تسير العلاقات السعودية الروسية نحو مزيد من التقارب والتناغم عبر تعزيز التعاون المشترك، لا سيما على الجانب العسكري، الأمر الذي يحمل الكثير من الدلالات والتوجهات والرسائل التي تبعث بها الرياض لحلفائها وفي المقدمة منهم الولايات المتحدة، ويعكس تغيرًا واضحًا في السياسة الخارجية للمملكة بعد سنوات من الثبات.
قبل أسبوعين تقريبًا وقع نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان ووزير الدفاع الروسي العقيد ألكسندر فومين، اتفاقية تهدف إلى تطوير التعاون العسكري المشترك بين البلدين، وذلك على هامش المنتدى العسكري التقني الدولي “آرمي 2021” الذي عقد برعاية وزارة الدفاع الروسية، خلال الفترة من 22 وحتى 28 من أغسطس/آب الماضي، في مجمع “باتريوت” العسكري الوطني، بالعاصمة موسكو.
وخلال اجتماعه مع الوزير الروسي قال ابن سلمان، شقيق ولي العهد: “أود أن أنقل من قيادتي استعدادنا لمواصلة تعزيز العلاقات التي تطورت تاريخيًا بين بلدينا، وأنا على ثقة أننا سنواصل في المستقبل تطوير وتعزيز هذه العلاقات، وتحقيق تطلعات شعبينا وتحقيقها”.
الاتفاقية ليست الأولى من نوعها، ضمن سلسلة من التحديثات التسليحية السعودية من الروس خلال السنوات الأخيرة، ما دفع الخبراء المقربين من دوائر صنع القرار في الرياض إلى التساؤل عن تداعيات هذا التوجه الجديد حيال العلاقات السعودية الأمريكية التي تعاني من توترات كامنة رغم الأجواء الإيجابية التي تخيم على تصريحات مسؤولي البلدين بين الحين والآخر.
ذوبان الجليد
شهدت العلاقات بين الرياض وموسكو خلال العقد الأخير موجات متلاطمة من المد والجزر في ظل التباين الكبير في المواقف والتوجهات إزاء العديد من الملفات، أبرزها الملف السوري حيث الخصومة الواضحة والوقوف على طرفي نقيض، كذلك الملف الليبي الذي عزز تلك الفجوة.
لكن سرعان ما شهدت الأجواء تغيرات جيوسياسية كان لها أثرها في رسم تموضعات جديدة للقوى الإقليمية، فانقسام الموقف الخليجي حيال الملف السوري، بخلاف الانخراط في حرب اليمن والتصعيد مع طهران، كل ذلك كان له أثره في تبريد الأجواء بين السعودية وروسيا.
دخل الطرفان نفقًا من التناغم مع بداية أزمة أوبك والحديث عن تخفيض الإنتاج للحفاظ على التوازن النسبي في ظل الهزة التي شهدها سوق النفط مع جائحة كورونا، البداية كانت مع الاتفاق المشترك للحد من فائض المعروض النفطي في السوق العالمية عام 2016، ثم القرار الثلاثي من إيران وروسيا والسعودية خفض إنتاج النفط لمدة عام تقريبًا منذ مايو/آيار 2017، وهو الاتفاق الذي يعد الأول من نوعه في التاريخ بين دولتين متنافستين في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) ودولة أخرى من خارج الكيان.
لا يمكن قراءة التقارب السعودي الروسي بمعزل عن التحولات المتسارعة التي شهدتها السياسة الأمريكية حيال ملفات الشرق الأوسط، وهي التحولات التي كان لها صداها في دفع السعوديين نحو توسيع دائرة الحلفاء
تتابعت مواقف البلدين الداعمة للآخر، فالسعودية ترفض إجراءات فرض الحظر على روسيا وامتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة الذي أدان التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، في المقابل دعمت موسكو الرياض في أزمتها مع كندا عام 2018، كما سحبت تمثيليتها الدبلوماسية لدى الحوثيين في اليمن.
وبينما كان العالم يوجه سهام نقده للمملكة في أعقاب مقتل المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول أكتوبر/تشرين الأول 2018، واتهام قيادات السعودية بالتورط في هذه الجريمة بحسب ما توصلت إليه نتائج التحقيقات، كان الروس يتبنون موقفًا آخر، فقد علق الرئيس بوتين على هذه الأزمة قائلًا: “لا نعرف ما حدث بالفعل، لذلك لا يمكننا اتخاذ خطوة من شأنها الإضرار بعلاقاتنا مع المملكة العربية السعودية”، وهو الموقف الذي اعتبره البعض “رد الجميل الدبلوماسي للمملكة”.
وبعد انقطاع دام لأكثر من 12 عامًا، زاد بوتين الرياض للمرة الثانية في تاريخه، وذلك بعد شهر واحد من هجمات الطائرات من دون طيار على منشآت شركة أرامكو للنفط في سبتمبر/أيلول 2019، وهي الزيارة التي توجت بالعديد من اتفاقيات التعاون في شتى المجالات.
السياق الإقليمي الدولي
لا يمكن قراءة التقارب السعودي الروسي بمعزل عن التحولات المتسارعة التي شهدتها السياسة الأمريكية حيال ملفات الشرق الأوسط، وهي التحولات التي كان لها صداها في دفع السعوديين نحو توسيع دائرة الحلفاء والابتعاد قدر الإمكان عن الظل الأمريكي الأوحد كإطار سياسي للتوجهات والتحركات.
بدأت تلك التحولات منذ الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما (حكم البلاد من 2009 -2017) الذي تبنت إدارته مفهوم “الأمن الأمريكي الإستراتيجي الجديد”، القائم على السعي لإيجاد حلول سلمية بأقل كلفة ممكنة للنزاعات في المنطقة، وهو المفهوم الذي يميل نحو تمكين إيران إقليميًا، كما جاء على لسانه شخصيًا حين قال: “نتطلع لإيران كقوة إقليمية فاعلة”.
تعزز هذا التوجه مع تجاهل واشنطن للعبث الإيراني في جنوب العراق، وفرض سيطرتها على جزء كبير من المشهد، حيث قُسمت البلاد طائفيًا وإن لم يكن ذلك بشكل رسمي، الأمر الذي بات يشكل تهديدًا كبيرًا للأمن القومي الخليجي، هذا بينما تقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة صامتة.
التحول الذي شهده الموقف الأمريكي حيال الملف السوري كان أحد أبرز السياقات التي يُقرأ من خلالها التقارب السعودي الروسي، فالتغير الطارئ على السياسة الخارجية الأمريكية إزاء هذا الملف تجاهل بشكل كبير المصالح الخليجية التي باتت مهددة بسبب توسع النفوذ الإيراني هناك، الذي لم يضعه الأمريكان في الاعتبار.
استقر في يقين الرياض أن الانكفاء على واشنطن كحليف قوي في مواجهة الخطر الإيراني بات رهانًا محفوفًا بالمخاطر، في ظل تلك السياقات الإقليمية والدولية التي تعززت مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن، الرامية إلى التقارب مع طهران وإعادة إحياء الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب، الأمر الذي كان بمثابة قوة الدفع الكبرى نحو البحث عن شركاء آخرين.
من المستبعد أن تتخذ الرياض أي خطوات تصعيدية جديدة من شأنها تعريض علاقاتها بواشنطن للخطر، فمن المحتمل أن تسير المملكة في تقاربها مع موسكو بتحركات هادئة تحافظ بها على التوازن في العلاقات بين القوتين
الضغط على واشنطن
في مقال على موقع “معهد دول الخليج العربي” قال روبرت مايسن، زميل في مشروع الطائفية في جامعة لانكستر، إنه رغم عدم كشف تفاصيل الاتفاق العسكري المبرم بين الرياض وموسكو على هامش المنتدى، فإن هذه الخطوة “تتماشى مع نهج السعوديين طويل الأمد المتمثل في السعي إلى الاستقلال النسبي عبر شراء الأسلحة من الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية وتجميع شراكات دولية متنوعة بدلًا من الاعتماد حصريًّا على الولايات المتحدة”.
مايسن حمّل التغيرات التي شهدتها الدبلوماسية الأمريكية مع إيران من جانب وتعاطيها مع ثورات الربيع العربي من جانب آخر، مسؤولية توتير العلاقات مع الحليف السعودي، إذ كان السعوديون مستائين من تقاعس الولايات المتحدة عن مساعدة مصر عندما تمت الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، حليف السعودية، في انتفاضات الربيع العربي، على حد قوله.
الموقف ذاته على المسار السوري، إذ كانت السعودية تأمل في تدخل عسكري أمريكي قوي لمنع القوات الإيرانية من توسيع دائرة نفوذها عبر التقارب مع رئيس النظام بشار الأسد والتحالف الضمني من روسيا، لكنه لم يحدث، وعلى العكس من ذلك فرضت تموضعات جديدة تضر بالأمن القومي السعودي.
ثم جاء قرار تعليق بيع الأسلحة الأمريكية – التي تم الفاوض عليها مع إدارة ترامب السابقة – للسعودية، وتجديد إدارة بايدن اهتمامها بعودة الاتفاق النووي، واستمرار موجة الانتقادات بسبب حادثة خاشقجي، ووقف دعم الحرب في اليمن ثم الانسحاب من أفغانستان، كل هذه المؤشرات ساهمت في تعكير الأجواء بين البلدين.
هناك محددات قوية ترسم مستقبل التقارب المتعمق حاليًّا بين الرياض وموسكو، أولها الموقف الأمريكي حيال هذا التقارب، لا سيما أن لدى واشنطن العديد من الأوراق التي يمكنها – حال استخدامها – خلط المعادلة برمتها
وإزاء هذه التوترات التي خيمت على العلاقات بين واشنطن والرياض، يرى الكاتب أن المملكة بدأت في اعتماد إستراتيجية ثنائية جديدة إزاء تلك التطورات، البعد الأول يتعلق بإصلاح العلاقات مع الأمريكان من خلال بعض المؤشرات منها الاستجابة للمصالحة مع قطر والبدء في مناقشات جدية مع طهران للتوصل إلى اتفاق مرضٍ، فيما جاء البعد الثاني اقتصاديًا في المقام الأول، حيث توسيع تعاونها في مجال الطاقة وتعزيز العلاقات مع الكيانات النفطية الكبيرة في المنطقة، في المقدمة منها روسيا.
ويرى الزميل في مشروع الطائفية في جامعة لانكستر أنه من المحتمل أن تكون الرياض قد أبلغت واشنطن بتلك الاتفاقية مع الروس، خشية الوقوع في دائرة أعداء أمريكا من خلال قانون العقوبات، وذلك خلال الزيارة التي قام بها نائب وزير الدفاع خالد بن سلمان، إلى العاصمة الأمريكية يوليو/تموز الماضي، حيث التقى وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان ورئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي.
لا شك أن عودة روسيا للشرق الأوسط كأحد أبرز اللاعبين خلال الآونة الأخيرة كان دافعًا قويًا للسعوديين لتعزيز التقارب بينهما، وفي المقابل يؤمن الروس أن التحالف مع المملكة خطوة جيدة في إطار استعادة الثقل الإقليمي والدولي في تلك المنطقة ذات الموقع الجيوسياسي المحوري.
الهرولة السعودية نحو التقارب مع موسكو تحمل بين ثناياها رسالة ضمنية للأمريكان بضرورة إعادة النظر في إستراتيجية التعامل مع المملكة في الملفات الحساسة التي تهددد مصالحها وأمنها القومي، وهي الرسالة المتوقع أن يكون لها تداعياتها على التحركات الأمريكية في المنطقة خلال المرحلة المقبلة.
وفي الإطار ذاته من المستبعد أن تتخذ الرياض أي خطوات تصعيدية جديدة من شأنها تعريض علاقاتها بواشنطن للخطر، فمن المحتمل أن تسير المملكة في تقاربها مع موسكو بتحركات هادئة تحافظ بها على التوازن في العلاقات بين القوتين، تجنبًا لأي ردود فعل ربما تضع السعودية في مأزق.
مستقبل التقارب
لا يمكن التعويل على التقارب الحاليّ بين السعودية وروسيا في الاستمرار على منوال النجاح الحاليّ، لفترات طويلة، لا سيما إن حاول البلدان القفز على آفاق التعاون الاقتصادي العسكري الراهن إلى تناغم سياسي، قد يصل إلى حد التحالف المشترك.
وعليه فإن ديمومة هذا التقارب لا بد أن يرتكز على عدة أسس على رأسها المصالح المشتركة المباشرة ذات الاتجاهات المتعددة، فهي الضمانة الحقيقية لاستمراره، أما البناء على الظروف الإقليمية والمستجدات الطارئة بين الحين والآخر فغير مضمون، كون الأجواء متقلبة بين الحين والآخر في ظل حالة السيولة السياسية والأمنية التي تشهدها الخريطة العالمية.
ووفق تلك الرؤية قد يكون للملفات المشتركة دور محوري في تعزيز تلك العلاقة، لكن لا يمكن الاتكاء عليها بصورة كاملة، لتأسيس علاقات مستمرة، خشية العودة إلى نقطة الصفر مرة أخرى كما حدث عام 1990، حين استئنفت العلاقات بين السعودية والاتحاد السوفيتي.
الأمور ربما تسير في إطار التقارب أكثر حال انضمام أطراف أخرى لهذا التعاون، تلك الأطراف التي تتمتع بعلاقات جيدة مع طرفي العلاقة، أبرزهم الصين وفرنسا، ومعهم فيما بعد الهند وباكستان وتركيا، وهو ما قد يبشر بتحالف إقليمي جديد قادر على مواجهة التحديات.
وفي الأخير فإن هناك محددات قوية ترسم مستقبل التقارب المتعمق حاليًّا بين الرياض وموسكو، أولها الموقف الأمريكي حيال هذا التقارب، لا سيما أن لدى واشنطن العديد من الأوراق التي يمكنها – حال استخدامها – خلط المعادلة برمتها، هذا بجانب اللزوجة السياسية في الداخل الروسي، حيث الميل صوب طهران صاحبة النفوذ القوي والفعال، مقارنة بضعف الأداء الدبلوماسي السعودي الموجود في موسكو، الذي فشل في اجتذاب قوى محلية روسية إلى جانب المواقف السعودية وتأييدها، وهي المعضلة التي ربما تضع قيودًا على مستويات التقارب بين البلدين مستقبلًا.