تروِّج حكومة النظام لعودة الحياة التجارية والاقتصادية إلى طبيعتها في مدينة حلب شمالي البلاد، التي تشكّل العاصمة الاقتصادية السورية ما قبل اندلاع الثورة وتعرضها للتدمير بشكل مباشر من قبل طائرات نظام الأسد وروسيا، أثناء سيطرة المعارضة السورية على أجزاء كبيرة منها؛ لكن ما يروّجه نظام الأسد لا يعكس واقع المدينة المدمَّرة.
تُظهِرُ وسائل إعلام النظام سواء الرسمية أو أذرعها أو حتى الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، افتتاح نشاطات وفعاليات من بينها أسواق تجارية في مختلف أحياء حلب، بحضور مجلس المدينة وغرفة التجارة وبعض المسؤولين، حيث لا يمضي أسبوع دون تدشين فعالية تجارية، وكأن المدينة استعادت حياتها التجارية مجددًا.
فعليًّا يبدو العكس، فما يجري في حلب أشبه بحرب تجارية وبسط نفوذ بين ميليشيات متنوِّعة ومختلفة التوجُّهات، حيث فقدت حكومة النظام السوري السيطرة عليها لأن الميليشيات تتحكم بمختلف قرارات المؤسسات، في حين لم يتبقَّ للدولة إلا القليل من السلطة التي لا تمكّنها من إعادة تجّار حلب وتحسين اقتصاد الدولة المنهار.
تجّار حلب.. بين الضرائب وابتزاز الميليشيات
يعيشُ تجّار مدينة حلب، من أصحاب المحال التجارية والمنشآت الصناعية المنتشرة في مناطق شقيف والراموسة والشيخ نجار، تحت واقع مليء بالفوضى، حيث تفرض مؤسسات النظام من بينها لجنة التكليف الضريبي، ضرائب على المنشآت والمحال التجارية والصناعية في حلب، وتحيلها إلى الأجهزة الأمنية التابعة للنظام في حال رفض التاجر دفع الأموال المترتّبة عليه.
أكّد مصدر محلي خلال حديثه لموقع “نون بوست”، “أنه يتم فرض الضرائب من قبل لجنة التكليف الضريبي التي تقوم بالكشف على النشاط التجاري لتقييمه، والقوة التجارية التي يتمتع بها التاجر، بمعنى أن الضريبة ترتفع أو تنخفض بحسب أملاك التاجر”.
ويتعرض التجّار لعمليات ابتزاز مباشرة ومتكرِّرة من قبل ميليشيات تابعة للنظام في حلب، تحت ذريعة الوقوف إلى جانب الوطن بحسب زعمهم، لكنها فعليًّا لا تذهب إلى حكومة النظام لأن الميليشيات هي من تحصل على الأموال.
قال المحلِّل الاقتصادي يونس الكريم خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “إن المكتب السري المشكّل من وزارة المالية وإدارة الجمارك العامة، وأمن الدولة، يقوم بابتزاز التجّار وفرض ضرائب عليهم، لعدة أسباب منها: تأمين سيولة مالية للأجهزة الأمنية والآلة العسكرية من الإتاوات، ورفد خزينة الدولة بالأموال، وضبط حركة التجّار ومنع الاستيراد غير الرسمي”.
وأضاف: “المكتب السرّي، باستخدام سلاح التكليف الضريبي، يقوم بمساعدة القاطرجي وأسماء الأسد لخلق طبقة جديدة من التجّار موالية لهما، ويعمل على تبييض أموال أمراء الحرب من النظام كالقاطرجي وأبو علي خضور من خلال دفع العديد من التجّار لبيع أملاكهم وعقاراتهم لهما خوفًا من الحجز على أموالهم وحتى رميهم بالسجن”، مؤكّدًا “أن الملاحقة الأمنية للتجّار والصناعيين سيمنعهم من الاستيراد، وهذا سيخفّف الطلب على الدولار ويضبط سعر الصرف”.
واعتبر الكريم أن النظام لم يمنع التجّار من السفر، وقد يكلّفهم الكثير من الخسائر في أموالهم وتجارتهم، لأنهم في حال سافروا خارج البلاد فلن يستطيعوا تكوين تجارتهم من جديد، باعتبارهم من طبقة التجّار المتوسطة، لا سيما أن عقاراتهم داخل البلد تُباع بـ 30% من قيمتها الحقيقية بسبب كساد السوق، ومعظمها تُباع بالليرة السورية، ولن يستطيع التاجر ضمان بقاء أملاكه أو السفر بكامل أمواله.
إضراب واعتقالات
دفع استمرار فرض الضرائب وارتفاعها التجّار إلى تنفيذ إضراب وإغلاق المحال والمنشآت الصناعية نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي، احتجاجًا على القرارات وارتفاع فاتورة التكليف الضريبي بشكل كبير، قد تصل في بعض الأحيان إلى قيمة المنشأة نفسها.
وشنّت المخابرات الجوية وأمن الدولة حملة اعتقالات طالت عددًا من التجّار في مدينة حلب، على خلفية الإضراب الذي نفّذه التجّار عبر إغلاق محالهم ومعاملهم ومصانعهم جرّاء ابتزاز السلطات لهم.
وبحسب مراسل صحيفة “عنب بلدي” في حلب، فقط : “شملت الاعتقالات تجّار معامل خيوط ونسيج وبلاستيك، وصودرت مبالغ كانت داخل منازلهم، بالإضافة إلى مصادرة جوازات سفر استخرجها بعض التجّار لأفراد عائلاتهم، وذلك بهدف منعهم من السفر خارج مدينة حلب والتوجُّه إلى تركيا أو مصر”.
وطالت الاعتقالات أكثر من 21 تاجرًا من تجّار حلب كانوا قد حاولوا السفر خارج البلاد، وتمّت مصادرة مبالغ مالية من قبل جهات أمنية تابعة للنظام، وجوازات سفر لمنعهم من مغادرة البلاد.
مغادرة البلاد
وحول الموضوع، يقول الناشط الإعلامي من حلب، ممتاز أبو محمد، خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “تتركز الهجرة إلى مصر أو السودان، لأن التجّار لم يعد بإمكانهم البقاء في حلب، وما يؤكّد هذا الأمر الازدحام أمام مراكز الهجرة والجوازات، سواء في دمشق أو حلب”.
وأضاف: “هناك قوائم كبيرة تحتوي على أسماء العديد من تجّار السيارات والصرّافين، وتجّار قطع التبديل، ومراكز تجارة الحواسيب والموبايلات، من أجل مصادرة أموالهم، في ظلِّ حركة نزوح وهجرة رهيبة تشهدها مدينة حلب”.
وفي وقت سابق من شهر أغسطس/ آب الماضي، توفي رجل أعمال سوري يُدعى هشام دهمان، صاحب “شركة دهمان بلاست للمنتجات البلاستيكية”، نتيجة أزمة قلبية، بعد إغلاق شركته بشهرَين فقط، بسبب الضرائب المرتفعة التي فرضتها عليه لجنة التكليف الضريبي.
ومطلع سبتمبر/ أيلول الجاري، سافرَ مالك مجموعة فرزات للتنمية، محمود طلاس فرزات، إلى الأردن بعد ملاحقته من قبل النظام السوري، واعتقال عدد من إداريين معمل الزيت الذي يملكه في ريف مدينة حمص، وذلك عقب استلام حوالات مالية كبيرة من قبل أحد العاملين في مجموعة فرزات للتنمية، بالنيابة عنه.
ما دور إيران؟
اعتبر الناشط الإعلامي ممتاز في حديثه لـ”نون بوست”، “أن النظام يسعى إلى التخلص من أصحاب النشاط الأكبر، حتى يتم مَلء المكان بساكني حلب الجدد وهم الإيرانيين، واستلامهم الحركة التجارية، الأمر الذي سيدفع التجّار إلى بيع منشآتهم بأرخص ثمن، أو الرضوخ تحت سلطة إيران”.
ورأى “أن الهدف الإيراني يتمثل بالتوغُّل الاقتصادي، ومَلء الفراغ بالبضائع والمنتجات الإيرانية، بعد القضاء على منافسيهم من التجّار السوريين، من خلال التضييق عليهم وفرض ضرائب باهظة، ما سيمنعهم من متابعة عملهم التجاري والصناعي”.
وكانت قد افتتحت إيران قنصلية لها في حي المشهد في مدينة حلب، بحسب ما أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارته إلى دمشق في 12 مايو/ أيار الماضي، والتي تهدف إلى توسيع التعاون الاقتصادي والثقافي والتجاري بين البلدَين، وتسعى الآن إلى بناء جامعة في المنطقة ذاتها، وجعلها مركزًا رئيسيًّا للشيعة في مدينة حلب لانطلاق نشاطاتها سواء الدينية أو التجارية.
من جهته، يقول الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “تسعى إيران إلى التغلغل في اقتصاد حلب من خلال عدة وسائل، منها السيطرة الأمنية من خلال ميليشياتها المنتشرة في المحافظة، وبفرض ضغوط غير مباشرة على التجّار والصناعيين”.
وأضاف: “من غير المستبعَد أن تسعى لتهجيرهم والعمل على بناء استثمارات لها أو تمويل استثمارات سورية يكون لها فيها حصة كبرى، وهذا الأمر بالغ الخطورة على مستقبل الاقتصاد السوري، مع التأكيد على التبايُن الواضح بين مشروع النظام ومشروع إيران، حيث كلاهما يعمل لمشروع مختلف”.
لكن إلى ماذا يطمح النظام؟
يسعى النظام إلى دعم الصناعيين والتجّار والمستثمرين، وهو يدرك جيدًا أنهم أهم مقومات النهوض باقتصاده، الذي يشهد انهيارًا متواصلًا على عكس ما يتمّ ترويجه، وما يجري على أرض الواقع لا يعبّر عن آماله لأن الميليشيات والقوى الفاعلة على الأرض هي من تتحكم.
وحول هذا الموضوع يرى الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن النظام لا يسعى لتهجير التجّار، فهذا الأمر غير منطقي، ولكن على أرض الواقع يتمّ الضغط عليهم، وهذا ما يحتّم فهم جوهر الاختلاف بين ما هو مراد وما يحدث على الأرض.
وأوضح أن “النظام يعيش في منتهى الضعف، حيث لا يستطيع السيطرة على الميليشيات التي صنعها بيده، لأنها بالفعل قد خرجت عن سيطرته حيث باتت مناطق النظام أقرب لمبادئ عمل عصابات المافيات، فالأقوى هو من يفرض قوانينه، وغالبية القوى على الأرض تسعى لتحقيق أهدافها الشخصية، ويبدو أن بعض ممارسات هذه القوى تهدِّد النظام من خلال زيادة الاحتقان الشعبي ضده”.
هل استعادت حلب عافيتها التجارية؟
يواصل النظام الترويج للفعاليات التجارية النشطة في مدينة حلب، مثل “ليالي المدينة” و”سوق العيلة” و”بازار ريادة الأعمال”، بإشراف غرفة التجارة، لكن ما هي إلا إعلانات مزيّفة لا تمثّل الواقع السوداوي الذي تعيشه المدينة، من سيطرة ميليشيات متنوِّعة تعمل لصالح شخصيات دون الدولة، بحيث لا تثمر ولا تغني من جوع.
يعيش السوريون في مدينة حلب ظروفًا معيشية متردّية لا تخلو من ابتزاز السلطات سواء من الميليشيات أو الأفرع الأمنية.
يقول السيد عمر: “لا بد من الاعتراف أن النظام يسعى لإعادة الحياة الاقتصادية لبعض الأسواق لا سيما في حلب، لكن ممارسات الميليشيات تعارض توجُّه النظام، وفي الفترة السابقة بالفعل تمَّ إحداث خرق في الجمود الاقتصادي لكن الضغوط الممارَسة من قبل الميليشيات أجهضت كل محاولات الإنعاش”.
ويبدو أن استمرار الفشل محتّم ما لم يتم لجم الميليشيات، والنظام عاجز عن فرض سلطته عليها، وهنا من الممكن أن يستعين النظام بالحليف الروسي للسيطرة على الميليشيات، وهذا الأمر إن تمَّ سيعني مزيدًا من السيطرة الروسية والإيرانية على الاقتصاد السوري.
من جانبه، قال المحلل الاقتصادي يونس الكريم: “ترتبط عودة الحياة التجارية في حلب بعدة عوامل يجب التركيز عليها، أولها الكهرباء والمحروقات والماء، والقدرة على استخدام الدولار في عمليات الاستيراد، وتخفيف قبضة الميليشيات، إلى جانب استقرار المناطق الخارجة عن سيطرة النظام الواقعة تحت سيطرة “قسد” والمعارضة بريف حلب، ونقصان أحد هذه المقومات لن يحيي الحركة التجارية في حلب مجددًا”.
ويعيش السوريون في مدينة حلب ظروفًا معيشية متردّية لا تخلو من ابتزاز السلطات سواء من الميليشيات أو الأفرع الأمنية، لا سيما في فرض الضرائب والإتاوات التي تطالُ مختلف المحال التجارية والصناعية، مع التضييق على التجّار دون مبررات منطقية من مجلس المحافظة، الذي يقتصر عمله على تقديم بعض الخدمات والفعاليات، بينما يبدو النظام عاجزًا بشكل فعلي عن النهوض من أزمته حتى لو كانت على حساب أصحاب رؤوس الأموال ممّن يعوَّل عليهم.