نوثّق اليوم عالمنا والمدن التي نعيش فيها أو حتى البعيدة عنا من أبنية وطرق وأناس وتفاعل اجتماعي وحكايات ونشاطات وأحداث صغيرة جدًّا أو عظيمة، عبر هواتفنا وعيون العدسات والأقمار الصناعية، ولكن كل ذلك لم يكن متاحًا قبل قرن ونصف من الزمان، وكانت معرفة البلاد وأحوال الناس يتطلبُ سفرًا واطّلاعًا ومعاينة، لذلك كان الشغف بمعرفة البلدان واستكشافها هاجسًا ومطلبًا إنسانيًّا مستمرًّا، فولّد لدينا ذلك الهاجس جهدًا توثيقيًّا عندما قامَ بعض الرحّالة المستكشفين بكتابة رحلاتهم، لينتج عن ذلك أدب مستقلّ قائم بذاته نطلق عليه اليوم “أدب الرحلات”.
مثّلَ الرحّالة وأدبهم عدسات الزمن القديم التي صوّروا لنا عيرها تجاربهم وما صادفهم في المدن والبلدان، وما شاهدوه كشهود عيان، ولذلك يُعتبَر ما أنتجه الرحّالة من كُتُب من أهم المصادر في علوم الجغرافيا والتاريخ والاجتماع، وتُعتبَر تجربة قراءة أدب الرحلات غنية وممتعة لما تحتويه من استسقاء للمعلومات والحقائق الحية، التي شاهدها الرحّالة ووقف عليها وصوّرها بشكل مباشر بقلمه، ما يجعل مطالعة تاريخ المدن لا يمكن أن ينفصل عن مطالعة من مرَّ بها من الرحّالة وما كتبَ فيها وعنها، وما وثّقَ بعدسة قلمه ما شاهده كحقيقة في جغرافية المكان والزمان وأحوال الناس.
في ملف “الرحّالة” أصطحبكم برحلة المتجوِّل المستكشِف المتعلِّم برفقة أبو زيد السيرافي وابن وهب القرشي للصين، ثم نخرج برفقة سلام الترجمان لجبال القوقاز بحثًا عن سدّ يأجوج ومأجوج، ونتجول في مروج الذهب مع المسعودي، وننطلق من الأندلس بصحبة الإدريسي.
ونطوف المشرق بـ 3 رحلات مع ابن جبير، ثم نغرّب صوب الأطلسي مع لسان الدين بن الخطيب في كتابَيه “خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف” و”نفاضة الجراب في علالة الاغتراب”، ونختم مع أمير الرحّالة المسلمين محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، الشهير بابن بطوطة.
قد يستنكر البعض استرجاع طرح قصص الرحّالة ومغامراتهم وما وثّقوا لنا، في زمن يُعتبَر بحقٍّ أعظم عصور الترحال والسفر، نظرًا إلى التطور الكبير في التكنولوجيا الذي ولّد التسهيلات الهائلة التي حدثت بحيث أصبح السفر جزءًا من الحياة العادية للرجل العادي، والسياحة بمفهومها الحالي أصبحت بعكس ما كانت عليه في أي زمان مضى.
الرحّالة الأوائل كانوا مؤرِّخين وجغرافيين ومكتشفين، بالإضافة إلى كونهم أدباء يمتلكون قدرة عالية على الوصف والتوثيق الدقيق بلغة عالية وأسلوب سلس.
فكتابات هؤلاء تكشفُ عن درجة عالية من القدرة على الملاحظة الدقيقة والتحليل الشافي، كما سنلاحظ في المقالات القادمة من ملف “الرحّالة”، التي سنسوق فيها بديع وصف الرحّالة وقوة ملاحظاتهم وعميق فهمهم للمظاهر في المجتمعات التي زاروها والمدن التي دخلوها والبلدان التي حلّوا بأرضها، وهذا مخلتف جدًّا عن مفهوم السياحة الحديثة المعتمدة على المشاهدات البسيطة والسطحية في غالبها، ما يجعلنا ندرك أهمية هذا اللون من ألوان الأدب ونحاول أن نستقي منهم الدروس لتكون رحلاتنا الحديثة امتدادًا للرحلات القديمة القيّمة، لنستقي منها المعرفة الحقيقية ونعزّز قدرتنا على الملاحظة والفهم والاستنتاج، لتكون سياحتنا عملًا متفرّدًا يغني ثقافتنا ويعزز فهمنا للأرض ومن عليها.
ينقل لنا رحّالة اليوم تجاربهم عبر زيارة البلدان وتوثيقها بعدسات عالية الدقة، وبفنون بارعة في التصوير، لا سيما بعد دخول “الدرون” والطائرات المسيرة هذا المجال، فضلًا عن تقنيات الصورة ذات الـ360 درجة، لاستكشاف الأماكن السياحية والترفيهية والمناظر الخلّابة وتذوُّق الطعام.
لكننا نحتاج إلى عمق أكبر لرحلات تنظرُ في المجتمعات لتفهم تفاعلاتها وتنقل لنا التجارب الإنسانية بكافة أبعادها، كما نقلَ لنا ابن خلدون نظرته للمجتمعات التي زارها بنظرة توثيقية فريدة، وأتحفنا رافع الطهطاوي في تلخيص رحلته لباريس بكتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” ليوثِّق لنا من خلالها مظاهر النهضة الأوروبية مع نقد أنيق لأسلوب الحياة فيها بقلم أدبي رفيع، ودرسَ ابن بطوطة الألبسة بألوانها وأشكالها وحيويتها ودلالتها ونقلها في كتابة الشهير “تُحفة النُّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”.
فيما اختار بعض الرحّالة نوعًا مميزًا من الرحلات، مثل حمد الجاسر الذي سجّل رحلاته من مكتبات أوروبا بحثًا عن المخطوطات المتصلة بالجزيرة العربية، وسردَ أسماء العديد من المخطوطات ومحتوياتها وآراءه عنها، مع سرد لبعض النوادر والمواقف التي تدخل بهذه الرحلات مجال الأدب الشائق الطريف.
ختامًا، إن هذا الملف هو دعوة للرحّالة الجدد أن تكون رحلاتهم امتدادًا معرفيًّا للرحّالة الأوائل، وأن ينقلوا لنا التجارب بأبعادها المختلفة ويمنحونا بجانب الترفيه والمتعة جرعةً معرفية تزيد من وعينا بالأرض ومن عليها من شعوب ومجتمعات.