يطرح كثير من المحللين فكرة احتلال الصين للموقع الأميركي كقوة عظمى متفرِّدة، أو على أقل تقدير أنها قطب ثانٍ بديل للاتحاد السوفيتي السابق، في عالم ثنائي القطب تتقاسمه الولايات المتحدة والصين.
وبغضّ النظر عن توقيت حصول ذلك وظروفه، فالوضع الحاصل في أفغانستان يعطي إجابة عن سؤال: كيف سيكون الحال مع وجود الصين كقوة دولية في أزمة إقليمية بغياب الوجود الأميركي؟
ماذا تفعل الصين في أفغانستان؟
لدى الصين عدة أسباب لدخول أفغانستان، فبعد رحيل القوات الأميركية لا تريد أن تترك الدولة المحاذية لإقليم شنيانغ الذي يسكنه المسلمون الإيغور، في فراغ قد يقود إلى فوضى تنتهي بانتفاضة مسلَّحة يقوم بها مسلمو الإقليم هناك، كما من مصلحة الصين أيضًا تدعيم صورتها الدولية بالنجاح في مشروع فشلت فيه الولايات المتحدة.
يكمن الفارق مع الولايات المتحدة أن بكين لا تتدخل بوضع جنود على الأرض، بخلاف واشنطن التي أرادت حلّ مشكلة طالبان بالإطاحة بها وتغيير شكل الحكومة على الأرض، بينما ترى الصين أن حلّ مشكلة طالبان يكون من خلال القبول بها في الحكم.. وكذلك أعلنت الصين!
يقول رافايللو بانتوتشي، الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، أن الولايات المتحدة “أرادت تحويل (أفغانستان) إلى شيء مختلف تمامًا عمّا كانت عليه من قبل، بينما لن يقدم الصينيون أبدًا على هذه الخطوة، بل سيتعاملون مع الوضع كما هو”.
ردّت طالبان بشكل إيجابي على مبادرات بكين ويبدو أنها مستعدة للسماح للصين بلعب دور هام في أفغانستان.
بدأت بالفعل بعض فوائد نهج الصين بالظهور، فرغم أن دبلوماسيي واشنطن قد تفاوضوا مع طالبان، إلا أن القيام بذلك تركهم في حالة من التردد القلق من تضرُّر مكانتهم كقوة عظمى وحليف يمكن الوثوق به، بينما لا يوجد مثل هذا التردد لدى القادة الصينيين، حيث التقى وزير الخارجية وانغ بممثّلي طالبان في يوليو/ تموز الماضي، واستعرض موقف بكين بأن “أفغانستان ملك للشعب الأفغاني، ومستقبلها يجب أن يكون في أيدي شعبها”.
مثل هذه الجهود تؤتي ثمارها، فقد ردّت طالبان بشكل إيجابي على مبادرات بكين ويبدو أنها مستعدة للسماح للصين بلعب دور هام في أفغانستان، حيث قال سهيل شاهين، المتحدث باسم حركة طالبان: “لقد كنا على تواصل مع الصين مرات عديدة، ولدينا علاقات جيدة معها”.
وأضاف: “الصين بلد صديق نرحّب به، الأشخاص من البلدان الأخرى الذين يريدون استخدام أفغانستان كموقع (لشنّ هجمات) ضد دول أخرى واهمون، لقد تعهّدنا بأننا لن نسمح لهم بالعمل، سواء كانوا أفرادًا أو كيانًا، ضد أي دولة بما في ذلك الصين”.
الشرعية لمن يحكم
يعطي التعامل الصيني في أفغانستان صورة واضحة عن تعامل بكين الدولي، حيث لا تهتم الصين بمن هو موجود في الحكم طالما أنه موجود في الحكم، فقد تعاملت الحكومة الصينية مع المجلس العسكري في ميانمار، ثم مع الحكومة الديمقراطية بقيادة أونغ سان سوكي، ثم مع المجلس العسكري الذي انقلبَ عليها، وكذلك الحال مع حكومات قمعية مثل إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية.
حتى أفغانستان نفسها كانت جزءًا من الاستراتيجية الصينية، عندما عقدت الصين اتفاقًا مع الحكومة الأفغانية في زمن حامد كرزاي لتطوير منجم آيناك للنحاس بقيمة 3.3 مليار دولار، وكانت الصفقة تتضمّن عوائد كبيرة للحكومة بقيمة 808 مليون دولار، كما تحمل الصفقة أيضًا طابع الصفقات مع الشركات الصينية شبه المملوكة للدولة، وهو وضع يمنح الشركات الصينية وصولاً خاصًّا إلى التمويل منخفض الفائدة المدعوم من الحكومة.
على سبيل المثال، غالبًا ما تعمل شركات التعدين الصينية عن كثب مع بنك الصين “إكزيم”، وبنك التنمية الصيني والوكالات الحكومية الأخرى/ لتضمين عروضها الاستثمارية في صفقات شاملة؛ في المقابل، الشركات الغربية مملوكة علنًا، وخاضعة للمساءلة، ويجب أن تثبت جدوى استثماراتها للمساهمين، وتقديم توقُّع معقول للعائدات، وفي حال نجاح مشاريع مثل منجم آيناك، فإنها ستساعد في إثبات أن أفغانستان مكان قابل للاستثمار الأجنبي، وسيكون ذلك من خلال الاستثمار الصيني.
الاقتصاد إذًا هو البوابة الصينية للتدخُّل وليس الحل العسكري، ربما يشمل هذا التدخل الاقتصادي جانبًا عسكريًّا في المستقبل لحماية تلك الاستثمارات، أو لحماية حكومات تلك الدول، حيث يؤكّد ذلك تصريح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن حول أن “الصين تحاول تجهيز جيشها بمعدات فائقة التقنية بحلول عام 2035، كي تتمكن من نشر جيش عالمي بحلول عام 2049”.
الصين أنها لا تُتعب نفسها في التغيير، بقدر الاستفادة من واقع موجود تجعله يصبّ في صالحها
ليس ببعيد عن الاقتصاد، تشكّلُ الديون وسيلةً أخرى للهيمنة، فلطالما سخرَ الصينيون من ولع أميركا بالتدخُّلات الخارجية (رغم أنهم استفادوا منها في حالة أفغانستان)، ويدافع قادة الصين عن مبدأ “عدم التدخل” في شؤون الدول الأخرى، ويُترجَم هذا إلى نظام دبلوماسي مجرّد من أي قِيَم، بينما يحاول الأميركيون جعل المجتمعات الأخرى أقرب من حيث الفكر إلى المجتمعات الأميركية، من حيث نمط العيش والثقافة وبالتالي التمحور حول واشنطن سياسيًّا.
على الجانب الآخر لا يهتم الصينيون كثيرًا بنوع الحكومة التي يمتلكها البلد الآخر، أو ما قد تفعله بشعبها، طالما أنها لا يسبب مشاكل للصين، حيث وصف وانغ يي، وزير الخارجية، الوضع في أفغانستان بأنه “مثال سلبي آخر” على حماقة التدخل العسكري في بؤر التوتر الخارجية، وحذّر من أنه “إذا لم تتعلم الولايات المتحدة من الدروس المؤلمة، فإنها ستعاني من جديد منها”.
لا تسعى الصين لتغيير ثقافة الشعب، وإنما تجبر قيادته -مهما كانت- على الارتباط اقتصاديًّا -وبالتالي سياسيًّا- بالصين من خلال القروض السخية التي تجعل البلدان صيدًا في شباك بكين، كما حصل مع سريلانكا التي اضطرت لتأجير 70% من ميناء هامبانتوتا عام 2017 لصالح الصين لمدة 99 عامًا، بعد عجزها عن سداد دين بقيمة 1.1 مليار دولار، أو مع الإكوادور التي ستسلّم 90% من صادرتها النفطية للصين خلال عام 2024 عن دين بقيمة 6.5 مليار دولار، أو دول تواجهُ المصير نفسه بعد غرقها في بحر من الديون مثل جيبوتي وموزمبيق وبوروندي وتشاد وزامبيا.
ربما لم يحن الوقت بعد للصين للظهور على المسرح الدولي بوضوح مثل الولايات المتحدة، لكنها تتشاركها من حيث البراغماتية في التعامل مع الحكومات الموجودة على الأرض حتى لو كانوا حفنة من الطغاة القمعيين، حيث ما يميّز الصين أنها لا تُتعب نفسها في التغيير، بقدر الاستفادة من واقع موجود تجعله يصبّ في صالحها، وحتى لو قامت الشعوب بثورة للإطاحة بالنظام الحاكم، ستجد أي حكومة الباب مفتوحًا من بكين بصدر مفتوح، وديونًا سخية حاضرة للدفع.