرة الانقسام النقدي والمصرفي عقب سلسلة من الإجراءات والممارسات الخاطئة من بنك صنعاء وبنك عدن، وسط دعوات مستمرة من الخبراء لتحييد القطاع المصرفي والنقدي عن الصراع القائم، محذرين من تبعات كارثية من إقحام القطاع المصرفي في الصراع.
حرب الأوراق النقدية
في فبراير/شباط من عام 2018 أعلن البنك المركزي التابع للحكومة المعترف بها في مدينة عدن جنوب اليمن طباعة عملة ورقية جديدة فئة 1000 ريال بمواصفات مختلفة، فقد تمت طباعتها من دون غطاء نقدي لمواجهة أزمة السيولة، ما تسبب في انهيار الريال اليمني بمناطق سيطرة الحكومة اليمنية.
وأعلنت سلطات الحوثيين غير المعترف بها في صنعاء منع تدوال العملة الجديدة في مناطق سيطرتها لتدخل أزمة الانقسام النقدي مرحلة جديدة من الانقسام بين عملتين وبأسعار مختلفة للعملة المحلية أثقلت كاهل اليمنيين وتسببت بنهب أموالهم، إذ تعرض مئات المواطنين لمصادرة أموالهم من الحوثيين بعد إعلان منعهم تدوال العملة الجديدة.
وحمّل الباحث في الشؤون الاقتصادية عبد الواحد العوبلي في حديث “لنون بوست” “الحكومة المعترف بها مسؤولية الانقسام النقدي الحاصل في البلاد نتيجة الممارسات النقدية الخاطئة، التي بدورها انعكست سلبًا على حياة المواطنين، وفقامت من معاناتهم اليومية خصوصًا في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين”.
طالب البنك المركزي في صنعاء المواطنين القادمين من مناطق سيطرة الحكومة بعدم نقل العملة فئة الألف التي يبدأ رقمها التسلسلي بغير الحرف (أ)
وأضاف العوبلي “قيام البنك المركزي التابع للحكومة المتعارف في عدن على طباعة أوراق نقدية جديدة وضخها في السوق من دون سحب ما يساويها من العملة القديمة وإدارة كمية النقد الموجود في السوق، ساهم بشكل كبير في اتساع دائرة الانقسام النقدي خصوصًا أن سلطات الحوثيين غير المعترف بها استغلت ذلك في نهب أموال المواطنين من خلال منع تداولها في مناطق سيطرتها والحصول على الفارق بين العملة الجديدة والقديمة وليس لمصلحة الاقتصاد الوطني”.
وفي نهاية يوليو/تموز الماضي أعلن البنك المركزي اليمني في عدن ضخ أوراق نقدية جديدة من فئة الألف ريال للمرة الأولى منذ أربع سنوات وهي فئة متطابقة مع الأوراق النقدية المتداولة في مناطق سيطرة الحوثيين في إطار خطة لمعالجة التشوهات السعرية في العملة المحلية.
منعت سلطات الحوثيين المصرفية في العاصمة صنعاء التداول بهذه الطبعة التي وصفتها بالمزورة
وطالب البنك المركزي في صنعاء المواطنين القادمين من مناطق سيطرة الحكومة بعدم نقل العملة فئة الألف التي يبدأ رقمها التسلسلي بغير الحرف (أ) والمؤرخة بالعام 2017.
وتضاعفت معاناة المواطنين في مناطق سيطرة الحوثيين عقب قرار منع تداول الأوراق النقدية الجديدة خصوصًا مع احتساب الفارق بين عملتين مختلفتين عند إرسال الحوالات المالية من مناطق سيطرة الحكومة إلى مناطق سيطرة الحوثيين لتذهب معظم أموال المواطنين إلى جيوب الصرافين في ظل أزمة إنسانية خانقة يعيشها اليمنيون بفعل استمرار الحرب منذ سنوات.
رسوم مضاعفة للحوالات
تفاءل الشاب غمدان قاسم بإعلان البنك المركزي في عدن ضخ أوراق نقدية متطابقة مع الأوراق النقدية المتداولة في مناطق سيطرة الحوثيين بانتهاء رسوم الحوالات المضاعفة التي أثقلت كاهله على غرار مئات العمال العاملين في مناطق سيطرة الحكومة.
يعمل غمدان قاسم (29 عامًا) بأحد المطاعم في مدينة عدن جنوب اليمن ويقول “لنون بوست”: “رسوم الحوالات المضاعفة أثقلت كواهلنا، ذهبت قبل أيام إلى أحد مكاتب الصرافة في المدينة لإرسال نحو 100 ألف ريال يمني إلى مدينة إب لكنني تفاجأت بأن عمولة إرسال المبلغ 80%”.
يتحسر غمدان على خسارة الفارق بين عملة واحدة في بلد واحد: “كان أفرد عائلتي بحاجة ماسة إلى المال لشراء المواد الغذائية الأساسية وهو ما جعلني أضطر لإرسال المبلغ ليصل إلى أهلي نحو 20 ألف ريال وهي لا تكفي حتى لشراء الدقيق والسكر”، مضيفًا “حتى إذا أردت تجنب الخسارة وإرسال المبلغ كاملًا مع أحد المسافرين فلا فائدة لأن الطبعة النقدية ممنوع تداولها في إب وهي خاضعة لسيطرة الحوثيين”.
من أبرز انعكاسات الانقسام النقدي في اليمن ارتفاع رسوم الحوالات المالية بين مناطق سيطرة الحكومة ومناطق سيطرة الحوثيين
صادق مصلح (40 عامًا) كان يعمل في البناء بمدينة عدن جنوب اليمن ويشكو من رسوم الحوالات الباهظة التي تحولت إلى ثقب أسود تلتهم أموال المواطنين، يقول: “نكافح من أجل توفير لقمة العيش لأطفالنا، لكن ضاقت بنا الأرض في مدينة عدن نتيجة استمرار انهيار الريال اليمني، بالإضافة إلى الارتفاعات الجنونية في أسعار الحوالات المالية ومنع العملة في المناطق الشمالية التي يسيطر عليها الحوثيون”.
يضيف مصلح “لنون بوست” “تركت العمل في مدينة عدن في بداية العام الحاليّ وفضلت العودة إلى قريتي في ريف محافظة إب أملًا في ممارسة مهنة الزراعة والاهتمام بالأرض الزراعية في فصل الخريف لتوفير الغذاء لأفراد عائلتي”.
وكان من أبرز انعكاسات الانقسام النقدي في اليمن ارتفاع رسوم الحوالات المالية بين مناطق سيطرة الحكومة ومناطق سيطرة الحوثيين وقيام شركات الصرافة والتحويلات بفرض رسوم كبيرة على الحوالات المرسلة بالعملة المحلية وسط انهيارات مستمرة للريال اليمني وغياب تام لدور الحكومة للتخفيف من معاناة المواطنين الذين يعيشون ظروفًا قاسيةً منذ اندلاع الحرب في البلاد.
انهيار مستمر للريال في مناطق الحكومة واستقرار وهمي في مناطق الحوثيين
يشهد الريال اليمني انهيارًا غير مسبوق في تاريخه خصوصًا في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها حيث تخطى الدولار حاجز الألف مقابل الريال اليمني، ووصلت عمولة الحوالات الداخلية 86%، في الوقت الذي يستقر صرف الدولار عند 600 ريال في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، لكن ذلك لم ينعكس على انخفاض أسعار المواد الغذائية التي تشهد ارتفاعًا ملحوظًا.
مرشد عثمان (41 عامًا) سائق حافلة في مدينة تعز وسط اليمن يشكو من ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية نتيجة انهيار الريال اليمني أمام العملات الأجنبية، يقول: “نعيش أسوأ الأيام في حياتنا بالكاد نستطيع الحصول على أبسط الأشياء الأساسية”، مضيفًا “ارتفاع أسعار المواد الغذائية أثقلت كاهلنا، نعيش بضيق لا يعلم به إلا الحي القيوم”.
تمامًا مثل مرشد يشكو محمد قايد سائق سيارة أجرة في صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين من ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية التي تشهد ارتفاعًا بنسبة كبيرة وغير مسبوقة.
يقول محمد قايد (37 عامًا): “أسعار المواد الغذائية في صنعاء تضاعفت بشكل كبير”، موضحًا “لنون بوست” أن سعر الدقيق 50 كيلوغرامًا وصل إلى نحو 17 ألف ريال يمني أي ما يعادل نحو 25 دولارًا أمريكيًا، بينما وصل سعر السكر 10 كيلوغرامات إلى 4500 ريال يمني أي ما يعادل 8 دولارات، رغم استقرار سعر صرف العملات في صنعاء.
يضيف قايد “عندما ارتفع الدولار قبل ثلاث سنوات إلى نحو 800 ريال كان سعر الدقيق يساوي 12 ألف ريال يمني فقط، لكن حاليًّا الدولار مستقر عند 600 ريال وسعر الدقيق 17 ألف ريال وهو ما يثبت أن الاستقرار وهمي ولم ينعكس على انخفاض أسعار المواد الغذائية”.
يرى الباحث في الشؤون الاقتصادية عبد الواحد العوبلي أن استقرار الريال في مناطق سيطرة الحوثيين وهمي وغير حقيقي تفرضه سلطات الحوثيين غير المعترف بها بقوة السلاح بهدف تحقيق مبالغ مالية من أموال المغتربين وكذلك المنظمات الدولية العاملة في مناطق سيطرتهم.
وأضاف العوبلي “الانخفاض وهمي لأنه لم ينعكس على انخفاض أسعار المواد الغذائية والخدمات التي تشهد ارتفاعًا بنسبة كبيرة”، لافتًا إلى أن ارتفاع وانخفاض الأسعار في مناطق سيطرة الحوثيين له علاقة بصرف العملة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة.
خطوات عاجلة لإنهاء الانقسام
يعتقد الباحث في الشؤون الاقتصادية عبد الواحد العوبلي أنه لا حل لمشكلة الانقسام النقدي الحاصل في البلاد إلا بأن تبدأ الحكومة المعترف بها بممارسة دورها الحقيقي كسلطة حقيقية من خلال اتخاذ خطوات عملية على أرض الواقع.
هناك تجار حروب يقفون وراء استمرار إيقاف تشغيل مصافي عدن لخدمة متنفذين في الحكومة وجماعة الحوثي لخدمة تجار المشتقات النفطية
يلخص العوبلي “لنون بوست” أبرز الخطوات المهمة في حل مشكلة الانقسام النقدي فيقول: “حل مشكلة الانقسام يبدأ أولًا بإيقاف تدهور الريال اليمني ومحاولة المحافظة على استقراره وذلك من خلال رفع الإيرادات وتخفيض النفقات”، موضحًا أن بإمكان الحكومة سحب العملة القديمة من مناطق سيطرة الحوثيين من خلال بيع الغاز المنزلي أو عن طريق الاعتمادات المستندية.
يضيف العوبلي “على الحكومة أيضًا حل مشكلة الاقتصاد وذلك من خلال رفع إنتاجها من النفط الخام وتصدير الغاز المسال، بالإضافة إلى توريد الإيرادات إلى البنك المركزي في عدن”، لافتًا إلى أن بقاء الإيرادات تحت تصرف الرئيس هادي ومجموعة من الحكومة في الرياض يساهم بشكل كبير في ضياعها.
“أكثر من ملياري دولار سنويًا هو حجم العملة الصعبة التي تغادر البلد لشراء المشتقات النفطية، فلو تمكنت الحكومة من تشغيل مصافي عدن فإن الضغط الحاصل على العملة الصعبة سوف ينتهي وسوف يستعيد الريال اليمني توازنه”، يقول العوبلي.
يشير العوبلي إلى أن هناك تجار حروب يقفون وراء استمرار إيقاف تشغيل مصافي عدن لخدمة متنفذين في الحكومة وجماعة الحوثي لخدمة تجار المشتقات النفطية التابعين لمختلف أطراف النزاع الذين لهم مصالح مشتركة، بينما يتحمل ويلات الحرب أبناء الشعب اليمني فقط.
ينهي العوبلي حديثه مشددًا على ضرورة إعادة تشغيل مصافي عدن، ما سيساهم في حل 50 إلى 60% من مشكلة تدهور العملة وإنهاء الانقسام النقدي في اليمن.
بالمحصلة، فإن مشكلات اليمن الكثيرة بما فيها الأزمة الاقتصادية، ناتجة عن مشكلة أم هي الحرب والانقسام السياسي الحاد الذي مزق البلد أشتاتًا، ومن شأن التوصل لحل سياسي أن ينهي دفعة واحدة جملة من المشكلات التي نزّت عنها الحرب المتواصلة منذ 2014.