انطوت صفحة جديدة بثورة مدينة درعا، بعد الاتفاق الأخير المبرم مع قوات النظام بوساطة وتهديد روسيَّين، قُضي فيه نشر 9 حواجز ضمن مدينة درعا، مع وجود وحدات خارج المدينة للتغطية النارية في حال حدث هناك خرق للاتفاق من قبل الأهالي.
كما جرت حملة واسعة للتفتيش على الهويات ضمن المدينة، للتحقُّق من خلوها من المقاتلين الأجانب، الذين يتواجدون بشكل طبيعي في صفوف قوات النظام مثل ميليشيا حزب الله اللبناني ولواء زينبيون ولواء فاطميون، الذين شاركوا في حصار المدينة لفترة قاربت الـ 3 أشهر عجزت فيها القوات المهاجِمة من اقتحامها إلا عبر المعاهدة السياسية، رغم استخدامها شتى أنواع الأسلحة وإمطار تلك الرقعة الجغرافية الصغيرة بمئات القذائف والصواريخ، أبرزها صواريخ فيل وجولان محلية الصنع.
كما قضى الاتفاق الجديد بسحب عدد لم يتمّ تحديده من الأسلحة الفردية، التي بقيت مع الأهالي بحسب اتفاقية التسوية التي أُجريت منتصف عام 2018 بين الفصائل المحلية آنذاك وقوات النظام بـ”ضمانة” روسية، فيما تتنصل موسكو من مسؤولياتها التي تفرضها عليها صفتها كضامن أمام حملة النظام الأخيرة على درعا.
لماذا تجدَّدت التسوية لأهالي درعا؟
لم يكن من المريح للنظام ومن خلفه الروس والإيرانيين حملات المقاطعة الجماعية تجاه الانتخابات الرئاسية في مايو/ أيار من العام الجاري، بدءًا من درعا البلد، الجزء القديم من مدينة درعا، امتدادًا إلى قرى وبلدات المحافظة، حتى تلك المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام منذ بداية الثورة في مارس/ آذار 2011.
أثار ذلك حفيظة النظام ودفع قواته لحصار درعا البلد، تتزعّمها الفرقة الرابعة والفرقة التاسعة والخامسة عشر، بالإضافة إلى ميليشيات أجنبية متعدِّدة الجنسيات، وفُرضَ على المدينة طوق أمني مُنع من خلاله الأهالي من الدخول إليها والخروج منها، بالإضافة إلى قطع أساسيات المعيشة عن المدينة كالخبز والطحين، دونًا عن قطع الماء والكهرباء عن المدينة بشكل كامل.
لتبدأ بعدها فصول المفاوضات وينقلب من خلالها النظام على أهالي درعا المرة بعد الأخرى، عن طريق النكث بالمعاهدات والشروط التعجيزية التي يفرضها، أو من خلال الحملات العسكرية التي باءت بالفشل ولم تسمح للنظام بالتقدُّم ضمن الأحياء المحاصرة.
تلك الضغوط المستمرة دفعت المفاوضين ومن ورائهم أهالي درعا البلد إلى القبول بشروط قوات النظام، التي تمثّلت بتسويات جديدة وانتشار الحواجز الأمنية داخل المدينة وتسليم السلاح وتهجير غير الراغبين بالتسوية إلى الشمال السوري.
الغاز المصري في درعا
يرى محلِّلون أن للغاز المصري دورًا كبيرًا في قيام الحملة الأخيرة، ومحاولات السيطرة على درعا جاءت بعد مقترح أميركي لإمداد لبنان بالغاز الطبيعي ليعوَّض النقص في ملف الكهرباء، عبر أنابيب تمتدّ من العريش في مصر إلى العقبة جنوب الأردن، ومن الأردن إلى سوريا مرورًا بدرعا إلى حمص، ومن حمص يتفرّع إلى بانياس شمال محافظة طرطوس، ومن بعدها إلى طرابلس شمال لبنان.
فيما يرى نشطاء حقوقيون أن الهدف الرئيسي من إنشاء خط الغاز، هو تعويم نظام الأسد محليًّا عبر تقاربات عربية سورية بحجّة إمداد لبنان بالغاز الطبيعي المصري، تمهيدًا لفتح الباب أمام النظام لإعادة علاقاته الدولية كما كانت بدعم عربي روسي وإيراني بالوقت نفسه.
الجانب الروسي من ضامن إلى طرف
استمرَّ النظام بتعنُّته على طاولة المفاوضات وفرض شروط تعجيزية، مثل إصراره على طلب شخصَين يدّعي انتماءهم إلى تنظيمات إرهابية، واشتراطه على اللجنة التكفُّل بتهجيرهما إلى مناطق الشمال السوري، وبالوقت نفسه استمرار القوات المهاجمة بالقصف ومحاولات الاقتحام، ما دفع اللجنة المفاوضة إلى الانسحاب من المفاوضات وإعلان فشلها بسبب الشروط القاسية، كما وصفتها اللجنة في بياناتها الرسمية، الأمر الذي أوقف المفاوضات واعتماد الحل العسكري بالكامل الذي كان يفشل عند كل محاولة، مع الفارق الكبير في أعداد المقاتلين ونوعية السلاح المستخدَم عند كلا الطرفَين.
تعسُّر المفاوضات وتأخيرها لحسم الملف، دعا نائب وزير الدفاع الروسي إلى تهديد لجنة المفاوضات وعشائر درعا، بأن لديهم فرصة أخيرة للقبول بشروط النظام وإلا فأنه سيتدخّل بالمعركة بصفّ النظام لإنهاء الملف بشكل عسكري سريع.
أخذت لجنة المفاوضات التهديدات الروسية على محمل الجدّ، وآثرت الموافقة على الشروط على أن تدخل في معركة غير متكافئة، وأن تحمل المدينة ما لا تستطيع احتماله على رقعة جغرافية صغيرة لا تتجاوز الـ 4 كيلومترات مربّعة.
هل نشهد انتهاءً للثورة بدرعا أم أن هناك مفاجآت؟
في حديث مع أحمد عمر، أحد النشطاء في مدينة درعا، قال: “إن وجود الحواجز في درعا البلد لن يكون عائقًا لمشاركتها في الثورة، مستحضرًا الحالة الثورية ضمن عامَي 2012 و2013، حيث كان هناك قرابة الـ 50 حاجزًا في درعا البلد وحدها، وليس كما هو الحال اليوم فقط 5 أو 6 نقاط أمنية متوزّعة، حيث كانت تخرج مظاهرات بين الأحياء تسمّى “مظاهرات طيارة” فقط للتأكيد على استمرارية الثورة في درعا البلد”.
اليوم درعا استُنزفَت بسبب تتالي العمليات العسكرية والحصار عليها، ويمكننا القول إنها مرضت ولكنها لم تَمُت، ومن الممكن أن تشهد فترة مشابهة لفترة ما بعد الاجتياح منتصف عام 2018 ومن بعدها، حيث بدأت المظاهرات بالخروج ورفض وجود النظام والاحتلالَين الروسي والإيراني ورفع قبضة النظام الأمنية.
ويتابع عمر: “كما أتوقع إذا استمرَّ النظام بممارسة الضغوط على محافظة درعا، سيكون هناك ردّات فعل من الأهالي، لأن درعا اليوم لو قبلت بهذا الاتفاق، إنما قبلته بسبب التهديدات الروسية، ولأنها فضّلت حقن الدماء والحفاظ على أبنائها من التغيير الديموغرافي، لكن في حال عاد النظام إلى التضييق على أهالي المدينة فسيكون هناك ردّات فعل من قبل الأهالي سواء بالتظاهر أو بنشاطات أخرى”.
أكّد أبو محمود الحوراني، الناطق الرسمي باسم تجمع أحرار حوران، أن الحالة الثورية بدرعا لن تنتهي أبدًا، وأن هذه النقاط الأمنية التي وُضعت مؤخرًا لن تؤثّر في المشهد بشيء.
ونوّه عمر إلى أن محافظة درعا هي ليست درعا البلد فقط، إنما هناك مناطق أخرى هي اليوم على حالها كانت تشهد مظاهرات مثل بصرى الشام ومناطق أخرى كثيرة في المحافظة، وإذا النظام استمرَّ بهذه الحملة العسكرية ربما نشهد حملة عسكرية على 40 منطقة أخرى وليس على درعا البلد لوحدها، على سبيل المثال بلدتا نوى وجاسم محاصرتان وتخرج فيهما المظاهرات بشكل مستمر.
من جانبه أكّد أبو محمود الحوراني، الناطق الرسمي باسم تجمع أحرار حوران، أن الحالة الثورية بدرعا لن تنتهي أبدًا، وأن هذه النقاط الأمنية التي وُضعت مؤخّرًا لن تؤثر في المشهد بشيء، ولن يختلف أي شيء بالنسبة إلى أهالي درعا.
حيث يقول الحوراني: “في المناسبات التي تخصّ الثورة أو لإخراج معتقل بسبب الخطف أو لأي توتر يحدث، كانت درعا البلد تفزع وتخرج بالمظاهرات، ولن يتوقف هذا الشيء بتنفيذ الاتفاق الأخير أبدًا، لذلك ستستمرّ الحالة الثورية بشكل متواصل في درعا البلد كونها رمز الثورة السورية، وهذه إحدى الإيجابيات التي خرجت بها درعا البلد من الاتفاق”.
هل وافقت لجنة درعا على وقف الأعمال الثورية؟
نشرت بعض الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، معلومات تفيد بموافقة لجنة المفاوضات عن درعا والعشائر، على بند يمنع أهالي درعا البلد من ممارسة حرية التعبير ورفع علم الثورة أو ترديد أي شعار ضدّ النظام أو كتابة أي عبارات على الجدران، تحت طائلة المسؤولية والتهديد بالاعتقال والملاحقات الأمنية.
ليتبيّن أن هناك لَبسًا في المفاهيم، فالبند المذكور مدرَج ضمن ورقة التسوية التي وقّع عليها الذين قاموا بإجراء التسوية، ولم تكن من البنود التي ذُكرت في الاتفاق الأخير المبرَم بين لجنة المفاوضات والنظام.
والبند نفسه كان موجودًا في أوراق التسوية التي جرَت منتصف عام 2018، ولم يغيَّر شيئًا على الأهالي، فكانت تقام المظاهرات والحراك الشعبي المطالِب برفع القبضة الأمنية وإخراج المعتقلين، وخروج الاحتلال الخارجي من سوريا.
هل انتصرت درعا؟
احتفى أبناء مدينة درعا بانتهاء “معركة الكرامة” بالنصر الذي تمثّل بمنع النظام من تهجيرهم من أرضهم، والحفاظ عليها من عمليات التغيير الديموغرافي التي تشرفُ عليها الميليشيات الإيرانية، وانسحاب الجيش من خطوط الاشتباك والعودة إلى الثكنات ودخول درعا البلد بشكل سلمي، ضمن اتفاقية ربما تكون نتائجها وازنَت بين الطرفَين، إلا أن أبناء المدينة يؤكّدون أنه نصر مشرّف انتزعوه.
وفي هذا السياق كتب المحامي عدنان مسالمة، عضو لجنة المفاوضات والناطق الرسمي باسمها، على صفحته في فيسبوك:
“في نصرِكم هذا … أنَرتم دربَ مجدٍ نادرَ المثيلِ..
بأفعالِ أيديكم الخيّرة … باتَ الحقُّ جليًّا..
بصمودِكم الجبّار … غيّرتم المسار..
لنعيشَ اليومَ نصرًا بكلّ تفاصيله..
درعا البلد..”
من الجدير بالذكر أن قوات النظام المتمركزة على تل جموع بين مدينة نوى وبلدة تسيل غربي درعا، قامت بقصف مباشر على منازل المدنيين في البلدة أدّى إلى سقوط جريح وأضرار مادية في منازل المدنيين، بعد انفجار عبوة بعناصر من اللواء 112 بين قريتَي نافعة والشبرق، أدّى إلى مقتل 7 منهم وجرح 3 آخرين.
كما قُتل الشاب أحمد فرج المحاميد بانفجار قذيفة هاون غير منفجرة، من مخلّفات قصف الفرقة الرابعة على أحياء درعا البلد خلال الأيام الماضية، كما قُتل حسام قدرو وأُصيب آخر كان برفقته، جرّاء استهدافهم بالرصاص من قبل المخابرات الجوية جنوب مدينة داعل بريف درعا.
أخيرًا.. انسحبت قوات النظام بشكل كامل من محورَي غرز ومزارع النخلة شرق وجنوب شرق مدينة درعا، وبشكل جزئي من مزارع الشياح جنوب مدينة درعا، وجرى فتح الحواجز العسكرية أمام عودة الأهالي النازحين إلى منازلهم وسُمح للسيارات بالعبور، في إطار تنفيذ بنود الاتفاق الذي أُبرم قبل أيام بين النظام وروسيا ولجنة التفاوض، ما قد يعني عودة الهدوء النسبي لمهد الثورة السورية.