توسع النشاط الإيراني في سوريا بشكل ملموس بعد استلام الأسد الابن السلطة عام 2000، وزادت حركة التشيع في مختلف المناطق السورية خصوصًا بعد إفساح بشار الأسد المجال للتعليم الديني الشيعي وافتتاح مراكز تعليم اللغة الفارسية، إضافة للسماح للمركز الإيرانية الشيعية بممارسة أنشطة ثقافية وتعليمية مختلفة على الأراضي السورية دون إخضاعها لأي مراقبة أو مساءلة.
تسعى إيران من خلال تغلغلها في سوريا إلى المزج بين أدواتها الناعمة وقوتها العسكرية الموجودة على الأراضي السورية، فأخذ الطابع الثقافي والديني حيزًا من العلاقات الإيرانية السورية كأبرز أسلحة القوة الناعمة التي تعتمدها إيران ثم أخذ هذا التغلغل طابع الحرب الناعمة التي شنتها إيران بلا رحمة على مختلف الأصعدة الدينية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية.
الوفود الدينية
كان التوافد الإيراني إلى سوريا قبل انطلاقة الثورة السورية مقتصرًا في الغالب على الزيارات الدينية التي تعتبر من أهم ركائز تصدير الثورة الإيرانية، أي التشيع على مذهب الولي الفقيه، وكان الإيرانيون يمارسون شعائرهم الدينية بحرية كبيرة في سوريا ويقومون بحملات ومشاريع ثقافية ودينية عديدة تستهدف المناطق السورية ذات الأغلبية السنية، إذ بلغ عدد الوافدين الإيرانين إلى سوريا عام 1979 نحو 20000 زائر وتصاعد هذا العدد بشكل كبير بعد تاريخ 2011 – بعد انطلاقة الثورة السورية – والتدخل العسكري العلني للقوات الإيرانية وأذرعها العسكرية لمساندة بشار الأسد ليصل عام 2014 إلى مليوني زائر بحسب تقرير للأمم المتحدة نشر عام 2016.
هذه الزيارات وما يرافقها من مواكب حسينية ولطميات واحدة من أدوات التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا، فقد كانت هذه المواكب تجوب شوارع العاصمة السورية سعيًا للترويج للنموذج والمذهب الشيعي، وكانت تتحرك بحرية مطلقة دون أي محاولة للتصدي لنشاطها بسبب حمايتها من القوى الأمنية للنظام السوري، ولا تزال هذا الزيارات قائمة حتى الآن وبوتيرة عالية، وتشترك أكثر من 15 منظمةً في تنظيم هذه الرحلات عبر حملات ترويج للنظام السوري وللأمان السائد في مناطق سيطرته وفقًا لدراسة نشرها مركز الحوار السوري.
نشر التشيع
إضافة إلى ذلك تعتبر سياسة نشر التشيع التي اعتمدتها إيران في سوريا من أبرز أدوات التغلغل الثقافي في سوريا، فقد رصدت إيران مبالغ هائلة لنشر التشيع في مختلف المناطق السورية حيث تمدُّد التشيّع جغرافيًا 11 مرةً في عهد حافظ الأسد، وتضاعف في عهد بشار 39 مرةً عما قبل 1970، وما يقارب 3 مرات عن عهد الأسد الأب. وعمدت إيران في سياستها في نشر التشيع والتغلغل الثقافي إلى التركيز على البوابات الخارجية لسوريا شرقًا وغربًا وتركزت أكبر نسبة للتشيع في الوسط السني في الجزيرة السورية (الرقة – دير الزور – الحسكة).
وأكدت الدراسة ذاتها أن إيران لم تنجح قبل الثورة بنشر التشيع والتغلغل الثقافي باستخدام أدواتها الناعمة، فلجأت بعد الثورة لفرض ذلك باستخدام أدواتها العسكرية، ما يؤكد أنها تخوض في سوريا حربًا عقائديةً مذهبيةً، وفي تقريرنا اللاحق سنذكر أهم الجمعيات التي تعني بنشر التشيع في سوريا منذ أيام الأسد الأب حتى يومنا هذا.
المراقد والمزارات الدينية
عمدت إيران على بناء المراقد والمقامات الشيعية في سوريا وأولتها اهتمامًا كبيرًا، فقد روجت لها على أساس أنها مراقد لـ”الأئمة المعصومين” وأصبحت هذه المقامات من أهم مراكز الوجود الديني للشيعة في سوريا التي تستقطب ملايين الحجاج إليها سنويًا، فزيارة هذه المراقد لدى الشيعة الإثني عشرية يعتبر طقسًا مقدسًا، ومن أهم هذه المقامات مقام السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب ومقام السيدة رقية بنت الحسين ومقام السيدة سكينة بنت علي بن أبي طالب في دمشق.
بعد انطلاقة الثورة السورية تحولت هذه المزارات من كونها مراكز دينية لتصبح مراكز عسكرية تبرر الوجود العسكري الإيراني في سوريا بحجة حمايتها والدفاع عنها، وشكل قاسم سليماني “لواء حراس المقامات” في إشارة لأهمية هذه المقامات لدى إيران.
وفي الوقت ذاته عمدت هذه الأذرع العسكرية لإيران إلى احتلال المساجد وتحويلها إلى مزارات تنشر فيها صور القتلى من عناصرها وقادتها وتدعو الزوار لزيارتها بينما تمنع أهالي المدينة من الدخول إليها كما حصل في الزبداني والقصير عندما رفعت راية “يا حسين” فوق جامع عمر بن الخطاب سعيًا منها لتزييف الجغرافيا السورية وخدمة لمشروع التغلغل والهوس الإيراني في تغيير هوية بلاد الشام.
الحوزات العلمية
الحوزات هي مراكز تعليم ديني على المذهب الشيعي وهي أشبه بالمراكز والمعاهد الأكاديمية التي تعطي الدروس العلمية وتقدم الاختبارات وتصدر البحوث والدراسات الخارجية، بلغ عدد الحوزات الشيعية في سوريا 69 حوزةً تعمل على استقطاب الطلاب الشيعة وتقديم المنح الدراسية لهم، إضافة إلى تشجعيهم على الاستقرار في سوريا وممارسة الدعوة للمذهب الشيعي، وعلى الرغم من تصدير الحوزات على أنها مراكز تعليم، فإنها في حقيقتها كانت تقوم بالكثير من الأدوار السياسية والمذهبية وتعزيز الطائفية وتجنيد المقاتلين وتمويل المليشيات الشيعية العسكرية.
عمدت السلطات السورية إلى تقوية الحوزات الإيرانية وبرز ذلك في الخطة التي وضعها رجل إيران في سوريا اللواء هشام بختيار التي هدفت إلى إضعاف التعليم الشرعي السني وتقوية المؤسسات التعليمية الشيعية ومنح الشيعة على أساسها اعترافًا رسميًا من وزارة التربية والتعليم بـ10 ثانويات شرعية شيعية، إضافة إلى تنقية مناهج الثانويات الشرعية السنية من الأمور التي لا يرضى عنها الشيعة في مقابل مناهج إيرانية شيعية خالصة للحوزات وكليات التعليم الديني الشيعية.
وفي ذات السياق أصدرت الحكومة السورية قانون التعليم الجديد لعام 2006/2007 لتجفيف منابع التعليم الشرعي واستثنت من ذلك الحوزات، ثم أُلغي القرار بعد إصدار علماء الشام بيانًا يرفضون فيها القانون والاستثناء وفقًا للدراسة التي أصدرها مركز الحوار السوري.
المدارس واللغة الفارسية والوفود الأكاديمية
موازة بعمل إيران في السيطرة على التعليم الديني في سوريا، فقد حاولت بشتى الوسائل السيطرة على قطاع التربية والتعليم للأهمية الكبيرة التي يتمتع بها في حياة المجمعات حاضرًا ومستقبلًا، كون التعليم أحد أبرز الأسلحة التي تستخدمها إيران لبسط نفوذها في المنطقة، فقد أولت إيران اهتمامًا كبيرًا بتوفير الأدوات التعليمية والتربوية التي تخدم مشروعها في إعادة تشكيل المجتمع السوري ككل، وركزت على الشريحة العمرية الخاصة بالأطفال والشباب كونها أساس المجتمع وحاضره ومستقبله.
منح بشار الأسد إيران تسهيلات كبيرة في بناء الثانويات الشرعية والمدارس الخاصة بالشيعة، فأصدر مرسومًا في 2014 سمح من خلاله بتعليم المذهب الشيعي في المدارس السورية إلى جانب المذهب السني، إضافة إلى افتتاح أول مدرسة شيعية عامة في البلد في سبتمبر/أيلول 2014 “مدرسة الرسول الأعظم” على أطراف مدينة جبلة ثم بلغت هذه المدارس في السنوات السابقة ما يقارب الـ40 مدرسة منتشرة في دمشق.
عمدت إيران إلى افتتاح المدارس وتعيين كوادر تعليمية إيرانية إضافة إلى استقطاب الطلاب السوريين عن طريق تقديم الحوافز المادية لهم، مستغلة الحالة المادية الصعبة التي يعيشونها، فتم افتتاح ثلاث مدارس في مدينة البوكمال ومدرسة في دير الزور، ضمت هذه المدارس الأطفال من الفئة العمرية التي تتراوح بين 8 و15 سنة، وتقدم المدرسة نحو 20 دولارًا للطالب المنتسب إليها.
اجتهدت إيران في نشر اللغة الفارسية عن طريق المدارس والمراكز التعليمية التي تنشرها في مختلف المناطق السورية، وتركزت جهودها على المناطق الساحلية لأن هذه المناطق لم تشهد حركة نزوح كبيرة وتتميز بوجود شريحة كبيرة من المواليين للنظام، سعيًا منها لتعزيز الولاء لإيران والشيعة في المنطقة، وعمل القائمون على هذه المراكز على استقطاب السوريين عن طريق تقديم مساعدات مالية وسلل إغاثية للمنتسبين إليها.
تستهدف دورات اللغة الفارسية بشكل أساسي الأطفال بدءًا من عمر 8 سنوات وما فوق، لسهولة السيطرة على هذه العقول النظيفة وتغيير طريقة تفكيرها بما يتلاءم مع الخطة الإيرانية، ولم تقتصر محاولات إيران في نشر اللغة الفارسية على افتتاح المدارس بل تعدى ذلك إلى الجامعات السورية الرسمية وبدعم من الحكومة السورية، حيث افتتح قسم اللغة الفارسية في عدة جامعات سورية مثل جامعة تشرين وحلب والبعث إضافة إلى جامعة دمشق بموجب اتفاقية تعاون بين وزارتي التربية والتعليم السورية والإيرانية.
تحت عنوان “تأثير تربوي”، قال تقرير للمعهد الأمريكي: “ثمة تطور يشير إلى هدف إيران المتمثل بضمان وجود متعدد الأجيال في سوريا، وهو قرار نظام الأسد بفتح أقسام باللغة الفارسية في العديد من المؤسسات التعليمية، بما فيها جامعة دمشق وجامعة البعث في حمص وجامعة تشرين في اللاذقية، وتترافق الدروس التي تقدمها هذه الأقسام مع مجموعة واسعة من المحفزات لزيادة إقبال السوريين عليها، ولا يُطلب من الطلاب الالتحاق ببرامج كاملة من أجل حضور الدروس، ويمكن للشباب دون سن دخول الجامعة أن يحضروها، وقد لا تنطبق الرسوم الجامعية العادية، وتشمل الدروس رحلات إلى إيران”.
لم يقتصر التغلغل الإيراني في الجامعات السورية على نشر اللغة الفارسية بل تعدى إلى أبعد من ذلك، فكانت تنظم زيارات للأكاديميين والمسؤولين في وزارة التعليم العالي السوري مستغلة الوضع الأمني الصعب في سوريا، إضافة إلى تنظيمها رحلات خاصة بالأساتذة والإداريين في الجامعات، وأصبحت إيران تحيي ذكرى انتصاراتها في المسارح ودور الثقافة بالمؤسسات التعليمة وتعقد الندوات لدعاتها الشيعة في هذه الجامعات والمراكز الثقافية السورية.
نشطت اللقاءات بين وزارة التعليم العالي في سوريا والجهات التعليمية الإيرانية ووقعت العديد من الاتفاقيات ومسودات التعاون ولم يتم الإفصاح عن مضمون أي منها بشكل صريح، ما يجعلها اتفاقيات “فضفاضة” ويوفر الغطاء القانوني لأعمال إيران في هذه الجامعات ويعطيها مساحة لأكبر للتغلغل عبر المؤسسات الرسمية السورية.
وقعت وزارة التربية والتعليم السورية عدة اتفاقيات ومذكرات تعاون مع وزارة التربية والتعليم الإيرانية بين عامي 2019 و2020 وصلت إلى ما يقارب الـ12 اتفاقية ومذكرة، وجاء في بيان عن وزارة التربية والتعليم السورية لإحدى الاتفاقيات عام 2020 “تم التوقيع والتوافق على البنود كافة بعد مناقشتها وصياغتها، بما فيها تأهيل وتطوير قدرات المدرسين والمدرسات، وتبادل الخبرات والمساهمة في ترميم المدارس، بما سينعكس إيجابًا على تطوير العملية التربوية”.
جرى توقيع الاتفاقيات دون الإفصاح التام عن البنود الخاصة بها، واقتصر تعليق النظام السوري على أن “هذه الاتفاقيات ومشاريع التعاون التي تم التوصل إليها تحمل بعدًا إستراتيجيًا” وعله قصد بذلك البعد إتمام هيمنة إيران على بلاد الشام.
إضافة إلى ذلك تسعى إيران عبر مراكزها المنتشرة إلى إقامة المعارض لتسويق كتبها الدينية التي تدخل الأراضي السورية وتوزع داخلها دون أي مراقبة ومعاينة، وتعتمد أيضًا على فتح مكتبات تسمى بـ”حوانيت” تعمل على إعارة الكتب وتوزيعها مجانًا وتقديم جوائز وهدايا لمن كتبها، بالإضافة إلى توزيع الأشرطة الخاصة بالسلاسل التعليمية وتوزيع جرائد ومجلات تحتوي على سباب وطعن بالصحابة، كما تقدم التسهيلات للراغبين بالدراسة في الجامعات الإيرانية.
تسارع إيران الخطى من أجل إكمال الاستيلاء على سوريا بمفاصلها كافة، وهو الأمر الذي سخرت له آلافًا من الإيرانيين العسكريين والدينيين وغيرهم، لتصبح البلاد بأكملها تحت إدارتهم ويكون لهم موطئ قدم دائم في الشرق الأوسط، وقد وصلت الأمور في سوريا إلى حد لم يعد بالإمكان إيقافه إلا بمشروع وطني شامل يضع نصب عينيه الخلاص من هيمنة مشروع الولي الفقيه في بلاد الشام.