يبدو أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد أدمن إثارة الجدل، إذ لا يكاد يمرّ أسبوع في مصر، إلا والرجل محلّ جدل ومثار حديث للرأي العام، إما بتصريحاته وخطاباته التي كثيرًا ما تتسبّب في استفزاز الجماهير، وإمّا بسلوكياته التي تتعارض معظم الوقت مع ادّعاءاته عن نفسه وعن قِيَمه، والتي تكتشَف عادة عن طريق المصادفة.
محور الحديث في الساعات الأخيرة هو اقتراب الحكومة المصرية من الحصول على طائرة رئاسية جديدة، من أجل خدمة رئاسة الجمهورية وكبار مسؤولي الدولة، من الخارج، مقابل مبلغ ضخم، يدفَع من الميزانية العامة للدولة، التي يقول عنها المسؤولون إنها لا تحتمل أيَّ نفقات غير ضرورية.
طائرة أميركية
رغم كونها طائرةً واحدةً هذه المرة، إلا أنها تسبّبت في جدل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعدّ المتنفّس الوحيد للمواطن المصري، في ظلّ سيطرة الدولة التامة، دونما أي مبالغة، على كل منافذ الإعلام المكتوب والمقروء والمسموع، سواء كان ذلك بالملكية المباشرة أو بدوائر العلاقات والولاءات أو بالترهيب والإذعان.
أحد مسبِّبات إثارة الجدل بخصوص تلك الطائرة الأميركية الجديدة، أن من تولى إعلان خبر شرائها لم تكن الصحافة المصرية، وذلك رغم وجود منصّة رسمية تابعة لرئاسة الجمهورية على مواقع التواصل الاجتماعي تتولّى نشر كل أنشطة الرئيس، وتدشين موقع رسمي جديد لمؤسسة الرئاسة مؤخّرًا، وإنما من أعلن الخبر كانت الصحافة الأجنبية، وبالتحديد الألمانية.
في وقت سابق، أفادت صفحة “الموقف المصري” المعارضة أن الرئاسة الأميركية لجأت قبل عدة أعوام إلى ما يشبه “الحوار المجتمعي” لبيان أهمية إبرام صفقة جديدة لتجديد الطائرات الرئاسية محدودة العدد التي خدمت في المؤسسة نحو 30 عامًا متواصلة.
يخالفُ ذلك التجاهل المتعمَّد لإعلان الخبر محليًّا مقتضيات الشفافية المفترَضة بين السلطة، ممثلةً في أعلى أشكالها في الدولة المصرية بمؤسسة الرئاسة، وبين المجتمع المصري، كما يخالف العُرف المعمول به في مثل هذه القرارات في معظم دول العالم المتحضِّر.
في وقت سابق، أفادت صفحة “الموقف المصري” المعارضة التي تتبنّى خطابًا يمثل معظم أطياف المجتمع المصري، أن الرئاسة الأميركية لجأت قبل عدة أعوام إلى ما يشبه “الحوار المجتمعي” لبيان أهمية إبرام صفقة جديدة لتجديد الطائرات الرئاسية محدودة العدد التي خدمت في المؤسسة نحو 30 عامًا متواصلة، وهو ما لم يحدث في مصر.
السبب الثاني، إن قيمة الصفقة المبرَمة بين الحكومة المصرية وشركة “بوينغ” الأميركية من أجل الحصول على طائرة واحدة من طراز B747-8، قد تجاوزت 400 مليون دولار أميركي، وهو ما يعادل، عند الأخذ في الاعتبار القيمة الحالية للجنيه المصري أمام الدولار، نحو 6 مليارات ونصف المليار جنيه مصري، وهو رقم ضخم جدًّا بالنسبة إلى بندٍ مشابه في الحالة المصرية.
ناهيك عن أن هذه الطائرة العملاقة، بشكل خاصّ، قد رفضت شركة “لوفتهانزا” الألمانية للطيران الحصول عليها ضمن صفقة تشمل 20 طائرة من هذا النوع، وذلك بسبب إفراط الشركة المصنِّعة في إجراء الاختبارات وإدخال تعديلات جوهرية عليها دون التنسيق مع الجانب الألماني، ما جعلها بلا استخدام تقريبًا لدى الشركة الأميركية طيلة الأعوام الماضية.
هل مصر في حاجة إلى مزيد من الطائرات؟
تقول صفحة “الموقف المصري” إن أسطول الرئاسة الأميركية الجوي، بكامل عتاده، وبكل النفوذ الأميركي، يبلغ طائرتَين فقط، جرت زيادته بأعداد بسيطة بعد تهالُك هاتين الطائرتَين على مدى العقود الثلاثة الماضية، بالاتفاق مع “بوينغ” الأميركية.
بالنسبة إلى مصر، فإن السيسي في التوقيت نفسه تقريبًا قبل 5 أعوام، عام 2016، أبرمَ صفقةً مماثلة مع شركة فرنسية من أجل الحصول على 4 طائرات رئاسية جديدة، بقيمةٍ إجمالية وصلت إلى 300 مليون يورو، وهو ما عادلَ في ذاك الوقت نحو 3 مليارات جنيه مصري.
في هذا التوقيت الذي كان يطالب السيسي فيه المجتمع المصري بالتقشُّف للمفارقة، قد نفى متحدِّثٌ باسم الرئاسة المصرية أن تكون مصر قد تعاقدت على تلك الصفقة مع الجانب الفرنسي، ولكن عامَين فقط كانا كافيَين من أجل إثبات عدم صدق ذلك المصدر، بعد ظهور تلك الطائرات ضمن أسطول الرئاسة المصري.
معروف عن الرئاسة المصرية أنها تمتلك أسطولًا ضخمًا متقادمًا من الطائرات الأوروبية التي صنعتها شركة “إيرباص” يصل إلى 24 طائرة.
فضلًا عن شراء السيسي أيضًا قبل ذلك منظومات دفاع جوي مستورَدة من الخارج بسعر باهظ خصيصًا من أجل حماية الطائرات الرئاسية، فإن ما هو معروف عن الرئاسة المصرية أنها تمتلك أسطولًا ضخمًا متقادمًا من الطائرات الأوروبية التي صنعتها شركة “إيرباص” يصل إلى 24 طائرة، كان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك قد تعاقد عليها جميعًا بقيمة تفوق سعر طائرة الرئيس السيسي الجديدة قليلًا، نحو 500 مليون يورو.
ووفقًا لما ورد في تحقيق قصير أعدّه موقع “المنصة” المستقل في مصر عن هذا الموضوع، فقد كان رؤوساء مصر السابقين حذرين للغاية من تلك الأمور، خوفًا من إثارة الجماهير ضدهم، فقد اكتفى الرئيس السادات بـ 3 طائرات، حصل عليهم كهدايا من رؤوساء آخرين، وفضّل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر الذي كان محسوبًا على اليسار عدم شراء أي طائرات مطلقًا والاعتماد على التأجير.
“أشوف أمورك أستعجب”
في الأمثال المصرية الدارجة مثل سائر ينطبق على مواقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إزاء تعامله مع المال، وهو: “أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب”، والذي يُضرَب عندما يقول أحد الأشخاص كلامًا منمّقًا موزونًا، ولكنه يقوم بأمور تتعارض تمامًا مع هذا الكلام.
ففي الأعوام الأخيرة، اتخذ الرئيس المصري سلسلة إجراءات أدّت إلى العصف بالطبقة المتوسطة تمامًا، وهي، بالترتيب، قرار رفع الدعم عن الوقود والطاقة المقدَّمة للمنازل تدريجيًّا، ثم رفع الدعم عن الجنيه المصري ما رفع سعره أمام الدولار نحو 200%، وصولًا إلى استحداث كمٍّ هائل من الضرائب التي أثقلت ظهر المواطن، على رأسها ضريبة القيمة المضافة.
اللافت أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رغم إنفاقه الباذخ على ميزانية الرئاسة، فإنه دائمًا ما يطالب المجتمع المصري بـ”ربط الحزام” كما يقول التعبير الاصطلاحي الدارج، متهمًا إياه بعدم المسؤولية وبالتسبُّب في عجز الدولة عن الوفاء بمتطلباته، والمقامرة باستقرار الحكم ومستقبل البلاد بتلك المطالب المبالَغ فيها وبالزيادة السكّانية.
قال السيسي إنه لا مجال لمحاسبته طالما أن ميزانية البلاد لم تصل إلى الرقم المناسب إنفاقه في ظلّ الزيادة السكانية المطّردة، وهو الرقم الذي حدّده بتريليون دولار أميركي، أي 17 تريليون جنيه مصري تقريبًا.
آخر “تقليعات” الرئيس المصري في هذا الصدد، كانت قراره الصارم، والذي لم يطبّق بعد لكنه في طور الدراسة، بضرورة رفع سعر رغيف الخبز، البالغ 5 قروش، معلِّلًا بأن سعره لم يزد طيلة عقود مضت، وأن هناك حاجة إلى استقطاع العائد من تلك الزيادة المنتظرة من أجل توفير وجبة غذائية صحّية للطالب المصري.
وفي كلمته قبل ساعات خلال إعلان ما عُرف بالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إنه لا مجال لمحاسبته طالما أن ميزانية البلاد لم تصل إلى الرقم المناسب إنفاقه في ظلّ الزيادة السكانية المطّردة، وهو الرقم الذي حدّده بتريليون دولار أميركي، أي 17 تريليون جنيه مصري تقريبًا.
ليست المرة الأولى
قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تناقضًا ظاهريًّا واضحًا بين ادعاءات السيسي عن “الوطن الفقير”، الذي يعاني من “العوز”، والذي لا يدرك أهله حجم المجهود الذي يبذله الرئيس من أجل سدّ احتياجاتهم التي لا تنتهي من جهة، وبين سلوك الرئيس غير المسؤول تجاه المال العام نفسه من جهة أخرى.
فقد أنفقَ السيسي، وفقًا لما وثّقه المقاول الذي ظلَّ متعاملًا مع الجيش والرئاسة نحو عقدَين، محمد علي، منذ عامَين، مئات الملايين من الجنيهات على مظاهر فارهة له بشكل شخصي ولأسرته ولمقرّبين منه، دون اعتبار لوضع الوطن البائس المكبّل بالديون، كما يقول السيسي دائما.
أوجُه هذا الإنفاق على سبيل المثال وليس الحصر وفقًا للمقاول، كانت فندقًا فارهًا في منطقة الشويفات أهداه لصاحبه بقيمة تصل إلى مليارَي جنيه، وبناء قصر منيف في منطقة العلمين بتوصية من حرم الرئيس، السيدة انتصار السيسي، إلى جانب إنفاق عشرات الملايين على حفل افتتاح قناة السويس الجديدة أغسطس/ آب 2015.
يسعى السيسي إلى خلق مسافة اجتماعية متعمَّدة بين مؤسسة الرئاسة والمواطنين، وتعويد الجماهير على تلك المسافة، بما في ذلك الصور العملاقة للسيسي التي تعلَّق خلال زياراته لأي مشروع، وكأنها أمر عادي، فالتقشف لا يسري على الدولة.
كما كشفت الصحافة البريطانية قبل عام من الآن تقريبًا، أن السيسي أنفق ما لا يقل عن مليون جنيه إسترليني خلال احتفاله بعيد ميلاده الـ 66 في فندق فارهٍ بالقاهرة، وذلك من خلال استقدام مغنّية بوب مشهورة بطائرة خاصة من بلادها لإحياء تلك المناسبة، وكان سبب تسليط الصحافة الأجنبية الضوء على تلك الواقعة، أن الفنانة لم تلتزم بالإجراءات الاحترازية عند عودتها إلى بلادها.
ولكن يزول العجب من تناقض السيسي بين ادّعاءاته وسلوكه تجاه المال العام، عندما نتذكر تصريحه في إحدى الندوات التثقيفية للقوات المسلحة مؤخّرًا، والتي قال فيها إن المواطن في الدولة الجديدة لا بد أن يحترم كل مؤسسات الدولة ولا يتدخل في شؤونها إطلاقًا، من أعلى مؤسسة لأقلّ مؤسسة.
وهو ما يسعى السيسي إلى تكريسه، على ما يبدو، في حالة مؤسسة الرئاسة، عن طريق خلق مسافة اجتماعية متعمَّدة بينها وبين المواطنين، وتعويد الجماهير على تلك المسافة، بما في ذلك الصور العملاقة للسيسي التي تعلَّق خلال زياراته لأي مشروع، وكأنها أمر عادي، فالتقشف لا يسري على الدولة، وأعلى مؤسسات الدولة هي الرئاسة، ممثلةً في شخص الرئيس، الذي لا بد أن يحظى بمعاملة تمييزية مستحقة، دون أدنى استغراب، كما يعتقد السيسي ويعمل على تطبيقه.